الخميس، 28 فبراير 2013

شعراء المناسبات … والزردات


 شعراء المناسبات … والزردات …
   الشاعر حمري بحري      

 يبقى الشعر أرقى أنواع الكتابة الإبداعية؛ لأنه الفن الذي تتجلى فيه عبقرية اللغة، في تخطيها للمألوف من الكلام إلى الكلام الذي يرمز ولا يشرح، يشير ولا يفصح، مستعينة في ذلك على قدرة الشاعر في تشكيل الكلمات، ليصنع منها صورا تفتح في الذهن المعنى الذي أراد الشاعر أن يوصله إلى الناس. وشعراؤنا اليوم على كثرتهم، مع استثناء القلة القليلة، يتعاملون مع اللغة كما يتعاملون مع الزردات، وكأنها شيء ثابت، يتحركون ولا تتحرك معهم عندما يكتبون… لأنهم شعراء بلا قضايا يدافعون عنها، ليس في كتاباتهم ذلك الهم الذي يحرك الشاعر من الداخل، ليصبه في وعاء اللغة في الخارج؛ لأن الكلمات كائنات حية، تتنفس أنفاس الشاعر، وهو يراودها عن نفسها، لتمنحه بعضا من سرها وبعضا من شذوذها الجميل؛ لأن اللغة في الكتابة بشكل عام، ليست محايدة، بل هي الجزء الأهم في عملية الخلق؛ لأنه بدونها تنعدم الفكرة، كما تنعدم القصيدة، وكلما كانت الفكرة واضحة وتبعث على الحيرة والقلق، إلا وكانت اللغة تتقمص هذه الحيرة وهذا القلق، إذا كان الشاعر ملما بخباياها؛ لأن اللغة بيت القصيدة، وحصانها، ونبعها الذي تشرب منه، والشاعر المبدع، هو الذي يتحرك، ويحرك اللغة في اتجاه المتلقي.


        
          صحيح أن الشعر نخبوي، كفعل في حياة الناس، لكن ما المانع أن نجعل منه ذلك الفن الشعبوي الذي يفهمه معظم الناس، دون أن يفقد شيئا من روح الفن الرفيع … وهذا ما فعله أبو الطيب المتنبي، والبحتري ، وأبو نواس، وما فعله أيضا أبو القاسم الشابي، وبدر شاكر السياب، والجواهري، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وسميح القاسم ، ومحمود درويش، ومظفر النواب … عندما تقرأ لهؤلاء الشعراء، ولغيرهم من عمالقة الشعر العالمي، تشعر بأنك في حضرة الشعر، لقدرتهم على الغوص في تفاصيل الحياة بكل أفراحها وأحزانها، من خلال التصوير الرائع، الذي تصنعه الكلمات، في جسد القصيدة.
         
            وما يؤسف له اليوم حقا، أن شعراء الزردات والمناسبات يخشون أن يشط خيالهم إلى ما لا يجوز لهم التفكير فيه، والتعبير عنه، ويبقون سجناء المألوفات، والتملق والشيتة لمن هم أعلى في المسؤوليات … ولا يجرؤون على اقتحام المجاهيل، واقتحام الممنوعات، التي تحرم العقل من تلك المغامرة الذهنية التي بدونها لا يوجد فكر، ولن توجد حضارة. والمغامرة التي نعنيها، هي المغامرة في الكشف عن الصيغ والأساليب الجديدة التي تكنزها اللغة، وفي الكشف أيضا عن الأفكار التي تطرح البدائل لما هو سائد داخل المجتمع. لكن ما هي الأفكار الجديدة التي يطرحها شعراؤنا في قصائدهم…
        
       قصائد شعرائنا لا نلمس فيها معاناة الناس، ولا انشغالاتهم، هي كلام في كلام، الشعر والفن عموما، هو تضحية ما بعدها تضحية، ولكي يكون الشاعر شاعرا، أن يكون صادقا مع نفسه، ومع شعبه، واضعا المصلحة الشخصية جانبا، وأن يكتب بمسؤولية الفرد الكامل، وأن يبعد ذلك الشرطي القابع بذاته، والخوف لا يولد إلا الخوف.
         
            فما أكثر القضايا التي تمس حياة الناس، ولها تأثير بالغ على مستقبل الأجيال القادمة، وتمر مرور السحاب، دون أن يكون لكتابنا أو شعرائنا رأي فيها، أو موقف منها، والكاتب أو الشاعر فيما أتصور هو صاحب رأي، ورأيه يبقى مجرد رأي، لا معارضة فيه؛ لأن المعارضة تكون للأحزاب  التي تستطيع تجنيد مناضليها في مسيرات أومظاهرات للتنديد بمسألة من المسائل، أما الكاتب صاحب الرأي، فقد يكون رأيه محل اهتمام في حالات نادرة، وفي معظم الحالات محل إهمال وتحذير، بحجة أنه تحريض للرأي العام …
    والحقيقة، أن الشعر ـ والفن عموما ـ جاء ليقول القول المخالف…     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...