الثلاثاء، 26 فبراير 2013

القراءة

القراءة الأداة الأولى للمعرفة الإنسانية
..إشكالية التحصيل،وصعوبة الاستثمار

"…اْقْــــرَأْ وَرَبُكَ الأَكْرَم‘(3) الّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)
عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)"

(سورة العلق)
بقلم: بشير خلف
مـــــدخل 
قبل أن نقرأ لن نستطيع أن نفهم عقيدة حتى نعتنقها، ولا نتذوق حرية، ولا نكتسب معرفة، ولا نبني وطنًا..إن الشعب الذي لا يقرأ لا يستطيع أن يعرف نفسه، ولا يعرف قيمته، ولا مكانته في العالم، ولا بإمكانه أن يعرف غيره.
القراءة هي التي تقول لنا: هنا وقف السلف من قبلكم..هنا وصل العالم من حولكم..من هنا عليكم أن تبدؤوا، وتواصلوا المسيرة، لكي لا تكرروا الجهود التي سبق أن بذلها الآخرون، ولا تعيدوا التجارب التي مرّوا بها، ولا ترتكبوا الأخطاء التي ارتكبوها. 

ماهــــية القراءة
لا نجد تعريفا واحدا للقراءة،وإنّما هي تعريفات شتىّ اتّخذت زوايا نظر مختلفة، ومرجعيّات متنوّعة. ويمكن تصنيفها إلى أنواع ثلاثة من التّعريفات: تعريف يرى أنّ القراءة نمطٌ من التّواصل الإنساني، هي «فعلٌ لسانيّ يهدف إلى التّواصل مع الآخرين».
أمّا النّوع الثّاني من التّعريفات فيذهب أصحابه إلى اعتبار القراءة فهما لمعنى النّصّ: «تعمل القراءة في مستوى واحد هو مستوى الدّلالات.. ذلك أنّ القراءة هي إدراك مباشر لمعاني النّصّ المكتوب». أي أن «القراءة تعني بلوغ فكْــر الآخر بالاعتماد فقط على موارد القارئ نفسه».
أمّا النّوع الثّالث من التّعريفات، فيرى القراءة بناء نشيطا للمعنى: «القراءة نشاط إدراكيّ يؤدّي بالقارئ إلى إعطاء معانٍ للنّصّ المقروء».(1)
القراءة عملية عقلية
إن القراءة عملية عقلية تشمل تفسير الرموز التي يتلقّاها القارئ عن طريق عينيْه، وتتطلب هذه الرموز فهْم المعاني، كما تتطلب الربط بين الخبرة الشخصية، وهذه المعاني ممّا يجعل العمليات النفسية المرتبطة بالقراءة معقّدةً إلى درجة كبيرة.
والقراءة بهذا المفهوم تشمل الاستجابات الداخلية لِما هو مكتوب كالعمليات العقلية التي تستلزم تدخّل شخصية القارئ بكل جوانبها بغية الفهم،وتفسير المعاني، والربط بينها،واستخراج الأفكار الجزئية وصولاً إلى المعنى العام،أو الفكرة العامة، وكذا النقد والحكم،وتقييم النص المقروء.
إن القراءة أسلوبٌ من أساليب النشاط الفكري في حلّ المشكلات، فهي ليست عملية منعزلة، أو محدودة بزمان معيّن، بل هي نشاطٌ فكري متكامل يبدأ بإحساس الإنسان بمشكلة ما، ثم يوظف القراءة إنْ كان يُجيدها للمساعدة في حلّ هذه المشكلة، ويقوم في أثناء ذلك بجميع الاستجابات التي يتطلّبها حلّ هذه المشكلة من عملٍ، وانفعالٍ، وتفكير.(2)

قــــدسية القراءة
والقراءة إنما يمارسها الإنسان باسم ربّه الذي خلقه، وبأمر صارمٍ حازمٍ منه تعالى..ذلك أن الإنسان خليفةُ الله في الأرض،وليس من اللائق بخليفة الله في الأرض أن يكون أمّيًا، بل يجب عليه أن يقرأ ليتخلص من أميته، وجهله، ويكون جديرا بسجود الملائكة له.
ومثلما استمدّت القراءة قدسيتها من قول الله تعالى:(اقرأْ باسم ربك الذي خلق)فإن اشتقاق اسم( القرآن الكريم) من القراءة،يُضفي عليها مزيدا من القداسة.(3)
قالوا في القراءة
قال عباس محمد العقّاد: « لستُ أهوى القراءة لأكتبَ، ولا لأزداد عمْرًا في تقدير الحساب؛ إنما أهوى القراءة لأن لي في هذه الدنيا حياة واحدة، وحياةٌ واحدةٌ لا تكفيني، ولا تحرّك كلّ ما في ضميري من بواعثِ الحركة.»
سُئل فولتير الفيلسوف الفرنسي عمّن سيقود الجنسَ البشريَّ، فأجاب:« الذين يعرفون كيف يقرؤون.».
الرئيس الأمريكي الثالث جيفرسون قال:« إن الذين يقرؤون فقط هم الأحرار..ذلك أن القراءة تطرد الجهل، والخرافة، وهما من ألدّ أعداء الحرية.»
ولو رحنا نبحث في حياة المتفوقين في تاريخ البشرية لوجدنا أنهم كانوا قرّاءَ نهمين يتمثّلون ما يقرؤون، ويضيفون إليه من ذوات نفوسهم، وبنات أفكارهم ما يحقق لهم فُرص الإبداع والتفوّق.(4)
القراءة مفتاح العلم وأداة التعليم
القراءة هي الوسيلة الأساسية للاتصال بين الأفراد، والجماعات، والأمم..إذ هي أداة الإنسان لكسْب المعارف والتعلم،وهي أداة المجتمع للربط بين أفراده، وهي أداة البشرية للتعارف، والتعاون بين شعوبها مهما تفرقت أوطانهم،وبين أجيالها مهما تباعدت أزمانهم.
وإذا كانت الكتب،أو الوسائط المعرفية الحديثة هي الخزانة التي تحفظ الخبرات المتراكمة للإنسانية؛ فإن القراءة هي المفتاح الذي يتيح الانتفاع بهذه الخزانة..إن القراءة الواسعة العميقة الشاملة لتراث البشرية،هي التي تجعل الإنسان عالميا يتجاوز الألوان،والأجناس،والألسن، والمعتقدات.(5)والقراءة هي أداة التعلم في المؤسسات التعليمية بها يكتسب المتعلم المعارف والعلوم، وبواسطتها يتدرّج في تعلّمه.
إشكالية اكتساب مهارات القراءة
إن رجال التربية وكلَّ منْ مارس مهنة التعليم يدرك أن تعليم القراءة، وامتلاك مهاراتها ليس بالأمر الهيّن على المتعلم؛ وبالتالي فالقراءة عند الإنسان الراشد المتعلم تأخذ شكل المطالعة، أو القراءة الناضجة الصامتة التي تعتمد أوّلاً على الرؤية البصرية التي تروم الوصول إلى الإمساك بالمعاني، والأفكار، أمّا بالنسبة للطفل المبتدئ فإنها تروم فكّ الرموز، والنطق بها في البداية، ثم بعد ذلك تأخذ المنحييْن: منحى فكّ الرموز، والفهم وفْق تطوّر الخبرة الذاتية للمتعلم، وتزايد الرصيد اللغوي لديه.
القراءة عملية من عمليات التعلم
إن القراءة تُعدّ من أهمّ وسائط التعليم الإنساني، من خلالها يكتسب المتعلم العديد من المعارف،وتتوسع أفكاره، واتجاهاته، بها يدرس الأنشطة اللغوية،وكذا المواد العلمية المقررة في المناهج التعليمية؛ والقراءة الحقّة تؤدي إلى نموّ شخصية القارئ، وتكاملها، وتفتح أمامه عوالم كانت مغلقة أمامه،وتساعده على الاندماج في محيطه الاجتماعي،والتعرف على مؤسسات المجتمع، وتعْــبُر به المسافات المكانية، والزمانية.

« إن القراءة عملية نشطة لا تحدث بين القارئ والكاتب إلاّ اعتمادٍا على المعنى المتبادل المفهوم بينهما، وبدون القارئ الذي يُبْدي تفاعلاً، وإرادة، وقصدًا، ونشاطًا، فلا يكون هناك تواصلٌ، ولن تنتشر أفكار الكاتب.»(6)
فالقراءة من هذا المنظور عملية من عمليات التفكير، كما هي خبرة حقيقية للقارئ،وخبرة بديلة بينه وبين كاتب النص، وأداة من أدوات الدراسة.
إن القراءة صورة من صور التفكير،حيث أن القارئ الجيد يفكّر مع الكاتب، قد يشاركه الرأي وقد يخالفه..فالقراءة الواعية الجيّدة تثير في القارئ العديد من القدرات، والمهارات..فقراءة الفقرة الواحدة على سبيل المثال من موضوع ما تتطلب قدرات ومهارات مثل: التنظيم،والتحليل،والتأمّل، والحكم، والمقارنة، والتركيب، والتقويم الناقد للمقروء، والاستنتاج.
أي أن عملية القراءة تتضمن العديد من القدرات مثل: التمييز البصري، وتمييز الحروف، والنطق بها، والربط بينها، والتعرف على الكلمات،وفهْم معناها، والتقدم المنتظم فوق السطور، والدقة في الحركات المراجعة للعيْنيْن، والمعدل المنتظم لسرعة القراءة.
خبرة المتعلم محدودة
إن المتعلم الصغير نظرا لخبرته المحدودة، وعمره القصير،وعدم اكتمال نموّه الفيزيولوجي، والنفسي، والاجتماعي يعْــسر عليه التغلب على صعوبات القراءة، واكتساب مهاراتها في مدة وجيزة؛ ممّا أدّى بالمبرمجين إلى أن يقسّموا المرحلة التعليمية في الابتدائي، وهي سنوات اكتساب مهارات القراءة إلى مرحلتيْن:
1ـ مرحلة اكتساب المهارات الأولى لنشاط القراءة.(مرحلة التعليم)
2 ـ مرحلة التعلم، حيث يتوسع نشاط المتعلم كمشارك في العملية التعليمية.
هاتان المرحلتان المهمتان في حياة المتعلم إذا ما وجدتا المعلم الكفء، والمنهاج التعليمي المناسب بكل مكوناته، والبيئة المدرسية المناسبة، وكذا تعاون الأسرة مع المدرسة؛ فإن المتعلم سيجتاز مرحلة التعليم القاعدي بنجاح، وسيتغلب على مهارات القراءة، وسيصير قارئا جيدا، إذ تصبح لديه أداة لكسْب المعارف.
الفشل في القراءة فشلٌ في التكيّف الاجتماعي
إن الفشل في القراءة في الحياة المدرسية، وحتى في خارجها تهديدٌ للقبول المدرسي، والاجتماعي للطفل، يُوحي له بالإحساس بالنقص، والانزواء عن الجماعة، والشعور بالدونية، وعدم التكيف مع الأقران،والمجتمع، وأنْ ليس له وجود فعلي كغيره، فلا يقدر على المشاركة في الصف كأقرانه، ولا المنافسة، عاجزٌ عن الفعالية، يرفض نفسه،ويرفضه الآخرون، ويشعر بالخجل، ولربّما اتُّهم بالغباء في المدرسة، والمنزل على أنه مخيّب ظنون والديْه.
وإذا كان الفشل في القراءة راجعًا إلى عوامل عدة، وليس إلى المتعلم وحده، فإنه سيتسبب في فشل المتعلم في كافة المواد الدراسية.
.. للمعلم نصيبٌ في أسباب الفشل
الكثير من المعلمين والمعلمات فهموا القراءة على أنها عملية تعليم الحروف متصلة، ومنفصلة، والربط بينها، والنطق بها نطقًا سليمًا، وتزويد المتعلم بزادٍ من الألفاظ؛ هذا يُعتبر معرفة آلية القراءة،وليس حقيقة القراءة.. علينا أن نفهم أننا لا نعلم القراءة لذاتها، بل نعلمها كي تكون وسيلة المتعلم لفهْم الحياة،والتكيّف مع تطوّرها؛أي أن تحقق هذه القراءة للطفل وظائفها المعرفية،والنفسية،والاجتماعية فتصله بأفكار الآخرين، وتساعده على التكيّف النفسي والاجتماعي معهم، وتنمّي ميوله، واهتماماته.
إن المعلمين بكل أسفٍ يعتقدون أن إتقان آلية القراءة يعني إتقان القراءة، ومن ثمّ لا يلتفتون إلى مهارات القراءة من فهْمٍ، وإدراكٍ وتحليل للمعاني والأفكار..فالفهْم لا يعني معرفة المعاني والأفكار فحسب، بل يعني قدرة المتعلم على ترجمة الرموز المكتوبة إلى مشاعر، وآراء، وعواطف تُغْني أحاسيسه، وتُسهم في تنمية شخصيته،ذلك أن هذا الفهم يتحقّق كلّما أكثر المتعلم من ممارسة القراءة الصامتة.(7) ويتدنّى إذا مارس القراءة الجهرية أكثر، تبعاً لاختلاف الحواس المشاركة في القراءتين. ولا شك في أن القراءة الجهرية مفيدة وأساسية، ولكن ذلك لا يعني الاهتمام بها وحدها، لأن القراءات التي تهدف إلى المتعة والتحصيل والبحث وحلّ المشكلات تنتمي كلها إلى القراءة الصامتة وتتمّ بوساطتها. وهذا يعني أن إهمال تدريب الطفل على القراءة الصامتة هو إهمال لوسيلة قرائية أساسية في حياته المدرسية والعامة.

إن الفشل في اكتساب مهارات القراءة معناه الفشل في اكتساب المعارف، بل في الحياة المدرسية كلها،غير أن الفشل في التحكّم في القراءة والاستفادة منها قد نجده لدى الذين يتقنونها أيضًا لأنهم لم يتعلموا كيف يوظفونها سواء في حياتهم المدرسية وفي خارجها.
يرى أغلب خبراء التربية، ورجال التعليم أن الفشل في استثمار القراءة لدى الذين يجيدونها إلى عوامل بعضها يعود إلى فترة التعليم القاعدي،وبعضها الآخر إلى الأفراد أنفسهم،ولعلّ من العوامل الرئيسية طريقة تدريس المعلم للنص سواء كان كنشاط قرائي، أم نصٍّ مرتبطٍ بمادة تعليمية أخرى،فالمعلم الذي يضمّ صفّه 40،أو 45 تلميذا لا يتمكن من إقراء كل تلاميذه، والتعرض إلى شروح الألفاظ، والتطرق إلى المعاني، والأفكار الجزئية، والربط بينها، وصولا إلى الفكرة الرئيسية للنص،أو تلخيصه، وهو مجبرٌ في هذه الحالة على استعمال القراءة الجهرية لتعويد تلاميذه النطق السليم..فالمتعلم قد يتقن القراءة الجهرية لكن يفتقد القدرة على تحليل النص، والتصرف فيه.
العديد من المعلمين والمعلمات يروّن القراءة الجهرية هي المعيار الذي يقيسون به نجاحهم في عملية التدريس، ويتناسوْن أن هذه القراءة وسيلة لتعلّم تقنيات القراءة، واكتساب مهاراتها النطقية، بينما القراءة الحقيقية التي تلازم الإنسان طوال حياته هي القراءة الصامتة.
كان لأبحاث العالم النفساني الأمريكي" ثوررنديك" التي أجراها على أخطاء التلاميذ الكبار في قراءة الفقرات، وكان له الفضل الأكبر جرّاء ذلك في تغيير معنى القراءة، فهي ليست عملية آلية يُكتفى فيها بنطق الحروف، والكلمات، ولكنها عملية عقلية معقّدة غاية التعقيد.
لقد كان للتغيّرات السياسية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات بعد الحرب العالمية الأولى أثرها في اتجاه المجتمعات إلى اتخاذ الديمقراطية نظام حكم، وأسلوب حياة يتسم بحرية التعبير، فظهرت الحاجة إلى المواطن القادر على الإسهام في معالجة مشكلات مجتمعه، والاشتراك بفعالية في المؤسسات الديمقراطية التي أُقيمت،ومن ثمّ صار الاقتصار في مفهوم القراءة على معنى النطق، والفهم ليس كافيا،لأنه يؤدي إلى تربية مواطن يقدس الكلمة المكتوبة، ولا يستطيع نقْدها، ومناقشتها.
لذلك ظهر تحوّلٌ جديد في مفهوم القراءة يركّز على القراءة الناقدة التي تمكّن القارئ من تحليل ما يقرأه، وينقده، ويُبدئ الرأي فيه، اتّفاقًا، أو اختلافًا، وبذلك صار مفهوم القراءة نطقًا، وفهمًا، وتحليلا، ونقدا..ممّا فتح المجال أمام تطبيق القراءة الصامتة.(8)
القراءة الصامتة ليست هي المطالعة
إن القراءة الجادّة والجيّدة تعتمد بالدرجة الأولى على القراءة الذاتية التي يمارسها الفرد، ووسيلتها في ذلك إمّا القراءة الصامتة، أي ما يُسمّى بالقراءة السريعة، أو 
المطالعة.
فالقراءة الصامتة هي عملية بصرية إدراكية، يتمّ الأداء فيها عن طريق العيْنيْن دون صوْتٍ،أو همْسٍ، أو تحرّك شفاهٍ، وتصاحب ذلك عملية فكرية تمكّن القارئ من فهْم النصّ المقروء اعتمادا على نفسه، أو بمساعدة المعلم إذا كان القارئ متعلمًا.
أمّا 
المطالعة فهي عملية أيضًا بصرية ذهنية غالبًا ما تكون دون صوْتٍ، وهي عملية فكرية تمكّن القارئ من فهْم النصّ المقروء اعتمادًا على نفسه، هدف المطالعة تدريب المتعلمين على الاطّلاع والبحث، وجمْع المعلومات اعتمادًا على أنفسهم.
نلاحظ أن القراءة الصامتة، و
المطالعة متشابهتان في الممارسة، والأهداف، ولكنهما يختلفان نسبيا..فالقراءة مرتبطة بمواضيع مقرّرة في المنهاج التعليمي المقرّر، بيد أن المطالعة تختلف عنها في الحصص والمواضيع والأهداف.استــثمار القراءة
من المفترض أن الإنسان الذي تجوز صعوبات مهارات القراءة، وصار بإمكانه أن يكون قارئا جيّدا يستثمر هذه الأداة الفعّالة، غير أن الواقع عكس ذلك؛ فأين الخلل يا تُرى؟ أفي طرق التعليم التي فشلت في تحبيب القراءة الناضجة والواعية لهذا الإنسان؟ أم في رجل التعليم الذي صار عمله سطحيا، يكتفي بأقلّ جهد؟ ولا يهمّه من تعليم المتعلم غير القراءة الجهرية التي ينطق فيها بالرموز، ويربط بينها للنطق بالكلمة دون فهْمٍ لمعناها..أم أن السبب المجتمع الذي يجافي الثقافة، ويجعل المواطن في يومياته يلهث وراء حاجاته المادية..
هي تساؤلات مستوحاة من التجربة، ومن الواقع المعيش الذي يجيب عنها بكل صدقية أنها من الأسباب الرئيسة التي لا تساعد لا القارئ المتوسط، ولا القارئ الأعلى تعلمًا وثقافة في الاستزادة من المعارف.
إن ما يعزّز مهارة القراءة للمتعلمين منذ السنة الثالثة من مرحلة التعليم الابتدائي الجزائري" القراءة الصامتة" و" 
المطالعة"لكن الواقع يبين أن أغلب المعلمين والمعلمات لا يفرقون بين " القراءة الجهرية" و" القراءة الصامتة"، حيث أن المعلم يركز على القراءة الجهرية بدعوى أنها الأفضل في التدربي على مهارات القراءة ويتحاشى عمْدا التعرض إلى بنية النص من حيث المعاني، والأفكار، ومناقشة آراء الكاتب، ونقدها، والحكم عليها، وتلخيص النص..

أهمية القراءة الصامتة 
لا شك أن مهارات القراءة الصامتة لا تُفَعَّل في حصة القراءة فقط ، فالمتعلم يقضي معظم الساعات في ممارسة عملية التعلم،فهو يقرأ مسائل الرياضيات،ويقرأ موضوعات التربية الإسلامية، وتجارب العلوم ونشاطات اللغة، ومواضيع الاجتماعيات، وموادّ النشاط، وغيرها،كل ذلك يقرأه باستخدام القراءة الصامتة ، كما أنه يستذكر دروسه ، ويقرأ التعليمات والإرشادات، وأوراق العمل، وأسئلة الاختبار قراءة صامتة، وهي التي ستلازمه كطريقة للتعلم الذاتي المستقل الذي يستمر معه مدى الحياة .
إذاً فالمتعلم يحتاج إلى توظيف مهارات القراءة الصامتة في كل ما يقرأه ،وبالتالي فالقراءة الصامتة أكثر استخدامًا في حياة الإنسان .
البرنامج التعليمي لمادة القراءة يؤكد على استثمار حصص القراءة في هذا المجال، ومنذ السنة الخامسة يخصص حصصًا خاصة للقراءة الصامتة.

المطالعة..أداة التعلم الذاتي والمستمر
لئن كانت المطالعة كما هو معروف هي مفتاح الوصول إلى مختلف فروع المعرفة الإنسانية، وهي من الوسائل الأساسية لتحقيق التعلم الذاتي، والمتواصل للفرد والمجتمع؛ ثم إن التعوّد علىالمطالعة ليس بالأمر الهيّن لأنها ترتبط بمجموعة من العوامل والظروف التي تحيط بممارسالمطالعة التي هي أعلى صُور القراءة..كما أن تعلم القراءة ليس هدفًا في حدّ ذاته، إنما هو لغرض اكتساب المعارف، والمعلومات من مختلف مصادرها، والاطلاع عليها، وإثرائها من القارئ ذاته.(9)
غير أن أغلب يهمل نشاط 
المطالعة فيعدها وقتًا للراحة من عناء بقية الدروس،ويترسخ هذا المفهوم في أذهان المتعلمين إذ يرونها حصة للاستراحة.
في هذه ال
حصة يأمر المعلم تلاميذه بإخراج الكتاب، وقراءة الموضوع قراءة متتابعة مملة حتى ينتهي الدرس وقد يذكر معاني بعض الألفاظ،وقد لا يذكرها أما تحليل النص، وبيان ما يتضمنه من أفكار ونقدها والتعليق عليها، وما وراء العبارات من معاني بعيدة، وقيم واتجاهات، وتوجيهات نافعة، أو تلخيص للنصٍّ، كل هذا لا يهتمّ به المعلم، بل إن بعض المعلمين يُحوِّل درس المطالعة إلى درس قواعد أو إملاء، أو قراءة، أو استدراك درس متأخر..
هذه من العوامل التي جعلت القراءة في مدارسنا نشاطًا آليا لا روح فيه،يُــنفّــر ولا يرغّــب في القراءة لا في المدرسة، ولا في خارجها، ومن العوامل المتسببة في أزمة المقروئية ببلادنا، ونشْر الأمية لدى المتعلمين.
ومن هنا لا نستغرب لمّا نجد ناشئتنا لا تقرأ، والكثير من خريجي الجامعات يتباهوْن بأنهم لم يقرؤوا كتابا واحدا منذ ودّعوا مقاعد الدراسة..معلمونا ومعلماتنا تتناقص معلوماتهم عاما بعد عام، بينما المعرفة تتفجر من حولهم، ويعزفون عن رفْع مستواهم العلمي، وهم مغتاضون من القرارات التي أخذتها وزارة التربية بسبب ذلك. 

القراءة الجادّة تنبني على التنظيم
إن القراءة الواعية هي قراءة تستند إلى مهارات التنظيم..فالقارئ الجيّد قارئ منظِّمٌ، قادرٌ على أن يكتشف التنظيم الذي اتبعه الكاتب، فيتفاعل مع المادة المكتوبة، محدِّدًا أطرها كلّما أمعن في القراءة، مكتشفًا العلاقة بين الفكرة الرئيسة، والأفكار الفرعية في النص، قادرًا أن يخرج باستنتاجات مهمّة سواء في اللغة، والقواعد، أم في الأفكار، أم في القيم والاتجاهات، أو بأحكام تتوافق، أو لا تتوافق مع آراء الكاتب.
لـــمهارات التنظيم في التعامل مع النصّ المقروء، والتمكّن منها أهميةٌ كبرى في القراءة المتكاملة التي تتطلّب عديدًا من المداخل المهمّة في تعليمها، وتعلّمها، والتدرّب عليها مثل: تدوين الملاحظات،، والتعليقات، والتلخيص، وإعادة هيكلة النص المقروء.(10)
إن التلخيص نوعٌ من الفكر المضغوط الذي يركز على الحقائق المهمّة، والأفكار الرئيسة في شكل مُوجزٍ مفيد، دالٍّ دون الكثرة المُرْبِكة،وتفيد الملخّصات في الدراسات الأدبية، والمقالات، والعلوم الاجتماعية، وليست مفيدة دومًا في مجال العلوم الطبيعية.
إن القارئ الجيّد الذي يحسن التنظيم قارئٌ مفكّرٌ لا يشارك المؤلف خبراته فحسبْ بل ينفعل بالأفكار، والشخصيات التي يقرأ عنها، إمّا وجدانيا، وإمّا عقليا،وإمّا هما معًا..إنه يدرك علاقة ذلك كله وفْق الأهداف التي يروم الوصول إليها؛وتبلغ درجة الفهم، والتفاعل أقصاها عندما يتمكن القارئ من جعْل ما يقرأ متكاملاً مع خبرته العامة في الحياة.(11) 

الحلم بالوصول إلى قراءة واعية نقدية..؟
أيمكن الوصول إلى يومٍ نكوّن فيه قرّاء جادين، واعين لهم القدرة على نقْذ ما يقرؤون ؟فالقراءة النقدية هي إحدى أهمّ صفات القراءة الجادة،وعامل من عوامل تكوين الشخصية المستقلة الحرّة، وهي القراءة التفاعلية التي يتحاور فيها القارئ مع الكاتب الندّ للند، ويشاركه بناء النص، أو يختلف عنه..فالقارئ الناقد لا يكون محايدًا، يتلقّى كل فكر، ويضمّه إلى محصوله الفكري.(12)
الفشل في استثمار القراءة 
إن الفشل في استثمار القراءة عندنا، وحُسْن توظيفها في التثقيف الذاتي والمجتمعي، والتحكّم في المحيط الاجتماعي بصورة أفضل، والرفع من الذوق العام يعود إلى عوامل عدّة بعضها يعود إلى المجتمع، ومنه الأسرة، والبعض يعود إلى التلميذ نفسه، ومدى استعداده البيولوجي، والنفسي،والعقلي، وتجاوبه مع العملية التعليمية، ومنها ما يعود إلى المنهاج التعليمي، وطريقة التدريس التي يعتمدها المعلم، ومدى اهتمامه، وتحكّمه في رسالته.
غير أننا نرى أن الفشل في توظيف القراءة لمرحلة ما بعد التعلم بكل مراحله، والعزوف عنالمطالعة الجيّدة الواعية يعود بالدرجة الأولى إلى مراحل التعليم ما قبل الجامعي، سيّما مرحلة التعليم القاعدي، حينما لا يعمل المعلم على تدريب المتعلمين على القراءة الواعية المبنية على فهم النصّ، وبنيته اللغوية والفكرية، وتذوّق ما فيه من جماليات، وأدبيات، والغوص في أفكاره، والمقارنة بينها، والحكم عليها، وتدوينها، والتحكم فيها، وتلخيصها بأسلوب التلميذ نفسه، وهذا يحصل في حصص القراءة الصامتة، وفي كل حصص المواد التعليمية الأخرى بدرجة أقل، ليست العبرة في كمّية الدروس التي يمرّ عليها المعلم، وتلامذته؛ إنما في كيفية الوقوف عند النصّ ودراسته، لا في قراءته فحسب..
لم ندرّبْ تلاميذنا على القراءة المستنِدة إلى التنظيم، والغوص في بنية النصّ، والتفاعل مع المقروء؛ فلا غرْو والحال هكذا من تدنّي مستوى القراءة والمقروئية، وارتفاع نسبة الأمية التي يحصرها الخبراء في ثمانية ملايين أمي وأمية ببلادنا.

هوامش:
(
1) ــ أ.صلاح الدين سعد الله، فتحي أحميدي/تعلّمية القراءة.االجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب.
(2) ــ د.حسن شحاتة/القراءة..معالم تربوية.ص 7 ط 2 مؤسسة الخليج العربي/القاهرة.
(3) ــ أ.محمد عدنان سالم./ القراءة..أوّلاً.ص26 ط2 1996 دار الفكر العربي.بيروت.
(4) ــ القراءة..أوّلاً.مرجع سابق ص38
(5) ــ المرجع السابق ص42
(6) ــ د.حسني عبد الهادي عمر/مهارات القراءة.ص5 المكتب العربي الحديث للطباعة والنشر( الطبعة،التاريخ، المكان)؟
(7) ــ د.سمر روحي الفيصل/أدب الأطفال وثقافتهم.ص65 ط 1998 منشورات اتحاد الكتاب العرب.دمشق .
(
8) ــ د.فتحي1977 دار الثقافة للطباعة والنشر.القاهرة.
(9) ــ 
المطالعة في الوسط المدرسي.ص5 سلسلة من قضايا التربية.إصدار المركز الوطني للوثائق التربوية.وزارة التربية الوطنية/الجزائر.
(10) ــ مهارات القراءة ـ مرجع سابق ـ ص191
(11) ــ أ.ماريون مونرو/تنمية وعي القراءة.ص233 ط1961 دار المعرفة.القاهرة.
(12) ــ أ.جمال إسماعيل إبراهيم/القراءة والثقافة.ص117 المجلة العربية.االعدد416 أغسطس 2011 السعودية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الغزو الفكري وهْمٌ أم حقيقة كتب: بشير خلف       حينما أصدر المفكر الإسلامي، المصري، والمؤلف، والمحقق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأ...