قصة قصيرة زمن الخــوف
بقلم : بشير خلف
إن ما يسعى إليه الإنسان السامي يكْمن في
ذاته هو ، أمّا الدنيء فيسعى لِما لدى الآخرين .
( كونفوشيوس )
ـ ألست أنت الذي زرعت الأمن والطمأنينة في نفوس أبناء القرية ؟ أأنت أم غيرك الذي جذّر في ناسها البسطاء حبّ الحياة والتعلق بالبقاء ؟ أما فتئت تكرر في كل مناسبة.
ـ الحياة يا ناس نعمة ..لننعمْ بها ..في مواساتك لغيرك تكرر دوما : النوائب امتحان لنا ..لِنتَحَدَّ هذا الامتحان ..لا نستسلمْ بسهولة ..لا نبكي ..إن بكاء الرجال ضعفٌ ومهانةٌ
ها أنك بكيتَ وأبكيتَ ..ولا تزال تبكي وتُبكي ..
* * * *
كان صمتُ تلك الليلة الموالية لحدث المأساة غريبا .. ملأ الحزنُ القلوبَ كما امتلأت الحناجر صمتا ..المفاجأة أصابت سكان القرية بالشلل ..بقدر ما سيطر الحزن ، انزرع الرعب في النفوس ..غدا المستقبل غامضا ..مخيفا ..كانت القرية آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من مصادر تنوّعت ..الأمن يسكن النفوس الريفية الطيبة القنوعة ..يشعر الجميع بفضاء الحياة الرحب ..فضاء يسع الجميع .
ليلتها الصمت لفّ القرية ..الظلام سربلها دون رحمة ..انقطعت الحركة ..كلٌّ آوى مبكرا إلى بيـته ..أيُّ الكلمات تعبر عن الهلع ..عن الخوف ..عن السخط ..أية حركة خارجية ..أي دقات على الباب كافية لإصابة البعض بالإغماء ..الكل يرهف السمع ليلتها ..لا يدري قد يكون مستهدفا ..
* * * *
يوم الحدث المشؤوم تقاطر سكان القرية والضواحي..ثم القرى والبلدات المجاورة ..تقاطروا بدافع الفضول بداية كحال أهل الريف ..ثم بدافع التقصّي والمعرفة ..ثم للمساعدة والمواساة ..
الحدث المشؤوم وقع أمام منزلك ..استهدفوك شخصيا ..أمِنْ حسن حظك أمن سوءه أنك ما توجهتَ صبيحتها إلى صلاة الصبح بالمسجد القريب ..أصابك أرقٌ ليلتها فما استطعت النهوض مبكرا .
يومها الكل تلهّف لرؤيتك ..لسماع الحقيقة منك ..أو حتى مجرّد إشارة ..تلميح بسيط يُوحي بشيء ولو بنزرٍ عن الحقيقة ..أنت الوحيد ومن استهدفوك تعرفون الحقيقة .
تساءلتَ بدوركَ ..لماذا حدث الذي حدث ؟ ولم وقع ؟ ما صدّقت وما زلت حتى اللحظة هذه غير مصدق بأن ما وقع استهدفك شخصيا لِمَحْوكَ من الوجود ..ألست أنت الذي عطاياك وصلت الجميع ؟ كرمك اللا محدود سعِـدَ به القاصي مثل الداني ..الأفراد والجماعات ..ألست مقصودا في كل المناسبات المحلية والجهوية وحتى الوطنية ؟ مؤسستك تحتضن العشرات من العاملين والفنيين ..ما بخلتَ قط في البذل والعطاء ..لازلت ولا تزال ..
* * * *
يوم المأساة تساءل الناس والحيرة بادية على وجوههم :
ـ ماذا وقع هذا الصباح بالضبط ؟
ـ لا أدري ..
ـ أنا في حيرة مثلك
ـ ما فهمنا شيئا
ـ ما أخبار البُنية ؟
ـ كيف هي حالتها ؟ قيل قد أُسرِع بها إلى المستشفى .
ـ قريتنا آمنة ما عرفت قط حدثا مشؤوما كهذا .
ـ حالة البنية خطيرة جدا ..قالها أحدهم وقد نزل من سيارته .
ـ إننا نجهل الذي وقع هذا الصباح أمام منزل الحاج إبراهيم .
ـ تناهى إلينا أن البنية لمّا اقتربت من مدخل منزل الحاج ، لفتت نظرها ولاّعة ذهبية اللون ..برّاقة ..جميلة الشكل بمحاذاة أرضية عتبة المدخل ..بدهشة الطفولة ..بفضول البراءة ..انحنت ..بالأنامل الغضة لمستها …فكان ما كان .
ـ يا للهول ويا للبشاعة ..البراءة تدفع ضريبة غيرها في هذا الزمن ال…. قالها أحدهم وقطرات من الدمع تنفلت من عينيه .
ـ حتى المعرفة لها ضحاياها الصغار أيضا ..نطقها أحدهم .
* * * *
عطاياك فرحٌ ..نعمة لذوي الحاجة ..فرج مستمرٌّ لعباد الله …منذ أن حطَطْتَ رحالك في تلك الربوع ..يوم أن عدت من وراء البحر ..عاهدت والدك وكبار البلدة ووجهاءها وهم يحتفون بك :
ـ أعاهدكم يا وجوه الخير بخدمة الجهة كلها وأناسها دون تحديد ودون تمييز ..حصاد سنين الغربة في الضفة الأخرى أنذرْتُه لخدمة هذه الربوع ..أُشهدكم جميعا على ذلك .
* * * *
صدقت في وعدك ..عطاياك استمرت ومستمرة ..مؤسستك متألقة ..الكلّ باركك ويباركك .
* * * *
الناس حولك صامتون ..حائرون ..يريدون تقديم يد المساعدة لك …كيف ذلك ؟ لا يدرون ..يريدون إشارة منك ..همهموا ..حنحنوا ..همسوا لبعضهم ..أوحوْا إليك أن تقول شيئا ..أن تفصح عن حقيقة ما وقع ..عن الأسباب ..عن بعضها ..ألحّوا وألحّوا ..جوابك في كل مرة هو البكاء .لحظتها بكيت وأبكيت .
في لقاءاتك الحميمية مع أناس البلدة ..مع الرفاق ..مع الأصدقاء وهم يستعرضون يومياتهم المتعبة ومآسي عصرهم التي تخنقهم وتحيل حياتهم إلى علقم ..دوما كنتَ تقول لهم :
ـ الحياة ما هي بحياة إنْ لم يكن بها الحلو والمر ..بها الخير والشر ..لماذا نحزن ..هي هكذا الحياة ..لماذا نبكي؟ ..لماذا يستولي علينا الحزن فيسلبنا متعة نعمها الكثيرة ..الحزن يأس ..هروب ..والبكاء دليل الضعف ..الرجال لا يبكون ..الحياة نعمة ..متعة ..فضاؤها يسع الجميع .
* * * *
كان صمت تلك الليلة الموالية للمأساة غريبا عن القرية الهادئة ..الوديعة ..ملأ الحزن القلوب كما امتلأت الحناجر صمتا ..ووُرِيت البنية ذات الربيع التاسع التراب عصر ذلك اليوم ..تطايرت صباحه أشلاء ..اختلطت الأعضاء المتناثرة بوريقات الكراسات ..وريقات دُوِّنت بها خلاصات بأنامل غضة تطايرت صاحبتها لحظتها انحنت بنية التقاط ولاعة ذهبية اللون ..جذّابة الشكل وُضعت بإتقان بمحاذاة مدخل الجار الثري صاحب المؤسسة ..قدمت البنية كعادتها ..تدق الباب كي تترافق مع رفيقتها وندتها ابنة صاحب المنزل الثري..تطايرت أشلاء ..تضمخت وريقات الكراريس بدمها الطاهر الزكي .. بدهشة الطفولة ..أطبقت على الولاّعة الذهبية اللون ..ولاعة وُضعت بإحكام ..وُصلت بجسم رهيب تحت التراب ..مصيدة كانت معدّة بإحكام لجسم أخر غير جسم البنية .
تطايرت البنية أشلاء ..صعب يومها لملمة الأطراف ..العضلات المتناثرة ..رحلت البراءة وهي تجهل لماذا تطايرت أشلاء ..رحلت وما تدري شيئا عن الأجسام الرهيبة التي تُزرع تحت وجه التربة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق