أشواك على الدرب
قصة قصيرة بقلم: بشير خلف
” لا يمكن أن تتعايش فكرتان في الذهن في نفس اللحظة
في عالم المعنويات ، كما لا يمكن أن يشغل جسمان حيزا واحدا في نفس الآن في عالم المحسوسات “
( بوشكين )
قبل أن نتبعثر خارج أبواب المعمل الذي أعمل به منذ عشر سنوات ، قال لي سائق المدير العام و البسمة تغطي وجهه، الذي شكّلت الأيام على مساحته تضاريس جدباء:
ـ مراد … أتمنى لك وقتا ممتعا خلال عطلة هذا الأسبوع.
كان يومها يرتدي بدلة جديدة بنية اللون … يطل من تحتها قميص حريري مرقط باللونين الأبيض و الأحمر، يحتضن من الأعلى صدره الضامر و رقبته المعروقة، كالقمصان التي يرتديها السيد المدير العام. لحظتها التقت نظراتنا … و كأنه قرأ زخم الأسئلة المتزاحمة في ذهني. ولّى وجهه شطْر سيارة المدير الفاخرة. بنشوة عارمة يعيد مسح زجاجها الأمامي …. بنظرة سريعة احتوت جسدي المنهك، هتف:
ـ إمّا أن تكون الحياة هكذا أولا تكون.
قلت له والحيرة تستولي علي:
ـ معذرة، سآخذ ابنتي إلى المستشفى أستأْذن.
استند إلى هيكل السيارة السّماوي الناعم اللامع . تصفيرة ذات إيقاع شعبي أطلقها عالية.. ضمّنها كل آيات السعادة.
* * *
ـ كما اتفقنا، سأتولّى إقناع جموع الفلاحين و أنت تَـوَلَّ إقناع جماعة المصلين بالمسجد . أه … خاصة. ذلك الإمام العنيد سعيد .أنا اليوم مرتاح، استطاع مسعود أن يقنع جلّ العمال بالمعمل. بالتأكيد أن المجلس الشعبي البلدي الجديد، سيتكون من كل العناصر الموالية لنا.
نطق بها السيد المدير العام لسائقه.
* * *
خرجت أسير في شوارع المدينة مضْربا عن الانضمام إلى سيارة نقل العمال العارية … هيكل عظمي يخترق شوارع البلدة و أزقتها المتربة. تتحرك كبهلواني يستعرض حركاته المضحكة و رقصاته. العمال يركضون لحاقا به. احتضنني الشارع الخلفي. تعلقت بيدي حقيبة صغيرة غالبا ما تكون معي صباحا، أضع فيها بعض المآكل . لا أدري لماذا تصرّ زوجتي المسكينة على أن آخذها يوميا. كرّرت لها مرات عديدة أن مطعم المعمل يقدم لنا وجبات مقبولة. في يدي اليسرى رقد منشور وُزِّع علينا في المعمل، حمله إلينا مسعود ذلك الشاب الوسيم الذي لا يعرف له العمال وظيفة معينة، بل ليس له تخصص موكل إليه. تحركاته كثيرة داخل أجنحة المعمل . احتار العمال في أمره. يعمل في كل أجنحة المعمل و يمدّ يديه لكل تخصص . يقاسم العمال همومهم و يتحمّس لقضاياهم . ينضم إلى مطالبهم. قالوا عميل مخلص للمدير … أذاعوا أنه نقابي متمرس. أسرّوا أنه يعمل لصالح أطراف ـ ما ـ هدفها الاستحواذ على المعمل … إنها تتحين الفرصة للانقضاض عليه ، قضية وقت فقط … قالوا و قالوا.
* * *
ما قدرتُ أن أكلمه في لحظة كان التعب يسكنني. يشلني . وحش ضارٍ كثيرا ما يقسو و يقسو عليّ وعلى أمثالي .
ضمني إليه مثلما ضمّ زملائي العمال. وعود كثيرة . أماني لا حصر لها . احتضنني مثلما احتضن غيري. البسطاء في كل أصقاع الدنيا قنوعون … يكتفون حتى بالحلم. احتضنني بعد لأْيٍ . غير بعيد ترامت الأكواخ و بيوت الصفيح كئيبة ذليلة في عياء تترنّح . ما فتئتُ أن ولّيت شطري نحوها. اعترض طريقي في أحد دروبها صِبْـيةٌ صغارٌ يسْبحون بمتعة وسط بركة آسنة عفنة، تستمد مكوناتها من مجاري متعددة تقيّأت بها الأكواخ المترامية. مجموعة من كبار السن تحلّقوا غير بعيد، نظراتهم مركزة على هذه الورقة التي يلقيها هذا اللاعب أو ذاك.
* * *
حافي القدمين . إفرازات أنفية مقززة تسيل مغطية انخفاضات مساحة الوجه ، مشكِّلة على ارتفاعاته سبخةٌ بيضاء. استقبلني بضحكة بلهاء. مددت يدي إلى جيبي أبحث عن قطعة نقدية يتيمة قد تكون احتمت في ركن مُنْـزوٍ من أركان الجيب المُعادة خياطته أكثر من مرة. قطعة يتيمة ما وصلتها أصابع يدي ابني الرابع ذي الثاني عشر عاما، ابني الذي يتسلل فجر كل يوم صوب المخبزة الوحيدة بالبلدة،جلْبا لمادة غذائية تتقوّت بها أسرة كثُر ويتكاثر أفرادها ، وليس في مقدورها استبدال هذه المادة بغيرها.
طمْأن رجل أعمال زار البلدة السكان بإقامة مشاريع ضخمة توفر الشغل و الدخل الوفير لكل الشبان البطالين . بالأمس عاد الابن من المخبزة فارغ اليدين، صاحبها أقلع عن بيع الخبز في مخبزته، وجه زبائنه نحو الدكاكين التي تولّت المهمة.
كثيرا ما ألوم نفسي و أنا أراه في أصباح الأيام الصقيعية يهمّ بالخروج، و الظلام يلفّ الحي. مضى على تثبيت أعمدة الكهرباء به قرابة الثلاثة سنوات . هياكل في العراء تلتهمها عوامل الطبيعة … تنخرها … ما تسرّبت إلها الحياة بعد.
* * *
إن المجلس الشعبي الجديد طاقة فعالة .. برنامج واعد و طموح … يتعهد أمامكم بتحسين حياة كل مواطن .. عبارة تقيأ بها رئيس البلدية في المجلس السابق خلال الحملة الانتخابية السابقة. الدّرب الذي يحتضنني ذليلا .. يستقبلني بوجه حزين .. يقول لي بأسىً و هو يمسح دموعه:
ـ كلُّ الأيام كئيبة، تبعث في النفس الأسى .. بل النفور و البغض لهذا القدَر الذي استماتوا أن يكون محتوما .. قدَرٌ حمّلني هموم هذه الأنفس الضائعة في مهب الرياح.
أتى صوته مشروخا كصوت صحن طيني أتت عليه عوادي الأيام، سقط من عُـلُوٍّ:
ـ خبز … خبز … عمّي …
التصق بي . احتمى بجسدي المنهك المثقل بأعباء أبناء ثمانية. ما غطى الريش أبدانهم النضرة بعدُ. كقطة صغيرة تنشد الدفء تسلل داخل معطفي البالي.
ـ واصلْ طريقك يا رجل. قالها شيخ هرمٌ مفترشٌ قطعةً من الورق المقوى، بمحاذاة جدار طيني فقد معالمه. تكدست غير بعيد منه أكوام القمامات … كالذباب الجائع تجمّع الأطفال وسطها في حركات للأطراف لا تهدأ. الذباب بدوره مصرٌّ على غزْو المكان، لمّا أعيته الحيلة اكتفى بالطيران الهستيري فوق رؤوس الصبية الغُزاة . مِلْحاحًا . ينشد الذباب مراعاةَ حقه في الغنيمة. قلت للشيخ و الفرصة خِفْـتُ عليها أن تضيع:
ـ تعيسٌ أنا في هذه اللحظة يا عم … رهيب أن يفقد المجتمع شابا كهذا، إنه في ربيع العمر.
أرسل نظره بعيدا، كمَنْ يتقصّى معالم حلم رآه منذ زمن، ويده التي فقدت كل نضارة، راحت تعبث بشعيرات من لحية غزاها الشيب … الزمان ترك بصماته القاسية على وجه يحملها.. بصوت متهدج، انزلقت كُليْماتٌ متقطعةٌ من بين شفتيه .. كأنه ارتأى ألاّ جدوى من كلام يُـكرَّرُ .. ويُكرَّر:
ـ إنه ولدي الوحيد يا رجل ، تعيسٌ أنا و الله ملّتْ أذناي هذه الشفقة المستمرة . اتركوا هذا الابن التعيس. هل ألحق الضرر بأحد ؟ قال الشيخ ذلك.
* * *
وضع المنشور في يدي برفق، ثبّت عينيه في عيني. اقترب مني بوجهه الباسم. بلهجة مؤدبة قال:
ـ أنا آسف على الإزعاج يا صديقي مراد، لا مفرّ من إعلامك تواّ: مساء الغد الجمعة سيقع تجمعٌ كبيرٌ في ساحة البلدة .. أنت فاهمٌ ما أعني … انتخابات المجالس المحلية قريبا.
تذكرت حينئذ الحوار الذي تبادله رجال الحي في إحدى الليالي. سمعتهم و أنا عائد من العمل مارّا بالقرب منهم:
ـ تحمل القائمة هذه المرّة أسماء جديدة. اختفت بعض أسماء عهدناها دوما موجودة.
ـ أسماء في القائمة لا نعرف عنها شيئا.
ـ بل ما سمعنا بها، و ما رأينا أصحابها.
ـ قيل أنهم أصلا من هذه المنطقة، يظهرون في مثل هذه المناسبات.
ـ لا يهمّ الأسماء، ما يهمّ النية الخالصة ، والصدق في العمل .
ـ الوعود كثيرة.
تصدّر الرجالَ محمودُ الذي فقد ابنه البكر ذا الخمسة عشرة سنة، قضى عليه مرضُ التدرّن الرئوي، كلمات الطبيب الذي فحص كل أفراد العائلة بعد مواراة الابن المتوفى التراب، تهوي على رأسه مطرقة ثقيلة … تهصر دماغه هصراً:
ـ الموت سيلاحقك أنت و عائلتك ، قد يقضي عليكم واحدا، واحدا طالما أنتم متمسكون بالبقاء في ذلك الحي.
برقت عيناه . أرسل نظره بعيدا ، بعيدا إلى قمة الجبل المُطلّ على البلدة … شدّته الذكريات إلى ماضٍ عزيز عليه يوم أن كان هناك قائد فرقة للمجاهدين، ما انفك يكرّر على مسامعهم:
ـ وجه بلدنا الحزين، تأكدوا يا رفاق أنه سيتحول إلى وجه ضاحك مليء بالحياة. ضحكته ستضمّنا جميعا. إشراقة الشمس في ربوعه تعيد البسمة إلى الجميع.
* * *
أرسل محمود نظره بعيدا. ابتسم بمرارة. بصوت خافت مثْقلٍ قال:
ـ عاش بداخلي حُلْم رائع منذ أن وعدني رئيس البلدية في مكتبه الفخم بالحصول على مسكن من أول حصة تُنجز. أقسم بالله يومها أن لا يهدأ له بالٌ إلاّ إذا سلمني المفتاح ، و تسلّمه غيري مرات ومرات. همس في أذني يومها :
ـ هل تعجبك عمّي محمود الإقامة في الحي الجديد الذي ننجزه بمحاذاة الطريق الوطني ؟.
ما وجدْتُ غير يديّ المرتجفين تشدان بحرارة على يده أودّعه بهما و دمعة تنزلق من عيني التي أجريتُ لإحداهما ذات يوم عملية جراحية لاستخراج حصاة منها كانت قد تطايرت بمعية أُخيّات لها، بفعل انفجار قذيفة من القذائف الكثيرة الموجهة من إحدى مراكز العدو المقابلة.
دمعة انزلقت تطلّ على عالم اختنقت فيه الدموع .. سيلانها ما عاد يثير العواطف الجامدة . رؤيتها تسبب التقزز لدى البعض . من يومها و الحلم يكبر … و يكبر، و النفس أرض خصبة تنتظر مَن يزرع فيها بيتا يحتضن عائلة. يتربص بها داء خطير .. شرس لا يرحم للانقضاض عليها في كل آن .. تتالت الأيام و فقدت الأرض طراوتها و تشقق أديمها و تصلبت قشرتها.
ـ ما أروع الأمل في داخل الإنسان، إنه الجنة التي لا تشيخ في الفؤاد .. قالها أحدُ الحاضرين.
قاطعه محمود بحدة:
ـ لو كنتُ أملك سلطة لأمرتُ كل مسؤول بتقديم كشْفٍ كاملٍ لما أُنجِز و لم يُنجز في عُهْدته كمسؤول .
ـ الصبر و الأمل بلْسمان شافيان يا ولدي .. نطق بها الشيخ.
ـ الكلمات تعفّنت . تفسخت داخلي.فقدت وظائفَها مثلما تفقد الخلايا وظائفها داخل جسدي، عبارة ودّع بها محمود الجماعة.
* * *
انفلت المنشور منّي دون وعي، و لمّا شعرت بذلك، عنَّ لي أن أتركه حيث سقط. تشخّص لي لحظتئذ مسعودٌ بقامته المديدة و قدّه الوسيم يرشقني بسهام اللّوم فوجئتُ وهو يسلمني المنشور، من عادتي إذا سلمني أحد وثيقة … أي وثيقة أسارع بالتهام ما بها بنظرة سريعة سخطت على نفسي فيما بعدُ. أحيانا كثيرة نسخط على أنفسنا إمّا لبلاهتنا أو لغفْلتنا أو لطيبتنا، أو لكلها مجتمعة … أحيانا نُصابُ بالتصلُّب … بالتجمُّد حيال مواقف تتطلب منا السرعة و التحرك لاتخاذ موقف.
* * *
في مدخل الحي الذي أقيم به و الذي سلخ من عمري عشرين عاما و هو يزداد تضخما، مثل كبد يرفض صاحبه احترام شروط الحمية التي وضعها له الطبيب المعالج . الأكواخ الحزينة مُلقاة بهمجية. لفت نظري جمعٌ من سكان الحي قد توزعوا في دائرة كزرع نما عبر مساحة منخفضة نجحت في الاحتفاظ بقطرات مائية إضافية جادت بها السماء، بدلا من أنحرف صوْب الدرب الضيق الذي يرتمي به بيتنا الطيني عليلا، جذبني الفضول إلى حيث الدائرة التي نجحت في استقطاب العدد الكبير من سكان الحي.
حالما توقفت جاءني صوت من الخلف .. هو صوت ألِـفَتْهُ أذناي .. إنه قريب من قلبي:
ـ يُعدّون العدّة لإطلاق الكهرباء إلى حيّنا يوم الغد حسب زعمهم … همس بها بوجمعة جاري في أذني.
لفت نظري غير بعيد لافتةٌ عُلّقت حديثا، خُطّتْ عليها عبارة بخط رديء:
ـ قضايا المواطن الأساسية من اهتمامات المجلس الجديد.
تحتها منشور أُلصِقَ على لوحة عريضة .. تتالت به أسماء يتصدّرها اسم مسعود بالأنوار.
اختنقت الكلمات في فمي . استحال وجهُ مسعود الوسيم الملائكي إلى شيطان بشع، راح ينفثني نارا حارقة . و أنا هاربٌ و هي تأخذ بتلابيبي . استجمعت قواي لإطفائها . ما قدرت .حاولت وحاولت .رويدا، رويدا خارت قواي .. انهرْتُ .. سقطتُ على الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق