الكتابة .. تلك السلطة الخالدة!!
يتخذ الكاتب من الكتابة فعلاً للتحرر ليس فقط من الآلام الجسدية
المبرحة..ولكن أيضاً من الهواجس واليأس و الخوف.
(يحي فكري..كاتب مصري)
بشير خلف
يتفاعل الكاتب مع ما حوله ومن حوله، فينفعل بتقلّبات الأحداث وأصداء الوقائع فيتأثر بها وتؤثر فيه،وقد يكون مسارها في الاتجاه المؤيد لتوجّهه فتلتقي مع أهدافه وتطلّعاته،أو يكون سيرها في الخطّ المعاكس لمقاصده بعيدا من غاياته ومخالفا لرغباته، لكنه يجد نفسه في الحالتين مشدودا إلى حالة نفسية للتعبير عمّا تُكنّه نفسه وما تنطوي عليه جوانحه مما له علاقة بذلك التأثر أو التأثير سلبا أو إيجابا.
يقول شيخ الأدباء والكُتّاب في عصره وحتّى في عصرنا " أبو عثمان الجاحظ " طيّب الله ثراه :
(( ولولا الكتب المدوّنة، والأخبار المخلّدة، والحكم المخطوطة، لبطُل أكثر العلم، ولغلب سلطانُ النسيان سلطانَ الذكر..ولَمَا كان للناس مَفْزعٌ إلى موضع استذكار..ولو تمّ ذلك لحُرِمْنا أكثر النفْع..إذْ كنّا قد علمنا أن مقدار حفْظ الناس لعواجل حاجاتهم، وأوائلها لا يبلغ ذلك مبلغا مذكورا، ولا يُغني فيه غناء محمودا .))
إن الجاحظ يترجم مشاعر الحب لدى العرب للكلمة المكتوبة، وتقديرهم لها،وهو ما عبروا عنه إبّان الفتوحات الإسلامية. وهو حبٌّ نابع من العقيدة حيث كانت الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لنشر القرآن الكريم، وتداوله بين الناس …لأن نسْخ القرآن هو في حدّ ذاته عملٌ ديني يُطلبُ به التقرّب إلى الله والمثُوبة منه .
وقد وجد العرب المسلمون بعد فتْحهم لفارسَ الكثيرَ من الكتب، والكثير من العلماء والشعراء المتأثرين بالثقافات القديمة..كما وجدوا الأشكال الجاهزة للعمل العلمي والثقافي المنظم ( المكتبات،مراكز الوثائق، الأكاديميات …) ممّا سهّل عليهم تقبّل الثقافة الفارسية والاستفادة من إنجازاتها وتطويرها. (1)
ويقارن شيخ الأدباء الجاحظ بين السَّماع والكتابة فيقول :
(( …فالإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه؛ ولا بدّ أن تكون كتبه أكثر من سماعه. ولا يعلم ولا يجمع العلم، ولا يختلف إليه حتى يكون الإنفاق عليه من ماله ألذّ عنده من الإنفاق من مال عدوه. ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذّ عنده من إنفاق عُشّاق القيان والمستهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا. وليس ينتفع بإنفاقه حتّى يُؤثر الكتبَ إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله، وحتى يُؤْمل الأعرابي في فرسه .))
ويقول أيضا :
(( ولولا الخطوط لبطُلت العهود والشروط والسجلات والصكاك، وكل إقطاع، وكل إنفاق، وكل أمان، وكل عهد، وكل جوار وحلْف. ولتعظيم ذلك والثقة به والاستناد إليه، كانوا يدعون في الجاهلية مَـنْ يكتب لهم ذكْر الحلف والهدنة تعظيما للأمر، وتبعيدا عن النسيان. وليس في الأرض أمة لها طرق ومسكة..ولا جيل لهم قبْضٌ وبسْطٌ إلا ولهم خـــــطٌّ ..فأما أصحاب المُلْك والسلطان والجباية، والديانة والعبادة، فهناك الكتاب المتقن والحساب المُحكم. فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها على ضرْب من الضروب، وشكْل من الأشكال محفوظ بالكتــــــــابة التي تتداولها الأجيال، وتنتشر في الآفاق كوسيلة من وسائل حفظ الحضارة ونقْل رسومها إلى الأمصار.))
إضافة إلى ما سبق، ولمّا كانت الكتابة هي وسيلة ملْء الكتب والدفاتر بالعلوم والمعارف، وهي وسيلة حفظ الوثائق والأسرار، وسجلات العمل في التجارة والوظيفة؛ فقد جاء ذكْر الكتابة في القرآن الكريم على سبيل التكريم والتقدير، حيث نسب سبحانه وتعالى الكتابة إلى نفسه في قوله تعالى : " وَكَـتَـبْـنَا لَـهُ فِي الألْواحِ " وقال سبحانه وتعالى : " كَتَبَ اللهُ لأَغْـلِبَنَّأناوَرُسُلي " ونسب جلّ شأْنه الكتابة إلى ملائكته المكرّمين حيث قال : " وَإنَّ عَـلَيْـكُمْ لَحَافِـظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِـينَ ."
" أليس الأدب كفاحا، والكفاح أدبا ؟ (2)" صيحة أطلقها الكاتب المسرحي والفيلسوف الإيرلندي ـ جورج برنارد شو ـ صحة تُلْقي الضوء على رسالة الأدب ووظيفته السامية والكتابة عموما، وهي أنه لا يمكن تصوّر ثقافة مكتوبة إلاّ متخِذةً لموقف ما، أو مدافعة عنه حتى النهاية .
يقول سلام خياط في كتابه" إقرأْ ..صناعة الكتابة وأسرار اللغة"
«الخواطر المتروكة على عواهنها دون تهذيب قد تتمخض عن كاتب عادي أو محرر في صحيفة مهملة، لكنها لا تخلق كاتبا مبدعاً ولا كتابة مبدعة.الكتابة التي لا تتميز بميزة ما، قصيرة العمر، سريعة الاندثار قليلة التأثير أو عديمة الأثر.الموهوبون قادرون على تفجير المفردة وإعادة تركيبها بشحن الكلمة لتعبر عن جملة، وتكثيف الجملة لتعوض عن مقال، وإغناء المقال ليغني عن كتاب.في فؤاد الكاتب المبدع حب للغة يبلغ درجة العشق والوله. بين جوانحه عفوية طفل ودهشته وتلقائيته وصدقه ومشاكسته أيضا، مضافاً إليها معرفة شيخ وحكمة مجرب وصبر حكيم.الكاتب المبدع كثير الاهتمامات، متعدد المواهب، متذوق للجمال ولو كان في شوكة.(3)»
يقول الشاعر عبد الغني التميمي(4)
أنا ما تعلمْتُ الكتابةَ كي أبــيعَ لشهرتي شرفَ القلمْ
أنا ما تعلمْتُ الكتابةَ كي أعيشَ لشهوتي كيفاً وكــمْ
أنا ما تعلمْتُ القراءةَ كي تكرش أحرفي الجوعى التخمْ
أو أقرأ التاريخَ مغلولاً ومقتولاً ومـغسولاً بــــدمْ
وأُقيمَ من عزف الخيانة مهـرجاناً قبل ذلك لم يُقــمْ
وفمي يُسبّح للطغاة وليس لي في غير ذاك المدحِ فـمْ
إن القراءةَ والكتابةَ نعـمةٌ فاحرصْ على شكرِ النعـمْ
نحن لسنا مع ما قاله الشاعر المصري أحمد مطر ذات يوم :
«قال أحمد مطر..لمن نكتب..والناس ما بين أصم..وضرير…؟؟»ولكننا مع الكاتب والأديب الروائي الجزائري بقطاش مرزاق الذي يحدّد رسالة الكاتب من خلال مواجهة الواقع، ومن معيار المسؤولية الأخلاقية والدينية والإنسانية:
« إن الكتابة مسؤولية أخلاقية في المقام الأول. أتعامل مع اللغة وأعتبر نفسي مسؤولا عن أي حرف أكتبه. أن الشعور الديني يدعوني إلى الترفع والابتعاد عن البذاءة. أن الكاتب يكتب من أجل بلوغ غاية الجمالية وهي الشعور بالروح الإنسانية.(5)
الكتابة رسالة حضارية نبيلة .أنْ تبدعَ فأنت فنانٌ ..أن تكتبَ فأنت تؤدي رسالة سامية وتمارس وجودك بوعي، وتتجاوز ذاتك لتلتحم بالآخر أفقيا وعموديا وزمكانيا..الكتابة فعل إنساني قيْمي يمارسه المثقف الكاتب الحر.. الناقد لمسيرة مجتمعه، نقْدٌ صادقٌ بنّاء غايته التغيير إلى ما هو أصلح.
هوامش:
(1) ــ الكتابة والكتاب : موقع النادي الأدبي .منطقة حائل / السعودية .
(2) ـــ عبد العزيز بن عبد الله السالم : الكتابة بين المواهب الأصيلة ..والمحاولات الفاشلة .مجلة الفيصل السعودية .العدد 245 . ص35
(3) ـ أ.سلام خياط/ صناعة الكتابة وأسرار اللغة. رياض الريس للكتب والنشر، 1999م
(4)ـ الشاعر الفلسطيني عبد الغني التميمي/الموسوعة العالمية للشعر العربي
(5) ـ الروائي بقطاش مرزاق./شؤون ثقافية.يومية الشروق.28/02/2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق