التصوّف والجمال
بقلم: بشير خلفالتصوّف من حيث هو ظاهرة سلوكيّة وعباديّة، وتطهير للنفس الإنسانيّة وتأمل وفكر في الوجود، أصيل في الإسلام. فالتربية الروحيّة في المجتمع الإنسانيّ وصياغة شخصيّة الإنسان في ظلها لكي تحفظ توازنها أمام مغريات الحياة، كانت من المهمات الواضحة للوحي (القرآن والسنة).(1)
فالقرآن الكريم قائم أساساً على الدعوة إلى الله تعالى وعبادته، وتطهير النفس الأمّارة بالسوء، وبيان سبل الاستقامة والسلوك الموزون في الحياة.
وإنّ الإيمان العقليّ المجرد بخالق الكون ثم بالقيم والفضائل التي تنبعث من هذا الإيمان لا يمكن أنْ يجعل من الإنسان يقظ الحس، رقيق الوجدان، مستقيم السلوك، رباني المشاعر، متطلعاً إلى رضوان الله بشوق وانتظار.
ونحن إذا قرأنا القرآن الكريم وجدنا آيات كثيرة تدعو الإنسان إلى الجانب الروحيّ من حياته، ضمن الإطار العام في الكيان الإنسانيّ المتكامل.
فقول الله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [الحجر: 99]، وقوله عز وجل: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا) [السجدة: 16]، وقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [الشمس: 9-10]، وآيات كثيرة شواهد على اهتمام الإسلام بتربية الروح وتعويد النفس على الطاعة عن طريق العبادة الشاملة في الحياة كلها. ولقد أحدثت التربية النبويّة الشريفة تغييراً كلياً في النفوس، وأيقظت الأرواح، ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته من بعده إلى تأمل كتاب الله، فأشرقت قلوب صحابته، واقتدوا به صلى الله عليه وسلم في عدم إعطاء حياة الشهوات أكثر من حجمها، وعدم التذلّل لها، وتميّز من بينهم جمع من خالص أصحابه، كانوا -كما وُصِفوا- رهبانًا بالليل فرساناً بالنهار، استغرقوا في العبادة والصلاة وقراءة القرآن والكفاح اليومي على نهج النبوّة والاقتداء الكامل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ورث هؤلاء الصّحابة في مسلكهم في العبادة كبار التابعين وتابعيهم، واستمر هذا الاتجاه الذي سمّي بالزهد في المجتمع الإسلاميّ، نتيجة تطور أوضاعه. إذ كلما استبدت المغريات المادية بالناس، وكثرت الآثام، وظهرت المفاسد، وانتشرت المظالم، علت الدعوة إلى محاربة النفس الأمّارة بالسوء.
هذه التربية السامية تغرس في الإنسان السلوك الجمالي الذي ينزع نحو الخير والحقّ، ويستمدّ سلوكياته من الجمال المطلق..الجمال الإلهي.
هناك اهتمام كبير بالجمال المطلق في عالم التصوّف، هاهو الشاعر المتصوّف الشهير ابن الفارض ( ت : 632 هـ ) يقول في ذلك :
وصرّحْ بإطلاق الجمال، ولا تقلْ بتقييده ميْلاً لزُخْرُفِ زينةٍ
وهذا الجمال الذي يتحدّث عنه الفلاسفة والمتصوّفة هو جمالٌ روحاني ؛ إنه جمال الربوبية .. جمالُ المثلِ الأعلى .وبرز في الفكر الإسلامي إزاء هذا الفكر الجمالي المثالي فكرٌ جماليٌّ ماديٌّ، يذهب أصحابه مذهبا مخالفا، إذْ لا يروْن في الكون قُبحا ، فكل ما خلقه الله جميلٌ، ودليلهم في ذلك قولُ الله تعالى : الذي أحْسنَ كلَّ شيءٍ خلقه .{ السجدة : 7} . وكذلك قوْلُ الله تعالى : صُنْع الله الذي أتْقنَ كلَّ شيءٍ . {النمل : 88 }.وانتهى هؤلاء من بعد إلى أنّ الأشياء الجميلة مظهرٌ من مظاهر الحقّ، وسموُّها: المظاهر الجمالية .
ابن منظور في ـ لسان العرب ـ يرى الجمال الحقيقي في السلوك الظاهري والباطني للإنسان :« … المسلم مدعوٌّ إلى الاتّصاف بالجمال الذي هو البهاء، والحُسْن في العقل وفي الخُلُق، وإلى تنمية إحساسه بالجمال الذي أوْدعه الله سبحانه في الكوْن: جمال الصورة، وجمال المعاني على حدٍّ ســواء .»
كما كان للأفكار الصوفية تأثيرٌ على مفهوم الجمال ، حيث تقوم الفكرة الأساسية لدى الصوفية : أن الإنسان يستطيع أن يتّحد في ذات الله روحيا عن طريق الوجْدِ، وحياة التقشّف ، والتنسّك ، والعبادة الخالصة ، وتنقية الروح والنفس من جميع الرغبات ، والشهوات الدنيوية..ومتى يصبح في حضرة الذات الإلهية يدرك أن الجمال الحقيقي هو فيما يرى من نور، وما جمالُ العالم إلاّ انعكاسٌ للجمال الإلهي .إن الجمال الإلهي ظلّ مصدرا ثريّا للدراسات الجمالية القيّمة إلى يومنا هذا ، تدور هذه الدراسات في معظمها حول المراتب الأربع التالية : جمال الذات ، وجمال الصِّفات ، وجمال الأفعال ، وجمال الأسماء .(2)
على أن الفكر الجمالي في الإسلام اغتنى بذلك الجدل الدقيق الدائر حول منشإِ الحُسْنِ والقُبْح ، فالأشاعرة مثلا يذهبون إلى أن : " الواجبات كلّها بالسمع، والمعارف كلها بالعقل ." أمّا المعتزلة فيروْن :" أن المعارف كلها معقولةٌ بالعقل، واجبةٌ بنظرِ العقل..والحُسْنُ والقبحُ صفتان ذاتيتان للحَسَنِ والقبيحِ . قد يرى البعض أن هذا الجدل من الترف الثقافي والحقيقة إنما هو منْحى اعتقادي فلسفي يُلقي بظلاله على مشكلات مهمة بكينونة الإنسان ومصيره مثل : الثواب والعقاب، والمسؤولية، والحرية.
هوامش
(1) ـ د. بدران بن الحسن.نظرة في مفهوم التصوف الإسلامي.موقع بحوث ودراسات
(2) ـ أ . أحمد محمود الخليل .علم الجمال والثقافة الإسلامية .مجلة الفيصل .العدد 269 .
فالقرآن الكريم قائم أساساً على الدعوة إلى الله تعالى وعبادته، وتطهير النفس الأمّارة بالسوء، وبيان سبل الاستقامة والسلوك الموزون في الحياة.
وإنّ الإيمان العقليّ المجرد بخالق الكون ثم بالقيم والفضائل التي تنبعث من هذا الإيمان لا يمكن أنْ يجعل من الإنسان يقظ الحس، رقيق الوجدان، مستقيم السلوك، رباني المشاعر، متطلعاً إلى رضوان الله بشوق وانتظار.
ونحن إذا قرأنا القرآن الكريم وجدنا آيات كثيرة تدعو الإنسان إلى الجانب الروحيّ من حياته، ضمن الإطار العام في الكيان الإنسانيّ المتكامل.
فقول الله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [الحجر: 99]، وقوله عز وجل: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا) [السجدة: 16]، وقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [الشمس: 9-10]، وآيات كثيرة شواهد على اهتمام الإسلام بتربية الروح وتعويد النفس على الطاعة عن طريق العبادة الشاملة في الحياة كلها. ولقد أحدثت التربية النبويّة الشريفة تغييراً كلياً في النفوس، وأيقظت الأرواح، ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته من بعده إلى تأمل كتاب الله، فأشرقت قلوب صحابته، واقتدوا به صلى الله عليه وسلم في عدم إعطاء حياة الشهوات أكثر من حجمها، وعدم التذلّل لها، وتميّز من بينهم جمع من خالص أصحابه، كانوا -كما وُصِفوا- رهبانًا بالليل فرساناً بالنهار، استغرقوا في العبادة والصلاة وقراءة القرآن والكفاح اليومي على نهج النبوّة والاقتداء الكامل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ورث هؤلاء الصّحابة في مسلكهم في العبادة كبار التابعين وتابعيهم، واستمر هذا الاتجاه الذي سمّي بالزهد في المجتمع الإسلاميّ، نتيجة تطور أوضاعه. إذ كلما استبدت المغريات المادية بالناس، وكثرت الآثام، وظهرت المفاسد، وانتشرت المظالم، علت الدعوة إلى محاربة النفس الأمّارة بالسوء.
هذه التربية السامية تغرس في الإنسان السلوك الجمالي الذي ينزع نحو الخير والحقّ، ويستمدّ سلوكياته من الجمال المطلق..الجمال الإلهي.
هناك اهتمام كبير بالجمال المطلق في عالم التصوّف، هاهو الشاعر المتصوّف الشهير ابن الفارض ( ت : 632 هـ ) يقول في ذلك :
وصرّحْ بإطلاق الجمال، ولا تقلْ بتقييده ميْلاً لزُخْرُفِ زينةٍ
وهذا الجمال الذي يتحدّث عنه الفلاسفة والمتصوّفة هو جمالٌ روحاني ؛ إنه جمال الربوبية .. جمالُ المثلِ الأعلى .وبرز في الفكر الإسلامي إزاء هذا الفكر الجمالي المثالي فكرٌ جماليٌّ ماديٌّ، يذهب أصحابه مذهبا مخالفا، إذْ لا يروْن في الكون قُبحا ، فكل ما خلقه الله جميلٌ، ودليلهم في ذلك قولُ الله تعالى : الذي أحْسنَ كلَّ شيءٍ خلقه .{ السجدة : 7} . وكذلك قوْلُ الله تعالى : صُنْع الله الذي أتْقنَ كلَّ شيءٍ . {النمل : 88 }.وانتهى هؤلاء من بعد إلى أنّ الأشياء الجميلة مظهرٌ من مظاهر الحقّ، وسموُّها: المظاهر الجمالية .
ابن منظور في ـ لسان العرب ـ يرى الجمال الحقيقي في السلوك الظاهري والباطني للإنسان :« … المسلم مدعوٌّ إلى الاتّصاف بالجمال الذي هو البهاء، والحُسْن في العقل وفي الخُلُق، وإلى تنمية إحساسه بالجمال الذي أوْدعه الله سبحانه في الكوْن: جمال الصورة، وجمال المعاني على حدٍّ ســواء .»
كما كان للأفكار الصوفية تأثيرٌ على مفهوم الجمال ، حيث تقوم الفكرة الأساسية لدى الصوفية : أن الإنسان يستطيع أن يتّحد في ذات الله روحيا عن طريق الوجْدِ، وحياة التقشّف ، والتنسّك ، والعبادة الخالصة ، وتنقية الروح والنفس من جميع الرغبات ، والشهوات الدنيوية..ومتى يصبح في حضرة الذات الإلهية يدرك أن الجمال الحقيقي هو فيما يرى من نور، وما جمالُ العالم إلاّ انعكاسٌ للجمال الإلهي .إن الجمال الإلهي ظلّ مصدرا ثريّا للدراسات الجمالية القيّمة إلى يومنا هذا ، تدور هذه الدراسات في معظمها حول المراتب الأربع التالية : جمال الذات ، وجمال الصِّفات ، وجمال الأفعال ، وجمال الأسماء .(2)
على أن الفكر الجمالي في الإسلام اغتنى بذلك الجدل الدقيق الدائر حول منشإِ الحُسْنِ والقُبْح ، فالأشاعرة مثلا يذهبون إلى أن : " الواجبات كلّها بالسمع، والمعارف كلها بالعقل ." أمّا المعتزلة فيروْن :" أن المعارف كلها معقولةٌ بالعقل، واجبةٌ بنظرِ العقل..والحُسْنُ والقبحُ صفتان ذاتيتان للحَسَنِ والقبيحِ . قد يرى البعض أن هذا الجدل من الترف الثقافي والحقيقة إنما هو منْحى اعتقادي فلسفي يُلقي بظلاله على مشكلات مهمة بكينونة الإنسان ومصيره مثل : الثواب والعقاب، والمسؤولية، والحرية.
هوامش
(1) ـ د. بدران بن الحسن.نظرة في مفهوم التصوف الإسلامي.موقع بحوث ودراسات
(2) ـ أ . أحمد محمود الخليل .علم الجمال والثقافة الإسلامية .مجلة الفيصل .العدد 269 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق