الخميس، 28 فبراير 2013

الإحساس بالجمال .. و نعمة التذوّق .!!


الإحساس بالجمال .. و نعمة التذوّق .!!
 بقلم بشير خلف
       الإحساس بالجمال ، والميل نحوه مسألة فطرية متجذرة تحيا في أعماق النفس البشرية ؛ فالنفس الإنسانية السويّة تميل إلى الجمال ، وتشتاق إليه ، وتنفر من القبح وتنأى عنه بعيدا . إن الطبيعة الإنسانية تنجذب إلى كل ما هو جميل ؛ وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " إنّ الله جميلٌ يحبّ الجمال " . والإحساس بالجمال والوله به ، والاعتناء به ، واقتناء الأشياء الجميلة قد يقوم بها الإنسان تلقائيا بفعل ذاك الميل الفطري المتجذّر في أعماق النفس … شاء الله سبحانه وتعالى المبدع البديع الخالق أن يجعل من الجمال في شتّى صُوره مَـناطَ رضا وسعادة لدى الإنسان .
     إن استصاغة الجمال حقٌّ مُشاعٌ لكلّ إنسان ، والأكيد أن تذوّق الجمال والتمتع به يختلف بين فرد وآخر ،ومن أمة إلى أخرى ، ومن عصر إلى آخر ، لكنه اختلاف محدود قد يمسّ جانبا من الجوانب ، أو عنصرا من العناصر التي تشكّل القيمة الجمالية . جوْهر الجمال ..!
     كيف نعرّف الجمال ؟ وكيف نحدّد جوهره وأسسه الموضوعية ؟ فهل الجمال كل ما ترتاح إليه عينا الإنسان ؟ هل هو كل ما يعجبنا ويفرحنا ويشدّنا إليه ، وما يثير إعجابنا ؟ أم ذاك لا يكفي لتعريف الجمال وتحديد جوهره الحقيقي السامي ..ربما يُخفي " الجمال الظاهري" الذي تراه العينان القبح والبشاعة .. وننطلق من الطبيعة فهي نبْعُ الجمال الفيّاض … الذي لا يجفّ ، فإذا جفّ هذا النبع لا يندثر الجمال فحسب ، إنما تفنى الحياة وتموت الكائنات كلها ..أي لا حياة إذا ماتت الطبيعة ، فالحياة مرتبطة بالطبيعة ، والجمال مرتبطٌ بالطبيعة . تُشبع الطبيعة حاجة الإنسان للجمال ، وتُنمّي لديه شعوره به الذي يرتبط بالميل نحْو الطبيعة ، لأننا كبشر نشعر في تنوّع موضوعاتها ، وثرائها بما يُـمْتع أبصارنا ويبعث الراحة في جوانحنا بما تُمثّله من شفافية وطُهْرٍ ونقاء ، فنحن نستمتع بتعدّد ألوان أوراق الشجر ، وبدقة نظامها البنائي ، وبالانسجام العجيب والعلاقات بين خطوطها ، والتي تتّصف بالرشاقة والنقاء .. من ذاك نعثر في الطبيعة على معايير التناسق والتوازن ، وعلى تجسيدات الثراء اللوني ، والإحساس بالرحابة المكانية ، وبالصفاء الضوئي ، وبتناغمات الكائنات في هذه الطبيعة .
        والحقيقة أن إعجاب الإنسان بجمال اللون والْـوَلَـه به ، يتجلّى على سبيل المثال في ألوان ريش الطاووس والتناسق في تمدّده ، وخُيلاء الطاووس لمّا يتحرّك ..وكذلك إحساسنا بالرضا والارتياح ونحن نتملّى الجو المشبع باللون في منظر غروب الشمس ، وانبهارنا بالنضارة اللونية في شروقها ، كلّ ذلك يرجع إلى كوْن الإحساس باللون هو من أكثر أنواع الشعور بالجمال شيوعا بين بني البشر، وأشدّهم جذبا. للألوان تأثيرٌ عميقٌ في دواخل النفوس ، فتظهر بهيئة ملموسة ساحرة تارة تُحفّز أغلب الناس محرّكة فيهم الذوق الجمالي المتماشي مع كلّ إنسان ، وتارة أخرى بنفس إيماني ، وروحانيات ، واعتقادات تتداخل في كنف الدين والأعراف ، وحتى الأسطورة لدى بعض الشعوب …إن اللون هو صفةٌ للنور والضوْء ، وأن للنور السماوي الآتي من الشمس قدسية وحظوة يكتسيها في جلّ المعتقدات .
        في العقيدة الإسلامية جاءت دلالات اللون تعبيرية أو رمزية أو حسّية أو جمالية ، وارتبط اللون بمصدرين جوهريين : أولهما ، النور القادم من السماء المقترن بالخالق الأعلى ، فهو ( نور الله ) سبحانه وتعالى ، أو ( نور القلوب ) بما يعنيه الإيمان المنوِّر لدواخل النفس المظلمة ..وثمّة تداخلٌ لغوي ذو دلالات بين كلمتي " ظلمة " و " ظلم " المقترن بقُبْح الظلم والطغيان المنافي لجمال العدل ، وهكذا فكل انحراف واختلال هو قُبْح لأنه ابتعادٌ عن الجمال الواجب اقترانه بإرادة الله ؛ وبذلك فإن اللون وجماله يقترن مع وجود الضياء ، ثم يتداخل المفهوم مع العدل والقسطاس الإلهي . وأصبح الأسود المظلم لدى أغلب شعوب الأرض رمزا للحزن ، والألوان المشعّة الفاتحة دليلا على الحبور والمسرّة في الأعراف الشعبية .

                              العين منْفذ المشاهدة
ثاني الحوافز المرتبطة باللون والتي تؤدي إلى التذوق الجمالي،هي العين كأداةٍ جاسّة للنور واللون .والعين ذكرها الله في مُجمل نعمه على الناس ..ناهيك عن اعتبار اختلاف الألوان في ناموس الطبيعة والخَلْق في حدّ ذاته معجزة ربّانية تدعو الانتباه ، وإن تكريسها ما كان ولم يكن عبثا ، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ) (فاطر:27) و: (من الآية28 ).
       قد يطرح القارئ السؤال التالي وما علاقة الألوان بالجمال وتذوّقه ؟ وأيّ الألوان أجمل ؟ وهذا بطبيعة الحال يجرّنا إلى أقوال بعض علماء النفس الذين من بينهم العالم النفساني الألماني " فشنر " إذْ يقول : ( صحيحٌ أن اللون الأحمر جميلٌ إذا ظهر على وجْـنة الفتاة ، ولكنه ليس جميلا إذا برز في أرنبة الأنف .) وهكذا نحسّ بجمال اللون من خلال مضمونه وأهميته ، وبذلك تكون نظرتنا إلى وهَج الغسق الأحمر مختلفة عن احمرار الوجه البشري . كما أن للطبيعة المحيطة وصورة الكون حضورُهما في المدى الفلسفي للألوان ، فالأزرق يلْقى الحظوة لارتباطه بالسماء ولوّن الماء الذي هو جوهر الحياة : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُـلَّ شـْيءٍ حَيٍّ ) . واللون الأخضر يرمز إلى الأمل والخصوبة والخلود المرتبطة أساسا مع بُعْدي اللونين المكوّنين له وهما الأزرق الدّالّ على الماضي والأصفر الدّالّ على المستقبل ، وما يعاكسهما في ذلك والذي يمثّل الزمن الحاضر فيبدو احمر اللون .

 أساسيات ..للتذوّق الجمالي
يقفز أمامنا والحالة هذه سؤال مهمٌّ : هل كلُّ كائن قادر على تذوّق الجمال والإحساس به ، والتعرّف على الجمال الحقيقي الأصيل ؟ أم أن الإحساس بالجمال والتعرّف عليه يحتاج إلى طاقة وقدرات ، وملكات رفيعة ، بل وخبرة ومستوى معرفي معيّن .. ونعتقد كما يعتقد العديد من ذوي الخبرة والاختصاص ،أن ليس كل إنسان يملك القدرة لاستيعاب وإدراك الجمال . تذوّق الجمال في رأينا يحتاج منّا :
 1. ـ إلى عقْلٍ نشطٍ ناضج ، فالعقل الخامل الذي تغلب عليه البلادة ، وتطغى عليه الغرائز والنوازع البهيمية لا يملك القدرة على العثور على الجمال ، ولا التعرّف على ميزات الجمال ، ومن ثمّ الإحساس به ، وتحديد جوهره ، وتذوّقه والتنعّم به .
 2. ـ إلى قلْب مُحبٍّ ، فالمحبة هي التي تنير الطريق على مَواطن الجمال والتوقف عندها والتأثر بها .
 3. ـ إلى عين نشطة ومشاعر مرهفة حسّاسة ، فالإنسان الذي اعتاد أن يقضي حياته بين جدران أربعة ، لا يدرك جمال نهر تعانقه المروج والبساتين ، والذي لا يرى من الحياة غير وجهها الحالك ، لا يدرك الجمال ولا يعيه البتّة ، والنفس التي ترى من الحياة غير جانبها المادّي وقد صارت عبدا مملوكا للمال ، لعمري فالجمال تراه إلاّ فيما يُضاف كل يوم لها من عقارات وأوراق نقدية .
 4. إلى نفس طيّبة ، متّزنة ، سويّة ، متسامحة ترى الوجود كله جميلا .. إلى أخلاق رفيعة سامية..نفس تنطوي على الخير والحبّ والجمال ، والفضيلة ، غير ميّالة للقبح والبشاعة في أذى الغير ..نفس طيّبة تعتقد الطيبة في غيرها .
 5. ـ إلى خبرة بالحياة ومكوناتها ، وإلى إدراك للوجود ، وإلى قناعة بالموازنة بين الجانب الروحي ، والجانب المادّي ، وبين الجانب الحسّي والجانب المعنوي.
 إن الجمال يلبّي ويروي لنا حاجة إنسانية سامية ، وعلينا هنا أن نميّز بين الحاجات الإنسانية السامية للإنسان وبين الحاجات الوضيعة ، وإدراك قيمة الشيء معناه معرفته ، على سبيل المثال إذا لم ندرك ونقدّر ونعرف قيمة الوطن ، فهل يمكن أن نشعر بجمال الوطن ؟ قد نختلف حول العديد من القضايا ؛ إلا أننا لا يمكن أن نختلف حول الوطن الذي نعتبره أسمى وأرقى وأنبل مراتب الجمال .
 الإنسان هو الوحيد من بين الكائنات قادرٌ على التطوّر ..قادر على استكمال ميزاته الإنسانية التي تُميّزه عن باقي الكائنات ، لأنه يملك العقل والإرادة ..الإنسان يملك غرائز نبيلة سامية نافعة ، ويملك بالمقابل غرائز عدوانية وحشية مخرّبة ضارّة ..إلاّ أن نزعة الخير موجودة أصلا فيه ..والجمال قادر على إبرازها وتوظيفها في سبيل الخير . والإنسان هو الوحيد من بين الكائنات كلّها ، قادرٌ على مجاراة الطبيعة التي هي نبْعُ الجمال ، في أن يكون جميلا ، وهو القادر على حماية الطبيعة لتكون مصدر قوّته وإلهامه ..بإمكانه أن يرفد ينابيع الجمال فيها ؛ وقدرته هذه تنبع من طموحاته وأحلامه .. فطموحات الإنسان وأحلامه تعبّر أيضا عن جانبٍ مهمٍّ للكشف عن القيم الجمالية ، والتواصل معها ، وتعبّر عن جانب مهمٍّ من طموح الإنسان وسعْيه ، واجتهاده لكي يكون جميلا .
 القيم الجمالية غذاءٌ للروح ..حُرم منها الكثيرُ إن القيم الجمالية هي غذاء الروح ، وغذاء الروح لا يقلّ أهمية عن الغذاء المادّي للإنسان ؛ إنْ لم نقل : إن الغذاء الروحي أكثر وأشدّ أهمية من الغذاء الطبيعي المادّي للإنسان ..ونعني بالغذاء الروحي ، كل ما يساعدنا على أن يبقى عالمنا جميلا يسرّ العين والروح ، ويقي الجسد .
 ويشكل الموقف من القيم الجمالية ، والإبداع الجمالي ، والتعامل مع الجمال بُعْدا أساسيا في الحضارة الإنسانية ..فالحضارة التي تخلو من الجمال ، وتنتفي وسائل التعبير عنه فيها ، وتنعدم صناعة موضوعاته فيها ، لهي حضارة متخلفة ، لا تتجاوب مع مشاعر الإنسان ، ولا تلبّي أشواقه النفسية ونزعته الفطرية إلى الخير والحقّ والجمال ، ولا تعبّر في الآن نفسه عن إنسانيته .
                        
                             الجمال في حياة الإنسان
قد لعب الجمال والفن بمعناه الواسع دورا كبيرا في حياة الإنسان ، إذْ كان وما يزال مظهرا من مظاهر تميّز الإنسان العاقل عن باقي المخلوقات ، ووسيلة تعبير هذا الإنسان عمّا يحسّه من مشاعر وانفعالات ، وكلما ارتفع مستوى هذا التعبير ، ارتفع معه مستوى هذا الإنسان ، ومستوى الحضارة التي يعيش فيها . إن المجتمع الذي يُعنى بالفن والجمال ، هو مجتمعٌ يستطيع أن يحافظ على توازنه وترابطه ، ويسمو بأفراده إلى مراتب تساعدهم على الوئام مع محيطهم ، والحرص على تحسين واقعهم ..مجتمع يرتفع بأفراده فوق مستوى الحياة العادية ، ويمنحهم خبْرات إيجابية ، ويشحنهم بطاقات روحية يسْمون بها فوق الروتين اليومي ، فيحقّقون ذواتهم أفرادا ومجتمعا .
 يقول المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود :
 " الإنسان العادي من جمهور الناس ، إذا عرف في حياته الجارية كيف يفرّق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحيط به من أشياء ، فإنه في معرفته تلك ، يظلّ بعيدا أشدّ البعد عن القدرة على بيان الأسس التي إذا توافرت في شيء ما ، كان ذلك الشيء جميلا ، وإذا غابت عن شيء ما ، كان ذلك الشيء مسلوب الجمال ، بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس ، وقد يحدث هنا أن يتصدّى للمشكلة مفكر موهوب في عمق التفكير ودقّته ، فيتناول هذه التفرقة بين الجمال والقبح ، حتى يصوغ أسسها ومبادئها وشروطها ، وعندئذ يُقال عن مثل هذا المفكر : إنه فيلسوفٌ ، كما يقال عمّا يكتبه في هذا الموضوع : " إنه فلسفة الجمال " ولنلحظْ هنا أن عملية النقد في مجال الفن والأدب ، إنما هي فرْعٌ يتفرّع عن فلسفة الجمال ، ولذلك فقد يختلف النقاد في الأساس الذي يقيمون عليه نقدهم ، باختلافهم في المذهب الفلسفي الذي يناصرونه "
 يطرح بعد ذلك الدكتور زكي نجيب محمود عدة أسئلة حول فهم الناس للجمال ، فإذا هم اتفقوا حول الفهم وربّما حتى التعريف ، فإنهم تأكيدا سيختلفون في التفسير والتعليل ، وما هو المقياس الذي يجعل ذلك الشيء قبيحا وهذا جميلا : (( … قد تلتقي أنظار الناس جميعا على الشيء الجميل فتتفق على جماله ، ثم يبدأ اختلاف الرأي فيما بينهم حين يبدؤون في التفسير والتعليل ، فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله في أعين الناس جميلا ؟ أهو ـ في نهاية التحليل ـ ما به ممّا ينفع الناس في حياتهم الكاملة ؟ أم هو صورة بنائه وتكوينه ، بغضّ النظر عمّا ينفع وما لا ينفع ، أم هو شيء غير هذا وذاك ؟ )) .
 ويربط المرحوم الدكتور نجيب محمود تذوّقنا للجمال بالجانب الروحي المتأصّل فينا والمستمد من عالم الروح ، وما نصفه بالقبح يتنافر مع ذلك ؛ فيرى أن الجمال في الأشياء الجميلة ما هي إلاّ صفةٌ ندركها ، فندرك أن بينها وبين الجانب الروحي فينا شيئا من حيث الجوهر ؛ وعلى عكس ذلك الشيء الذي نصفه بالقبح ، إنما هو شيء يحمل صفة تتنافر مع حقيقة أرواحنا ، فالأشياء الجميلة تُذكّر الروح فينا بطبيعتها الروحانية ، وذلك لأن هذه الأشياء الجميلة كلها تشترك في " الصورة " المستمدة من عالم الروح ، وإذا ما خلا شيء من تلك الصورة كان قبيحا . المقاييس الحسّية وحدها تُجرّد الجمالَ جوهره السّاميَ ومن الخطإ أن نعتقد أن للجمال مقاييسه الحسية وحدها ، تلك التي تقع عليها العين ، أو تسمعها الأذن ، أو يشمها الأنف ، أو يتذوقها اللسان ، أو تتحرك بها لمسات الأطراف العصبية … فالجمال مادة وروح ، وإحساس وشعورٌ ، وعقل ووجدان ، فإذا التقى فلاسفة الجمال في بعض الجوانب أو العناصر ، فستظلّ هناك في عالم الجمال مناطق يعجز الفكر الفلسفي عن إدراك كنهها ، والوصول إلى أبعادها . فليس العقل وحده هو القوة القادرة على استكناه كل أسرار الوجود وما خفي فيه ، ولحكمة يقول الله تعالى في كتابه العزيز ( …فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.) (الحج: من الآية46)
 وبعيدا عن الفلسفة وأهلها ، فالإنسان العادي السوي مثلما يشاهد الجمال في عالم الطبيعة يشاهده ويتذوّقه في الأشياء الجميلة التي يقتنيها ، ويلحظه في الإبداع الفني الذي يصنعه الإنسان كالعمارة التي يبدع فيها المهندسون والبنّاؤون ، والطرق الفسيحة التي تحاذيها من الجانبين مساحات ظللتها أشجار وارفة وزخرفتها زهور وورود تفوح عطرا ، وساحات بديعة ,ومساجد تألقت بعمارتها الإسلامية المميزة ، كما أن الإنسان السوي يشاهد الجمال وينعم به في اللوحة الفنية ، الملابس الزاهية ، ترتيب غُرف المنزل ، الكُتب المزخرفة ، الخط ، ترتيل القرآن الكريم ، الزخارف والنقوش ، في الأواني والأبنية والفُرُش والزرابي ، في الإيقاع الموسيقي الأصيل والصوت الشجيّ ، والوزن الشعري العذب ، في الكلام الحسن ، في الحوار الهادئ ، في الاحترام المتبادل ، في فنّ الإصغاء للغير ، في حُسْن التعامل مع الجار ، مع الأصدقاء ، في صلة الرحم ، مع الزملاء في العمل ، في آداب الأكل ، في سلوك النظافة في داخل المنزل وخارجه ، في الحفاظ على البيئة .

                            الجمال نعمةٌ ربّانيّةٌ
وكما نشاهد الجمال ونتذوقه في الإبداع الذي يصنعه غيرنا ونصنعه نحن أيضا ، فإن موضوعات الجمال التي كرّم الله بها عباده في الطبيعة أفسحُ وأجملُ وأكثرُ جاذبية ؛ حيث يغمرنا الجمال في عالم الأزهار والطيور وسفوح الجبال ، وجداول الأنهار ، وشلالات المياه المنحدرة ، وكثبان الرمال الذهبية ،والنخيل الباسق ، ، ومغيب الشمس ، وفي شكل الإنسان الذي قال الخالق عزّ وعلا في شأن تكريمه : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:70) وقال أيضا : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) .. كما نسْعد بالجمال ونحن نتذوقه في سماء الليل الصافية ، وفي النجوم المتلألئة ، والقمر وهو يغمر الكون بضيائه ..نتذوّق الجمال في الغيمة ، في قوس قزح ، في الضباب وهو يدثّـرُ ما حولنا بغُلالة شفافة منعشة ، نتذوقه في نزول الغيث وتجمُّع قطراته وهي تنساب والأرض تتشرّبها في نشوة ..الجمال نتذوّقه في عيون الضباء ، وفي عيون المها وابتسامات الأطفال ، في ألوان الأسماك وشاطئ البحر ورماله الذهبية ، وأمواجه ..في حقول الزرع المترامية ، في السنابل الناضجة وهي متمايلة بما حملت من ثمار الخير ..في الخضار بألوانها المختلفة ..في الأشجار المثمرة وتدلّي الثمار بألوانها وأشكالها يانعة شهية في عراجين النخلة وهي مدلاّة ، مثقلة بحبات التمر في لونها الذهبي الرائق الشفاف ..وفي الأزهار بألوانها وأريجها .. وفي ملكها الورد بدون منازع ..ولدى الإنسان العامل وقد أبدع وأجاد وأتقن ، لدى الموظف وقد أخلص ، لدى البائع وقد أحسن عرْض بضاعته واستقبل الزبون باشّا وكان رحيما في تسعيرة بضائعه ، ولدى … ولدى ..ولدى ..

                              مواطن الجمال ..تعدّدت
مواطن الجمال .. تعدّدت وتنوّعت عموما ، فالجمال قد يكون متعلقا بالإنسان ، أو الحيوان ، أو النبات ، أو الصخور ، أو الجبال ، أو البحار ، أو السماء ، أو حتى السحب وتشكيلاتها ، تهاطل الأمطار ، تساقط الثلوج ، أو التعبير الإنساني خاصة في الفنون المختلفة ، وقد يكون مرتبطا بالجانب المادي ، أو الحسّي ، وقد يكون متعلقا بالجانب العقلي أو المعرفي ، أو التأمّلي قد يتمثّل في حالات صامتة ، أو حالات متحرّكة ، أو في مزيجٍ من الصمت والحركة ، وقد يكون في وجْهٍ جميل ، أو جسد جميل ، أو مسرحية جميلة ، أو مقطوعة موسيقية جميلة ، أو فيلم جميل ، أو لوحة فنية جميلة ، أو حديقة طبيعية جميلة لم تطلها أيدي البشر ، أو حديقة أخرى تولاّها الإنسان بالرعاية والاهتمام .
 اختلافات هائلة بين تكوينات وحالات الجمال وتنويعاته ، فوصفنا العام لها بالجميلة إلاّ لكونها تثيرنا وتبعث المتعة والراحة في نفوسنا ؛ حيث يوجد الجمال في جميع مظاهر الحياة ، في الطبيعة والمباني والبشر والفنون واللغة … كما يوجد في العلوم ، فالفيزيائي ريتشارد فينمان يرى بأن " المرْء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها " ويعلن فيزيائي آخر بقوله : " إن الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهمّ مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح "
 كـلٌّ تلك موضوعات تجسّد الجمال ، بل الطبيعة بأسرها لوحة فنية تفيض بالحسن والجمال ، والنفوس السوية تثير لديها الإعجاب ، وتتفاعل معها روحيا ، إذْ تتحوّل لديها شعرا ، أنشودة ، عبادة وإجلالا وتسبيحا وتعظيما لمبدع هذه الطبيعة وخالقها
 أين نحن من هذا العطاء الربّاني ؟ هل نحسّ بهذا الجمال الفياض في سلوكنا اليومي ؟ هل نتذوق القليل أو الكثير في يومياتنا وليالينا ؟ …هي أسئلة مطروحة علينا أفرادا وجماعات ، ولا أعتقد أننا نجهل واقعنا وسلوكنا الذي يجهل في أغلب الحالات كُنه الجمال ومفهومه ، ومعاداتنا لكل ما هو جميل ، وإنْ جَهِـلْنا التذوقَ الجماليَّ فإننا في نفس الوقت نترفع عن تعلّم التذوق الجمالي ونرى بأنه من الصغائر التي ننزل إليها ، والبعض يراه أنه من الضعف والدونية .. نحن أغلبنا معطوبٌ من الداخل. لكن كيف السبيل إلى إصلاح هذا العطب ؟ الجمال يحيط بنا من كل جانب .. وسرّ الجمال يتمثّل في القدرة الإلهية التي خلقت وأبدعت ، لكننا نفتقر إلى استشعار هذا الجمال ، لأن ذاك يحتاج إلى تنشئة وتربية تستمرّ مع الإنسان ولا تتوقّف عند مرحلة محدودة من العمر ؛ فالشخص الذي يتعوّد على تناول الأشياء من زواياها النفعية ، تأكيدا لا يرى فيها جمالا ، لأن الأشياء في نظره لها مدلولات مادية حسّية ، إذْ هو يرى البرتقال ليأكله ، وينظر إلى المقعد ليستريح عليه ، ويركب السيارة لتُسْرع في نقْله من مكان إلى آخر ؛ لكنه حينما يبحث عن شكْل البرتقال ولونه ، وملامس سطوحه ، وكيانه الكُلّي ، ويعجب بهيئته حين يقارنها بفاكهة أخرى ، فإن إعجابه وسروره في هذه الحالة يؤدّي له وظيفة أخرى ..هي الاستمتاع والتذوّق ..وهكذا في بقية الأشياء القبْح عـمَّ ..هلاّ الْتفتنا إلى تربية تكون الجمالية في صدارتها !! إن الإيمان بالجمال والعمل على تنميته ملكاته ، وغرْس الميول المختلفة المساعدة على الذوق الرفيع لدى أبنائنا شيءٌ حيويٌّ وضروريٌّ لتنشئة أجيال تتذوّق الحياة بروحٍ ملْؤها المرح والبهجة والسرور .إن الطفل الذي ينشأ على حُبّ الجمال ، ويتعوّد مشاهدته ، ومعايشته داخل أسرته نظراً وسمْعا وعلاقات ، وأسلوب حياة هو طفلٌ سعيدٌ ، مستبشرٌ ، مطمئنٌّ ، هادئ النفس ، متحرّر من العُقد النفسية ، رقيق الطبع والذوق ، قادر على الحبّ والعطاء ، قادر على ولوج معترك الحياة بثقة . والنفس البشرية لا يمكن أن ترقى بأحاسيسها السامية ، وتنهض بمستوياتها الوجدانية والفكرية ، إلاّ من خلال البحث عن الجمال ومَوَاطنه ، وتذوّقه ..فالجمال يهذّب النفس ، ويُدخل عليها الطمأنينة والسرور ، ويخفّف عنها حِدّة التوتّر والقلق ، والشعور بالاكتئاب والتشاؤم ..وما أحوجنا إلى ذلك في عصْر سيطر فيه الخوف والقلق والتوتر والتشاؤم المستمرّ . التعامل مع كلّ ما هو جميلٌ يجعل الدنيا مشرقة في أعْيننا بصفة دائمة ، ويُزيل عنّا الهمّ والحزن والملل والضيق ، ويُخفّف من أعباء الحياة علينا ..هذا الجمال لا يحتاج إلى قدرة مادية ، أو نمطٍ خاصٍّ ، أو أسلوب معيشي معيّن ، وإنما هو أسلوب حياة أساسه الحدبث النبوي الشريف : ( اللّهمّ إنّي أسألك نفْسًا مطمئنّةً تُؤمن بلقائكَ وترضى بقضائكَ وتقنع بعطائكَ .)
 صُور الجمال في الكون والحياة ، دليل على قدرة الله تعالى وعظمته وحكمته ، والقيم العليا في الديانات السماوية ، سيّـما في الدين الإسلامي الحنيف ، ترمز إلى نواحٍ جمالية مثلى ، لأنها ينبوع السعادة الحقيقية المتمثلة في الحق والخير والجمال ، للبشر في كل زمان ومكان ، فالخير والفضيلة ، والحب والصدق ، والعدل والرحمة ، والتآخي والبرّ ، والطهر والعفاف ، وغيرها من الصفات والسلوكات الإنسانية الحميدة التي تبعث في النفس الطمأنينة والأمن والأمان ..جميعها ينابيع للخير والوفاق وجمال النفس والكون في شموليته الواسعة ، والبيئة المحيطة بالإنسان
 الهوامش :
1 ـ د/ علي ثويني .الألوان في الفنون والعمارة الإسلامية .
2 ـ د / أحمد زكي . في سبيل موسوعة علمية .
3 ـ أ / صبحي سعيد . القيم الجمالية في الأدب والحياة .
4 ـ د / زكي نجيب محمود . هموم المثقفين .
5 ـ د/ شاكر عبد الحميد . التفضيل الجمالي . سلسلة عالم المعرفة / الكويت . 

في مفهومالجمال


في مفهومالجمال
بقلم : بشير خلف
من قديم شغل الجمالُ الناس في كل بقاع الأرض في كنهه، في مفهومه، في موضوعاته، في تفسيره؛ إلاّ أن ما لم يختلفوا فيه أنه موجود وذو تأثير إيجابي على حياتهم..وبقدر ما خاض فيه الفكر الغربي منذ القديم وقبل الإسلام حتى عصرنا هذا فإنه لم يف الجمال حقّه، بقدْر ما كان الفكر الإسلامي وعبْر كل مراحله حتى عصرنا هذا وبعده إلى يوم الدين أكثر تحليلا وأعمق فهما للجمال.
ما هو الجمال لغة واصطلاحا؟
ورد في لسان العرب أن :
« الجمال مصدر الجميل ، والفعل جَمُلَ »، وقوله عزّ وجلّ :«وَلَـكُمْ فِيهَا جَـمَالٌ حِـينَ تُـرِيحُونَ وَحِـينَ تَـسْرحُونَ » .{ النحل : 6 } ، أي البهاء والحسن والجمال . والحسن يكون في الخُلُق والخَلْق . وقد جمُل الرجل ( بالضمّ) جمالا فهو جميلٌ ، والجُمّال ( بالضم والتشديد ) : أجملُ من الجميل . وجمّلَه أي زيّنه . وجمّلتْها أي زيّنتْها ، والتجمّل : تكلّف الجميل . وجمّل الله عليك تجميلا : إذا دعوتَ له أن يجعله الله جميلا حسنا ، وامرأة جمْلاء وجميلة . قال ابن الأثير : والجمال يقع على الصُّور والمعاني …ومنه الحديث الشريف : " إن الله جميلٌ يحبّ الجمال " ، أي حسَنُ الأفعال ، كاملُ الأوصاف . والمجاملة : المعاملة بالجميل .(1)

وللإمام القرطبي تعريفٌ بديعٌ للجمال ، فقد قال :
« الجمال يكون في الصورة وتركيب الخِلْقة ، ويكون في الأخلاق والعاطفة ، ويكون في الأفـعال :

فأمّا جمال الأخلاق : فكوْنُـها من الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل . وأمّا جمال الأفعال : فهو وجودها ملائمةٌ لمصالح الخلْق ، وقاضيةٌ لجلْب المنافع فيهم ، وصرْف الشرّ عنهم .

وأمّا جمال الخِلْقة : فهو أمرٌ يدركه البصر ، ويُلقيه في القلب متلائما ، فتعْلَـقُ به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ، ولا نِـسْبتُه لأحدٍ من البشر ، وجمالُ الأنعام والدواب من جمال الخِلْقة ، وهو مرئيٌّ بالأبصار ، موافقٌ للبصائر .» (2 )

إننا حينما نفكر في الجمال ، وكُـنهه ، ومجالاته ، وصُوره ، ومعاييره ، ونتخيّل شكْلَ الحياة بدون الجمال والفنون والآداب ، وطُغيان القُبْح المتغلغل في كل مجالات حياتنا ، والظلم المتفشّي بين الأفراد والجماعات والأمم ، وروح السيطرة ، وظاهرة الإقصاء ..سندرك دون ريب مدى حاجتنا إلى لمساتالجمال للتهدئة ، والقضاء على الغلوّ ، وإلى التربية الجمالية الشاملة ، والمتكاملة لكلّ الأفراد ، بدون مراعاة الأعمار ، ومراحل السنين ؛ وهذا ما أكّده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، حيث ما ترك أيّ نوع من أنواع الجمال إلاّ وقد أشار إليه ، وحثّنا عليه ، ورغّبنا فيه ، وحذّرنا ممّا يُنافيه .

جمال الأخلاق : نراه في قوله صلّى الله عليه وسلّم : " البرّ حُـسْن الخُلُق . " رواه مسلم ، وفي قوله صلى الله عليه وسلّم : " أكْملُ المؤمنين إيمانا أحسنُهم خُلُقا ." رواه الترمذي ، إضافة إلى ما رواه ابن ماجة من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، سُئل : ما أكْثر ما يُدخِـل الجنة ؟ قال : " التقوى وحُسْنُ الخُلُق ."

أمّا جمال الأفعال : نراه فيما رواه أحمد من أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، أيّ الناس خيرٌ ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم : " مَنْ طال عُمُرهُ وحَسُن عملُــه ." أمّا جمال الخِلْقة : فنراه فيما رواه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول : " اللهمّ أحْسنتَ خَلْقي فأحْسنْ خُلُقي .(3) "

الجمال في الاصطلاح الجمال ضدّ القبح ، وهو الحُسْن والزينة ، ومنه الحديث : ( إن الله جميلٌ يحبّ الجمال .) أي حُسْن الأفعال ، كامل الأوصاف . واصطلاحا : الجمال حُسْن الشيء ، ونضْرته وكماله على وجْه يليق به ؛ ومعنى ذلك : أن كل شيء جماله وحُسْنه كامنٌ في كماله اللائق به ، فإنْ كانت جميع خصوصياته وكمالاته الممكنة كائنةً فيه ، فهو في غايةالجمال …فالخط الجميل هو الذي جمع ما يليق بالخط من تناسب الحروف ، وتوازيها ، واستقامة ترتيبها ، وحُسن انتظامها ، فكل شيء له خصوصياته الجمالية ، فما يُجمّل الإنسانَ لا يجمل الحيوانَ ممّا هو من خصوصياته ، وما يجمّل فنّ الخط لا يجمّل فن الأصوات ، وما يجمّل الأواني ويزخرفها غير ما يجمل الثياب ، وهكذا في سائر الموجودات .

كما أن الجمال في التعريف الاصطلاحي هو ذلك الذي يتّسم بالتناسق ، والنظام والانسجام ، بحيث يَـنِـمُّ عن معنى ، ويكون له مغزى محدّدٌ ..والجمال لا يرتبط في نظر البعض من الفلاسفة وعلماء الجمال ، والاجتماع بفكرة السعادة ، أو بفكرة الفائدة ، أو المنفعة ، كما لا تربطه علاقةٌ بالخير والشرّ.(4)

ويضيف الدكتور علي عبد المعطي محمد في كتابه السابق ( مقدمات في الفلسفة ) بأن للجمال معنييْن : معنى واسعٌ ، ومعنى ضيّقٌ ؛ فالمعنى الواسع للجمال يوازي " الطيب "الجمالي وهذا المعنى العام له درجاتٌ متفاوتةٌ في الاستعمال ، كما أنه يختلف من حالة إلى أُخْرى . أمّا المعنى الضيّق للجمال فيعني ما يشعر به الإنسان العادي في داخله ، وما يحسّه من مشاعر وإحساسات جمالية .. والجمالبالمعنى الواسع قد يكون بسيطا أو مركّبا : الجمال البسيط مثل النغمة البسيطة ، الوردة المتفتّحة ، الوجه الممتلئ شبابا وحيوية ، أمّا الجمال المركّب فهو يتّسم بالتعقيد في البناء ، وبالجهد في الفهم ، وبالعمق في المعنى . وفي الحقيقة هذا الرأي قابلٌ للدحض لمّا نتعرّض للجمال في الفكر الإسلامي .
هوامش:
1 ـ ابن منظور: لسان العرب.ج:11 ص:12
2 ـ الإمام القرطبي: الجامع في أحكام القرآن.ج:10 ص:71
3 ـ عبد الله محمد عبد المعطي:أطفالنا.دار التوزيع والنشر الإسلامية ط2
4 ـ د.علي عبد المعطي محمد:مقدمات في الفلسفة.ص:148 دار النهضة العربية .بيروت

اختلف الناسُ في فهمهم للجمال !!


اختلف الناسُ في فهمهم للجمال !!
      
  بقلم: بشير خلف

      يطرح المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود عدةَ أسئلة حول فهْم الناس للجمال ، فإذا هم اتّفقوا حول الفهم وربّما حتى التعريف ، فإنهم تأكيدا سيختلفون في التفسير والتعليل ، وما هو المقياس الذي يجعل ذلك الشيء قبيحا وهذا جميلا : 
« … قد تلتقي أنظار الناس جميعا على الشيء الجميل فتتفق على جماله ، ثم يبدأ اختلاف الرأي فيما بينهم حين يبدؤون في التفسير والتعليل ، فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله في أعين الناس جميلا ؟ أهو ـ في نهاية التحليل ـ ما به ممّا ينفع الناس في حياتهم الكاملة ؟ أم هو صورةُ بنائه وتكوينه ، بغضّ النظر عمّا ينفع وما لا ينفع ، أم هو شيء غير هذا وذاك ؟ » ـ هموم المثقفين ص 249
ويربط المرحوم الدكتور نجيب محمود تذوّقنا للجمال بالجانب الروحي المتأصّل فينا والمستمد من عالم الروح ، وما نصفه بالقبح يتنافر مع ذلك ؛ فيرى أن الجمال في الأشياء الجميلة ما هي إلاّ صفةٌ ندركها ، فندرك أن بينها وبين الجانب الروحي فينا شيئا من حيث الجوهر ؛ وعلى عكس ذلك الشيء الذي نصفه بالقبح ، إنما هو شيء يحمل صفة تتنافر مع حقيقة أرواحنا ، فالأشياء الجميلة تُذكّر الروح فينا بطبيعتها الروحانية ، وذلك لأن هذه الأشياء الجميلة كلها تشترك في " الصورة " المستمَدَّة من عالم الروح ، وإذا ما خلا شيء من تلك الصورة كان قبيحا .
ومن الخطإ أن نعتقد 
أن للجمال مقاييسه الحسية وحدها ، تلك التي تقع عليها العين ، أو تسمعها الأذن ، أو يشمها الأنف ، أو يتذوقها اللسان ، أو تتحرك بها لمسات الأطراف العصبية … فالجمال مادة وروح ، وإحساس وشعورٌ ، وعقل ووجدان ، فإذا التقى فلاسفة الجمال في بعض الجوانب ، أو العناصر ، فستظل هناك في عالم الجمال مناطقُ يعجز الفكر الفلسفي عن إدراك كنهها ، والوصول إلى أبعادها . فليس العقل وحده هو القوة القادرة على استكناه كل أسرار الوجود وما خفي فيه ، ولحكمة يقول الله تعالى في كتابه العزيز  (…فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.)(الحج: من الآية46)
وقد كان هناك شبه اتفاق بين الفلاسفة والمفكرين على عناصرَ إذا ما توافرت في الشيء يمكن أن نطلق عليه ( صفة الجميل ) وهي :
ـ السلامة من العيوب : كلّ ما هو جميلٌ ، يُدرك جمالُه وحسْنهُ بسلامته من العيوب ، وخلوّه من أيّ خلل ونقصٍ .. وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى التأكّد من وجود هذه السِّمةَ في الجمال ، وذلك بعد تسجيله بعض مظاهر الجمال في الكون ، ففي الحديث عن جمال السماء ، قال الله تعالى : ( أفلمْ ينظروا إلى السماءِ فوقهمْ كيف بنيْناها وزيّناها ومَالها من فروجٍ .) ، فقد نصّت الآية على جمال السماء وزينتها ، وأنها سالِمةٌ من الشقوق ، وما ذلك إلاّ نفْيٌ للعيوب عنها ، وتأكيدٌ على جمالها .
ـ التناسق والتنظيم : وهو سِمةٌ أخرى للجمال تقوم أساسا على التقدير والضبط ، والإحْكام ، وتحديد نِسب الأشياء بعضها إلى بعض في الحجم والشكل ، واللون ، والحركة ، والصوت ؛ وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه السِّمة مقرّرا اعتبارها في أصل الخِلْقة والتكوين ، قال الله تعالى : ( وخلقَ كلّ شيْءٍ فقدّرهُ تقْـدِيرًا .) سواء كان صغيرا أو كبيرا ، ناطقا ، أو صامتا ، متحرّكا أو ساكنا ..إننا لو ألْقيْنا نظرة فاحصة على الإنسان ، لأدركنا التناسق الذي يتجمّل به هذا المخلوق الصغير ، ولعلّ قوله تعالى : ( يا أيها الإنسان ما غرّكَ بربّكَ الكريم ، الذي خلقك فسوّاكَ فعدّلكَ في أيّ صورة ما شاء ركّبكَ .)إضافة إلى دلالته على الإحْكام والتقدير ، والتسوية والتعديل ، فإنه يُشير إلى دقّة التناسق بين عقْل الإنسان ، وروحه وجسده ، والتناسق بين أعضاء جسمه وبين الأعضاء الأخرى ، والتناسق بين أجهزة عُضْوٍ من أعضائه ، وبين سائر الأجهزة .
ـ النصّ والتعيين : ليس كلُّ جمالٍ في هذا الكون الفسيح ممّا في مقدور الإنسان أن يدركه دون أن يساعده وحْيٌ من السماء ، أو دون الاستعانة بآلات التِّـقانة الحديثة ، وتكنولوجيا الكشْف والاتصالات ..إن الكون أوسع من أن يُحيطه الإنسان بعقله المحدود ، وقد يخفى عليه وجْهُ الجمال في شيء من الأشياء ، لا لِخللٍ يرجع إلى الشيء نفسه ، أو كوْنه فاقدا للتناسق والتنظيم ؛ ولكن لكوْن الإنسان عاجزا عن إدراكه ، وقاصرا عن الإحاطة به .

 جمالٌ معنويٌّ وجمالٌ حسّيٌّ 
الجمال في هذا الكون الفسيح أكبر وأكثر من إدراك الإنسان الفاني ، الضعيف ، العاجز عن الإلمام بكل شيء ، فالكون أوسع من أن يحيطه الإنسان بعقله المحدود .. والأشياء التي تنتظم هذا الكون الفسيح ، إمّا أن تكون أجساما لها طولٌ ، وعرضٌ ، وعمق ، كالإنسان والحيوان ، والسماء والأرض ، والشمس والقمر ونحوهما ، وإمّا أن تكون معانٍ ، كالأقوال والأفعال والأسماء ، والصفات ونحوها ، واستنادا إلى ذلك يمكن تقسيم الجمال إلى قسميْن :جمالٌ حسّـيٌّ : وهو الذي يّدرك بالحسّ كجمال الطبيعة في سمائها وأرضها ، وشمسها وقمرها ، وليلها ونهارها ،وبرّها وبحرها ، وكجمال الإنسان من حيث تكوينه … وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من مظاهر الجمال ، مُشيرا إلى جماله الحسّي كي ينتفع به الإنسان ، ويشكر ربّه الذي سخّر له الكون وما فيه ..قال الله تعالى : ( والأنعامَ خلقها لكمَ فيها دفْءٌ ومنافعُ ومنها تأكلون ، ولكُمْ فيها جمالٌ حين تُريحون وحين تسرحون ، وتحملُ أثقالكمْ إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفسِ إن ربّكم لرؤوفٌ رحيمٌ، والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبوها وزينةً ويخلقُ ما لا تعلمون .)
وقال الله تعالــى عن الإنسان : ( لقد خلقْنا الإنسان في أحْسن تقويمٍ . ) ثم فسّر العلماء قوله :
" أحْسن تقويم " بقوله تعالى : ( يا أيها الإنسانُ ما غرّكَ بربّـِكَ الكريمِ الذي خلقكَ فسوّاكَ فعدّلكَ في أيّ صورةٍ ما شاءَ ركّبكَ . ) ، فهذه الآية وتلك تعبّران عن الهيكل الجمالي الذي بُـنِي عليه الإنسان ، فالجمال سمةٌ بارزةٌ في الإنسان مثلما هو مبثوثٌ في غيره من الموجودات .
جمالٌ معْنويٌّ : ويشتمل على أمورٍ كثيرة لا تُدركُ بالحسّ والمشاهدة ، ولكنها تُدرك بالعقل الواعي ، والبصيرة النافدة ..من هذه الأمور الجمالية المعنوية :
1
 ــ الأقوال : فالجمال المعنوي موجودٌ في الأقوال الحسنة ، والألفاظ الطيّبة ، قال الله تعالى : ( ومَنْ أحْسنُ قولاً ممّنْ دعا إلى اللهِ وعمِلَ صالحا وقال إنني منَ المُـسلمين . ) فقد جعل الله الدعوة إلى الإسلام ، والنطق بكلمة الشهادة مِن أحسن الأقوال وأجملها ، فدلّ ذلك على أن الجمال موجودٌ في الأقوال التي يقولها الناس ، وفي الألفاظ التي ينطقونها ، لا من حيث تركيبها اللفظي وصياغتها البلاغية ، ولكن بالنظر إلى ما تحمله من المعاني والمدلولات .
ــ الأفعـال : والفعل قرينُ القول ، بل إن القول إذا لم يقترن بالفعل لا يبلغ الكمالَ في الحُسْن والجمال ، ولذا ذكر الله تعالى في الآية السابقة قوله : ( وعمِل صالحا ) ، إذ القول وحده مهما كان جميلا لا يكفي صاحبه ما لم ينضمّ إليه فعلٌ … فالجمال يوجد في الفعل كما يوجد في القول .
من خلال تقسيم الجمال إلى جمال حسّي ، وجمال معنوي ، يمكن استعراضُ ميادين الجمال ، ومجالاته التي هي :
ــ الطبيعة : بكل ما تحتويه من أرضٍ وسماءٍ ، وإنسانٍ وحيوانٍ ، ونبات وجمادٍ ..هي كلها مواطن فسيحة للجمال الطبيعي ، والقرآن الكريم حين تناول الطبيعة ، لفت نظر الإنسان إلى كثيرٍ من دقائقها ؛ على سبيل المثال يقول الله تعالى :  إنّ في خلْقِ السّمواتِ والأرضِ واخْتلافِ اللّيلِ والنهارِ والفُلْـكِ الّتي تجري في البحرِ بما ينْـفعُ الناسَ وما أنزلَ اللهُ من السماءِ منْ ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابّة وتصريف الرياح والسَّحاب المُسخّر بين السماء والأرض لآياتٍ لقومِ يعلمون .
إن هذا المشهد العظيم لوحةٌ رائعة ٌ من الطبيعة ، التي لا تحدّها الأبعادُ والأنظارُ ، يسْرح فيها العقل ، والبصر يتملّيان السّحْـرَ والجمال . ويقول تعالى في هذه الآية الكريمة ، مُرشدا إلى الجمال : ( أفلمْ ينظروا إلى السماءِ فوقَهمْ كيف بنيناها وزيّناها ومالها من فروجِ . )
ــ الإنسان : إن الإنسان ميدانٌ آخرُ للجمال ، يتخلّله الجمالُ منذ مرحلة تكوينه ، ونشأته إلى مرحلة نُضْجه وتكامله ؛ بل إن الجمال من أبرز سمات الإنسان التي نوّه بها القرآن الكريم في أكثر من آية للدلالة على قدرة الله تعالى وإبداعه .
ــ الفـنّ : والفن نتاجٌ إنسانيٌّ عكس الجمال الذي هو إبداعٌ ربّاني ..الفن استفاده الإنسان من الطبيعة التي سخرها الله له ، ومن عقله الذي وهبه إياه ..والفنّ مجالٌ خصبٌ للجمال لا ينضب ، ما دام الإنسان موجودا في هذه المعمورة ، وقد تمثّل الجمال في مجالات عدّة ، نذكرها بإيجاز ونعود إليها لاحقا في فصْل مستقلّ بحول الله من هذا الكتاب :

 6ــ النقش والزخرفة : عُـرِف المسلمون منذ القديم بهذا الفن الجمالي ، حتى قيل : إن الفنّ الإسلامي فنٌّ زخرفي ، ذلك أنه لا يكاد يخلو أثرٌ إسلامي بدءأً بالخاتم ومرورا بالأواني ، وانتهاء بالبناءات الضخمة ، وقامت الزخرفة على نمطيْن : نمط نباتي أو ورقي وهو الذي أُبْرِز بأساليب متعدّدة ، من إفراد ومزاوجة ، وتقابل ، وتعانق ، وفي مجالات متنوّعة من جدران وقباب ، وتُحفٍ نحاسية زجاجية ، وصفحات الكتب وأغلفتها ، ونحْو ذلك . ونمطٌ هندسي باستعمال الخطوط الهندسية وصياغتها في أشكال فنية رائعة ، على شكل نجوم أو دوائر متداخلة وغيرها من الأشكال ..وزُيّنت بهذا النوع من الزخرفة المباني ، والتُحف الخشبية والنحاسية ، والأبواب ، والسقوف وغيرها .
7 ــ الكتابة والخطّ : كانت " الكلمة " ولا زالت وستبقى ميدانا رحْبا للجمال الفنّي سواء كانت نثرا أو شعرا ، ولقد حظي الخطّ والكتابة بمكانة عظيمة منذ القدم ، وعظُمتْ هذه الحظوة منذ بدْءِ الوحي على رسولنا الكريم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم ..حظي الخط العربي بمكانة عظيمة ولا يزال كوسيلة للكتابة وكتحفة فنية لم يبلغها أيّ خط آخر ، إذ حظي بعناية فائقة ، وتفنَّـنَ الناسُ فيه ولا يزالون ، فأكْسبُـوه ألوانا وأشكالا ؛ فوُجد الخط الكوفي ، والخط الفارسي ، والخط النسخي ، والخط الرقعي، والخط المغربي ، والخط الديواني وفرّعوا من هذه أنواعا أخرى من الخطوط خاصة في أيامنا هذه أصبحت تتماشى وتقنيات الحاسوب الحديثة .8 ــ العمارة والتخطيط : إن العمارة قديمة قِدَمَ الإنسان ، وتطوّرت بمرور الزمان تبعا لتطوّر الأفكار ، والمفاهيم ، وانتشار المعرفة ، وتقدُّمِ وسائل الإنجاز ؛ إلاّ أن العمارة في الإسلام أُحدث فيها ما لم يكن موجودا من قبل ، حيث بالإضافة إلى تأدية وظائفها المعهودة ، فإنها تؤديها بطريقة جمالية راقية ، وتركّز هذا الفنّ الجمالي على أمريْن إثنيْن :
9
 ــ المساجد ودُور العبادة : تطوّرت العمارة الإسلامية منذ القديم ولا تزال ، وقطع الفنُّ المعماري أشواطا بعيدة حقّق فيها التنوّعَ والإبداعَ الرائعيْن ، والانسجامَ الجميلَ ، وظل المسجد ذا طابع خاصٍّ ، وشكل مميّز ..روعة في العمارة ، وتحفة في الزخرفة والتنميق ، وآية لعرض الآيات القرآنية بالخطوط العربية الجميلة .10 ــ المساكن والبيوت : ما يميز البيت المسلم عن بيوت غيره ، لارتباطه بالكثير من الشؤون الاجتماعية التي أمر بها الدين الإسلامي ، ونظّمها تنظيما رائعا ..والعمارة الحديثة تفنّن فيها الناس من حيث الشكل الخارجي ، ومن حيث التكوين الداخلي ..11 ــ المرافق العامّة : في أيّامنا هذه تخصّص العديدُ من الشباب في النقش على الجبس الذي تُلبّس به جدران المرافق العامة ، والمؤسسات الخدماتية كقاعات المطارات ، وقاعات الاجتماعات والمؤتمرات في المؤسسات الحكومية ، والفنادق ، والزوايا ، والمساجد المُنْجزة حديثا ، والبناءات العتيقة التي أُعيد ترميمها ، وكذلك أقواس مداخل المدن التاريخية العتيقة ..نقْـشٌ عن طريق الحفْر في مادة الجبس المِطْـواعة ، تضمّنَ إبداعات رائعة جادت بها العمارة الإسلامية عبْر عصورها الذهبية ، وإبداعات فنية وهندسية حديثة من ابتكار هؤلاء الشباب ، ومن الاستعانة أيضا بالأشكال المتولّدة بالحاسوب .. ممّا شجّع وزارة التكوين المهني على إنشاء تخصصات هذا النوع من الزخرفة خاصّة في مناطق الجنوب .
ومن الإنصاف القول بأن منطقة الوادي هي الرائدة الآن في هذا الفن ، فما أُنجز ويُنجز حاليا في أكثر من مكان بالجزائر هو من طرف 
شباب هذه الولاية ..وتاريخيا فإن مدينة قمار هي التي تركت بصماتها ولا تزال ؛ فإن المرحوم " عمر قاقة " هو الذي أنجز وقبل الثورة زخرفةَ ونقوشَ القاعة الكبرى بالبريد المركزي بالجزائر العاصمة ، وكذلك قاعات قصر الشعب ، وبزّ في ذلك أشْهر المهندسين الذين أتت بهم فرنسا الاستعمارية ، وتفوّق عليهم ، وأزاحهم من طريقه .
ليس تزكية من طرفنا ولكنه الواقع عندما نقول : إن ذلك الفنّ الراقي حُوفظ عليه أيام الاستعمار من خلال أعمال زخرفية، ونقشية بسيطة ما تعدّت مجال المنطقة المحلّية ، ليتوسّع بعد الاستقلال ، وليزدهر حاليا ويكثر مُمارسوه ..حتّى أن أحد أبناء المنطقة ممّن يقيمون في دُول الخليج سمعنا بأنه يخطّط لجلْب البعض من هؤلاء الشباب إلى هناك حيث الحاجة شديدة لأمثالهم ، وقد احتكر الساحة ويحتكرها " المغاربة " وحدهم دون منافس .

وتدليلا على إبداعات هؤلاء الشباب الرائعة ، فإن من يزور ولاية الوادي سينبهر بما أنجزه هؤلاء الشباب من فنون راقية ..بدءا بمطار الولاية ، والزاوية التجانية ، ومساجد الولاية الحديثة ، وحتّى المنازل الخاصّة .
أينما نحن..ثمّة البهاء والجمال!!
إن الإنسان العادي السويّ مثلما يشاهد الجمال في عالم الطبيعة يشاهده ويتذوّقه في الأشياء الجميلة التي يقتنيها ، ويلْحظُـه في الإبداع الفني الذي يصنعه كالعمارة التي يبدع فيها المهندسون ، والطرق الفسيحة التي تحاذيها من الجانبين مساحات نظيفةٌ ظللتها أشجارٌ وارفةٌ ، وزيّنتها زهور ، وورود تفوح عطرا ..مساجدُ تألقت بعمارتها الإسلامية المميزة ، كما أن الإنسان السويَّ يشاهد الجمال ، وينعم به في اللوحة الفنية ،في الملابس الزاهية ، في ترتيب غُرف المنزل ، في الكُتب المزخرفة ،في الخط ، في ترتيل القرآن الكريم ،في زخارف ونقوش الأواني ، والأبنية ، والفُرُش ، والزرابي ، في الإيقاع الموسيقي الأصيل والصوت الشجي ، في الوزن الشعري العذب ، في الكلام الحسن ، في الحوار الهادئ ، في الاحترام المتبادل ، في فنّ الإصغاء للغير ، في حُسْن التعامل مع الجار ، مع الأقارب ، مع الزملاء في العمل ، في آداب الأكل ، في سلوك النظافة في داخل المنزل وخارجه ، في الحفاظ على البيئة .
وكما نشاهد الجمال ونتذوقه في الإبداع الذي يصنعه غيرنا ونصنعه نحن أيضا ، فإن موضوعات الجمال التي كرّم الله بها عباده في الطبيعة أفسحُ ، وأجملُ ، وأكثر جاذبية ؛ حيث يغمرنا الجمال في عالم الأزهار والطيور وسفوح الجبال ، وجداول الأنهار ، وشلالات المياه المنحدرة ، وكثبان الرمال الذهبية ، ومغيب الشمس ، وفي شكل الإنسان الذي قال الخالق عزّ وعلا في شأن تكريمه : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ً) (الاسراء:70) وقال أيضا : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) .. 
كما نسعد بالجمال ونحن نتذوقه في سماء الليل الصافية ، وفي النجوم المتلألئة ليلا ، وفي القمر يغْـمرُ الكون بضيائه ..نتذوّق الجمال في الغيمة ، في قوس قزح ، في الضباب وهو يدثر ما حولنا بغلالة شفافة منعشة ، نتذوقه في نزول الغيث ، وتجمُّع قطراته وهي تنساب والأرض تتشرّبها في نشوة ..الجمال نتذوّقه في عيون الضِّباء ، وفي عيون المها وابتسامات الأطفال ، في ألوان الأسماك ، وشاطئ البحر ، ورماله الذهبية ، وأمواجه ..في حقول الزرع المترامية ، في السنابل الناضجة وهي متمايلة بما حملت من ثمار الخير ..في الخضار بألوانها المختلفة ..في الأشجار المثمرة ، وتدلّي الثمار بألوانها وأشكالها اليانعة الشهية ، في عراجين النخلة وهي مدلاّة ، مثقلة بحبات التمر في لونها الذهبي الرائق الشفاف ..وفي الأزهار بألوانها وأريجها .. وفي ملكها الورد بدون منازع.
عموما ، فالجمال قد يكون متعلقا بالإنسان ، أو الحيوان ، أو النبات ، أو الصخور ، أو الجبال ، أو البحار ، أو السماء ، أو حتى السحب وتشكيلاتها ، تهاطل الأمطار ، تساقط الثلوج ، أو التعبير الإنساني خاصة في الفنون المختلفة ، وقد يكون مرتبطا بالجانب المادي ، أو الحسّي ، وقد يكون متعلقا بالجانب العقلي أو المعرفي ، أو التأمّلي .. قد يتمثّل في حالات صامتة ، أو حالات متحرّكة ، أو في مزيجٍ من الصمت والحركة ، وقد يكون في وجْهٍ جميل ، أو جسد جميل ، أو مسرحية جميلة ، أو مقطوعة موسيقية جميلة ، أو فيلم جميل ، أو لوحة فنية جميلة ، أو حديقة طبيعية جميلة لم تطلها أيادي البشر ، أو حديقة تولاّها الإنسان بالرعاية والاهتمام
اختلافات هائلة بين تكوينات وحالات الجمال وتنويعاته ، فوصفُـنا العام لها بالجميلة إلاّ لكونها تثيرنا وتبعث المتعة والراحة في نفوسنا 
؛ حيث يوجد الجمال في جميع مظاهر الحياة ، في الطبيعة ، والمباني ، والبشر ، والفنون واللغة … كما يوجد في العلوم ؛ فالفيزيائي ريتشارد فينمان يرى بأن :« المرْء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها » ويعلن فيزيائي آخر بقوله : « إن الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهمّ مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح ».
كلٌّ تلك موضوعات تجسّد الجمال ، بل الطبيعة بأسرها لوحة فنية تفيض بالحسن والجمال ، والنفوس السوية تثير لديها الإعجاب ، وتتفاعل معها روحيا ، إذْ تتحوّل لديها شعرا ، أنشودة ، عبادة وإجلالا وتسبيحا وتعظيما لمبدع هذه الطبيعة وخالقها .
الجمال الطبيعي نعمة 

إن الجمال الطبيعي ، وحلاوة أيام الشباب يعتبران ثروة لهما قيمتهما لدى جيل الشباب، والمرء عندما يبلغ هذه المرحلة يكتسب جسمه القوة والنشاط ، وتتفتح عواطفه ومشاعره، ويصبح جماله وعظمته بمثابة جوهرة ثمينة تضفي على صاحبها روعة وإبداعاً لهما وقعهما في قلوب الناس. إن عهد الشباب هو أحد المظاهر المهمة للجمال الطبيعي الذي يمتاز به جيل اليوم، فالإنسان إذا هرم فقد القدرة التي كان يتمتع بها في شبابه ، وزال عنه جمال الشباب ، وفقد وجهه بريقه ونعومته، لذا فإن الشباب هو مرحلة لها عظمتها ، وجمالها ، ولها الأثر البالغ في تكامل حياة الإنسان ومستقبله. إن الأمم والشعوب تفتخر بنسبة الشباب من بين مجموع سكانها ..فقوتها وحيويتها من قوة وحيوية الشباب ، وجمالها من جمالهم .
عطاءٌ من فيْضٍ إلهيٍّ ..

أين نحن من هذا العطاء الربّاني ؟ هل نحسّ بهذا الجمال الفياض في سلوكنا اليومي ؟ هل نتذوق القليل أو الكثير في يومياتنا وليالينا ؟ .
..هي أسئلة مطروحة علينا أفرادا وجماعات ، ولا أعتقد أننا نجهل واقعنا وسلوكنا الذي يجهل ويتجاهل في أغلب الحالات كُنه الجمال ومفهومه ، ومعاداتنا لكل ما هو جميل ؛ وإنْ جَـهِلْنا التذوقَ الجماليَّ فإننا في نفس الوقت نترفع عن تعلّم التذوق الجمالي ، ونرى بأنه من الصغائر التي من العيب أن ننزل إليها ، والبعض يراه أنه من الضعف والدونية .. نحن أغلبنا معطوبٌ من الداخل. لكن كيف السبيل إلى إصلاح هذا العطب ؟ ؟ 
صُور الجمال في الكون والحياة ، دليل على قدرة الله تعالى وعظمته وحكمته ، والقيم العليا في الديانات السماوية ، سيّـما في الدين الإسلامي الحنيف ، ترمز إلى نواحٍ جمالية مثلى ، لأنها ينبوع السعادة الحقيقية المتمثلة في الحق والخير والجمال ، للبشر في كل زمان ومكان ، فالخير والفضيلة ، والحب والصدق ، والعدل والرحمة ، والتآخي والبرّ ، والطهر والعفاف ، وغيرها من الصفات والسُـلوكات الإنسانية الحميدة التي تبعث في النفس الطمأنينة والأمن والأمان ..جميعها ينابيع للخير والوفاق وجمال النفس والكون في شموليته الواسعة ، والبيئة المحيطة بالإنسان .


  الغزو الفكري وهْمٌ أم حقيقة كتب: بشير خلف       حينما أصدر المفكر الإسلامي، المصري، والمؤلف، والمحقق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأ...