الخميس، 28 فبراير 2013

مجموعة ظلال بلا أجساد


ظلالٌ بلا أجساد للقاص الجزائري
خلف بشير
من جمالية التشكيل إلى فتنة الرؤيا
عرض : مصطفى بلمشري *
خلف بشير هو أحد الأدباء الجزائريين الذين أثْروا الساحة الأدبية الجزائرية بعدّة مؤلفات ، فعرفه القارئ كاتبا ، وباحثا ، وقاصّا أسهم بشكلٍ فعّالٍ في إنعاش الحياة الثقافية بمختلف المقالات ، وخاصة في منطقة الوادي ، حيث يرأس حاليا الجمعية الثقافية الولائية : " رابطة الفكر والإبداع ".
صدرت له المجموعات القصصية التالية :
1 .أخاديد على شريط الزمن .
2. القرص الأحمر.
3.الشموخ.
4.الدفْء المفقود.
5.ظلالٌ بلا أجساد( آخر المجموعات التي نحن بصدد دراستها ).
تكشف لنا كتابَاتِه ، وممارسَتهِ الإبداعيةِ ، وتحمل في طيّاتها رؤى فنية ، وجمالية التشكيل القصصي .ظلالٌ بلا أجساد قصصٌ تستمدّ فلسفتها من وحي الاهتمامات المحورية للناس ، وتستخلص مفاتيحها ممّا يزخر به الواقع الجديد من تناقضات ، وأزمات بحيث تتّسم هذه الأعمال بالواقعية الجديدة التي تهتمّ بتقديم الواقع من خلال قداسته ، وعلاوة على ذلك إنها تحتفي بجماليات الإبداع ، وتشتغل الرؤى الفنية لإنجاز نصٍّ قصصي تتضافر فيه دلالاتٌ إيجابية جمالية ، تبدو أحيانا قادمة من نصوص غائية ، ثم الاشتغال عليها من أجل الإيحاء بأجواء واقعية تنسجم مع الأجواء الواقعية ؛ فالكاتب بشير خلف لو يكتف بتصوير الواقع كما هو ، فهو يستخدم وجدانه ، وعاطفته في اكتناه الواقع في حركته المتغيّرة .
ودأبَ الكاتب بشير على روح المغامرة اللغوية ضمْن سياق العمل القصصي ، وبما ينسجم مع عناصره المختلفة بما فيها المتلقّي ، وتشكيل مع مجمل هذه العناصر نسيجا عضويا متضافرا يحقّق مستوى جماليا عاليا .
إن قصص بشير خلف هي في جوهرها دعوةٌ ملحّةٌ وصادقة إلى قراءة الواقع ومساءلته ، والانخراط فيه ..إنها دعوةٌ إلى الدخول في الواقع فكرا ، وممارسة ؛ فقصصه تستعيد الحياة الاجتماعية ، وتستنبط حركتها ، لأنها ترمي إلى التأكيد على أهمّية الوعي الاجتماعي لتقديم إضاءاتها ، ومساهماتها في مشكلات الواقع .
ويبقى ما قلتُه محصورا في حدود الفرضية النظرية إنْ لم أبادرْ إلى إظهار مرتكزاته في مجموعته الأخيرة ( ظلالٌ بلا أجساد ) والتي اشتملت على القصص التالية :
زمن الخوف ، الرحيل ، أشواكٌ على الدرب ، عناقٌ أبديٌّ ، المرافئ المغلقة ، أقوى من الأقنعة ، رجلٌ على الهامش ، تباريح ، التشظّي ، إصرار ، الوجد الزّائف ، أحياء يتنكّرون للشمس .
فقصة زمن الخوف تحكي قصة شعب عانى ويلات الإرهاب ، والقتل المجاني للأبرياء ، والذي كان هاجسا مُخيفا ، ومروّعا في الآن ذاته لا يميّز بين الناس كبارا وصغارا ، فهو أحد المفاصل الأساسية التي ارتكزت عليه هذه القصة التي تروي مقْتل طفلة في مقتبل العمر ذات صباحٍ عندما كانت ذاهبة إلى المدرسة ، فشاهدت ولاّعة ذهبية وُضِعت أمام باب منزل أحد الأثرياء صاحب مؤسسة اقتصادية ، وما كادت تلتقطها حتى انفجرت عليها ، فتطايرت أشلاء ، وتلطّخت وريقات الكراريس بدمها الطاهر الزكي ، وصعُب يومها لملمة الأطراف المتناثرة هنا وهناك ، وكانت تلك الليلة الموالية للمأْساة حزينة. ملأ الحزن القلوب ، وتساءل الناس : لماذا حدث الذي حدث ؟ ولِـمَ وقع …؟
أدرك الناس أن صاحب المؤسسة هو المستهدف لمحْوه من الوجود ، رغْــم أن كرمه لا حدود له .شمل جميع الناس ، وداع صيته في كلّ مكان ، وسمع عنه الداني والقاصي .ومن أهمّ الخصائص الفنية التي تظهر لنا بوضوح في هذه القصة أنّها نزفٌ لغويٌّ ، وتوتّرٌ تعبيري يجاريان مشحونهما من مضمون القصة ..يماشيان حركته النفسية ، ومجراه الوجداني المتداخل ، والمتلاحق بسرعة خاطفة.
أمّا قصة ( الرحيل ) تحكي وضعية شابٍّ جامعي يحمل شهادة عالية من إحدى الجامعات الأجنبية ، يعود إلى الوطن فلا يجد فرصة عملٍ تناسب مؤهلاته العلمية ، بحيث يفتح الكاتب قصته بوصفٍ مسهبٍ للحالة النفسية التي هو عليها بطل قصته ..هذا الشاب الذي عاد من الغربة يقيم مع أمه التي أنهكها المرض . تحاول إقناعه بالبحث عن عملٍ ليتمكّن من الزواج ، فيعدّ ملـفًّـاً بداخله دبلوم التخرّج .يخرج من المنزل على أمل إيجاد منصب عمل في إحدى المؤسسات الوطنية ، أو الإدارات الحكومية .يدخل إحدى هذه الإدارات .يجد أمامه مجموعة من الشباب ينتظرون دورهم لتقديم ملفّاتهم إلى الموظّف .لــمّا يأتي دوره يستقبله الموظف ، ويخاطبه بنبرة تجاهلية ، فيضعه أمام الأمر الواقع حول سوق العمل في بلدنا ، ثم يتساءل هذا الموظف تساؤلات تكشف التخابث في ثناياها كما جاء على لسانه:
« يا إلهي ..شابٌّ مثلك في ريعان الشباب متحصّلٌ على إجازات جامعية عالية ..دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء يتسوّل منصب عملٍ ، كمدرّس في التعليم ، وفي أيّ مستوى …؟!»
فيردّ عليه الشابّ بنوعٍ من التحدّي :
« التسوّل قد يكون مقبولا في وقت ما ، وفي ظروف ما يا سيّد.»
وبينما هو يتحاور مع الشاب رنّ الهاتف فينشغل رئيس المصلحة بالردّ على المكالمة ، وأثناءها راح الشاب يسترجع ذكرياته ..فيتذكّر أيام الدراسة بالخارج ، وتعرُّفه على زميلة له في الجامعة ، فتنشأ علاقةُ حبٍّ وطيدة بينهما ، فهي من أسرة ثريّة ، لكنها أحبّت فيه نزعته الإنسانية ، وقلبه الكبير ..كما وجدت فيه الهمّة العالية ، والإرادة القوية ؛ وأحبّها هو لتواضعها ، وصدقها ، وتحلّيها بالقيم الأخلاقية النبيلة ؛ ولكن حبّه لوطنه ، وشوقه لأمه المريضة أجبره على ترْك هذه البلدة الأجنبية ، والعودة إلى الوطن ، وكانت المفاجأة أن الوطن الذي أحبّه ..سوقُ العمل فيه أغلقت أبوابها في وجهه .
ولعلّ أهمّ الأسئلة تتضافر فيما بينها تضافرا إشكاليا جدليا ، فسؤال حبّ الوطن ، وما تبرز معه من مواجهات حادّة ، وضغوطات نفسية ؛ يبقى السؤال الأهم ، والأكثر بروزا وجدلا في المشهد السردي ، ويبقى ذا مذاقٍ خاص ، ومنفردٍ ؛ إذْ لا يمكن التعامل مع الوطن على أنه مجرّد بقعة أرض ..بل لا بدّ من الإحساس بالانتماء إليه ، وبلوغ حساسية ، وتمثّل رؤياه ؛ لكن هذا الموظف الذي حظي بمنصب عملٍ يتنكّر للوطن ، ويقول للشاب :
« لو كنتُ في سنّكَ لساعدني دبلومٌ كهذا على عبور الحدود ، واجتياز الموانع بطاقة الفتوّة ولزرعتُ جسدي في كلّ مُــدُن العالم .»ص 28
يردّ الشابّ على الموظف قائلا :
« هذا نكرانٌ للأوطان ، ولا يغفره التاريخ ، ولا الأجيال الآتية.»ص29
وهكذا نجد أن موضوع قصة ( الرحيل ) يرتكز إلى واقع اجتماعي ، وإنساني جد دقيق أتاح للقاص مجالاً لإجادة التحليل النفسي للبطل ، والكشف عن أوضاعٍ اجتماعية ، ومهنية بلقطاتٍ تكشف واقع تلك الأوضاع ، والتركيز على تناقضاتها بشيء بالغٍ من نفاذ النظرة وحركيتها ، وأن يكون بالإشارات العابرة ، والتلميحات البعيدة إلى الأسباب الخارجية المؤثرة في الوضع النفسي ، وحالة هذا الشاب المأْسوية .
ويمكننا أن نُوجز القول بأن أبعاد هذه القصة تظلّ إلى حــدٍّ ما مرتكزة إلى أحداث ذاتية مزاجية ، وحالات فردية خاصة تتجاذبها مؤثراتٌ ، ودوافع إنسانية ومصيرية ؛ هذا ما أحسستُه وأنا أطالع ( قصة الرحيل ) .. حـقًّا إنها قصة مكتملة بحوادثها ، وشخصياتها ، وأسلوبها الفنّي ؛ بالإضافة إلى ذلك ثمّة آلياتٌ سرديةٌ ، وتقانات خاصة ، ورؤى فنية ، وجمالية مختلفة مارسها خلف بشير تختلف اختلافا كليا ، ونوعيا عن تلك التي استخدمها الكثير من القصّاصين ، وتعارفوا عليها .
أمّــا قصة ( أشواكٌ على الدّرب ) فمعالمها الأساسية التي تطالعنا في تقنية القصة السابقة ـ الرحيل ـ تكاد تتكرّر بشكلٍ ، أو بآخر في هذه القصة ، وإنما على مستويات متفاوتة ، وقد تبدو المهارة التقنية مجْــلُـوَّة كثيفة ، وذلك في طرافة الصور التي يتضمّنها السياق القصصي ، وكأنها بحيراتٌ مسحورةٌ ، ومنمنمات شعرية صغيرة ..كانت دائما ، وما تزال مركز الثقل في تقنية القصة عند الكاتب ، والضوء الذي يكاد يمتصّ سائر الإبداع الفني في تعبيره ، وأسلوبه منها قوله :
« خرجتُ أسير في شوارع المدينة مضربا عن الانضمام إلى سيارة نقْل العمال العارية ..هيكلٌ عظْميٌّ يخترق شوارع البلدة ، وأزقتها المُتربة ..تتحرّك كبهلواني .»
ويسعى الكاتب في هذه القصة وراء اللحظة الدرامية إلى إبراز الوعود الكاذبة التي يقدّمها المرشّحون للانتخابات البلدية ، فيعرضون برامجهم الوهمية ، ومشاريعهم التي لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع ، فهي في مخيّلتهم ، وعلى الورق فقط ، ولا يمكن تجسيدها فعليا .
فهذا رجل أعمال يعد سكان البلدة بإقامة مشاريع ضخمة توفّر الشغل ، والدخل الوفير لكلّ الشبان البطّالين ، وطموح من المجلس الشعبي البلدي الجديد يتبنّى قضاياهم ، وانشغالاتهم اليومية .في مقدمة هذه القضايا قضية السكن ، وإزالة الأحياء القصديرية من الوجود .
دار حوارٌ بين رجال الحي القديم ..قال أحدهم :
« تحمل القائمة هذه المرّة أسماء جديدة ، اختفت بعض أسماء اعتدناها دوما موجودة .»
ردّ عليه أحدُ الحاضرين بنبرة هادئة :
« أسماء في القائمة لا نعرف عنها شيئا .ما رأينا أصحابها .»
وحين يحاول الكاتب أن يخرج ببطله من هذه الحدود الضيّقة المغلقة إلى قضايا ، وآفات إنسانية أوسع وأرحب يقع في المنزلق الخطابي ، وتصدر عن بطله أقوالٌ غير منسجمة إطلاقا مع النموذج الواقعي لشخصية بطل القصة ، كما تبدو لنا في سياق القصة ، كما يصوره هذا المقطع : ص42
« برقتْ عيناه .أرسل نظره بعيدا ..بعيدا إلى قمّة الجبل المُطلّ على البلدة .شدّته الذكريات إلى ماضٍ عزيزٍ عليه يوم أن كان هناك قائدَ فرقة للمجاهدين ، ما انفكّ يكرّر على مسامعهم :
ـ وجْــه بلدنا ..تأكّدوا يا رفاق أنه سيتحوّل إلى وجــهٍ ضاحكٍ مليء بالحياة …»
وتبدو القصة أيقونات لحياة الناس اليومية ، يجد المتلقّي من خلالها الواقع الذي لا يُخفي واقعا مضادّا على الإطلاق ، وهذا ما يميّز هذا النوع من القصص التي يتجاور فيها الواقعان المرفوض ، والمأْمول معا ، يخضع ذلك كله لرؤية المبدع الذي اختار الموضوع ، وانتفى المعلومات حوله ؛ علاوة على ذلك فإن موقع الرّاوي ، وتعدّد فعْل الحكي ، تسمية الشخصيات ، المشهد السردي ومنطق الحلم ، التكرار المشهدي ..كلّها أساليب ، ورؤى مختلفة يمارسها بشير خلف برشاقةٍ سرديةٍ ، وتوضّح مدى قدرة الكاتب على رسْم شخصياته من الداخل ، حيث يمنح هذه الشخصيات الصدقَ الفنّي ، والحياة الإنسانية بكلّ أزماتها ، ومآسيها ، فهو لا يتوقّف عن إعطاء الحالة القصصية الوقتَ الكافيَ لصياغتها ناضجة معبّأة بالدّفق الحسّي ، فلكي لا تنفلت من براثن المباشرة .
أمّــا قصة ( عناقٌ أبديٌّ ) تجسّد نضال فلاّح لخدمة أرضه ، واستصلاحها ؛ فبطل القصة ( مسعود) فلاّحٌ امتهن خدمة الأرض ، وفلاحتها .التصق بالأرض وأحبّها منذ صغره ، لأنه ورث هذا العمل أبا عن جدٍّ ، ومع مرور الأيام تحوّلت خدمة الأرض إلى ممارسة واعية.
وكانت عائلة مسعود تتكوّن من تسعة أفراد ، ممّا جعل أبناءهم بما فيهم المتمدرسين يساعدونه في خدمة الأرض ، وبفضل مجهودات هذه العائلة ، وهذا ما حفّز مسعود على طلب قرْضٍ من البنك لشراء شاحنة نفعية ينقل فيها منتوجاته الزراعية إلى المناطق النائية ، والمدن البعيدة ؛ وما يلفت انتباهنا في هذه القصة أنّ مضمونها يشيد منطقه السّردي الغرائبي ، والاشتغال على التطريز اللغوي المتطوّر الذي هو إلاّ رؤيا جديدة في الكتابة السردية المعاصرة ، كما اعتمد الكاتب في معمار قصته العام على محاور منها: المونولوجات الداخلية ، والتداعيات ، والتكتيك اللاّوعي .
وإذا ما انتقلنا إلى قصة ( التشظّي ) ص119 ، لعلّ أبرز انطباعٍ يمكن أن يسجّله القارئ عن تقنية الأداء القصصي ، والصياغة التعبيرية ؛ هو أن الكاتب وضع الجانب الإنساني نصْب عينيه في تحريك الأحداث بشخوصها ، ومضمونها ، وفلسفتها الخاصة ، بحيث كان البناء العام يأْخذ شكل مواقف ، أو مقطعات معنوية بمفاتيح دالّة تسهّل السّرد ، والتنقّل بين أجزائه ، إلى جانب سهولة التركيب اللغوي الذي كان يميل نحو تقنيات الاجتراء ، والاختزال ، وتمظهر الغنائية السّردية ..بمعنى تقديم الكاتب لعمله الموضوعي من منظور ذاتي .
بالإضافة إلى كلّ ذلك ، فإن البنية الغنائية تتلبّس صورا متعـدّدة منها التركيز على الوعي المتزايد ، والحدث المتكامل الذي يقوم على التجزئة التي تمنح الأحداث التناميَ ، والتطوّرَ.
وهذا ما نلمسه أيضا في قصّة( التشظّي) ، فنحن أمام كتابة قصصية فنية تستمدّ فلسفتها من وحي الاهتمامات المحورية للناس ، وتستخلص مفاتيحها ممّا يزخر به الواقع الجديد من تناقضات ، وأزمات بحيث تتواصل التجربة السّردية في (التشظّي) في معمارية رصينة ومتماسكة ، وأن القالب الفني هنا يخضع للفكرة مثلما تتّسع هذه لنا ، وهو قالب معتمِـدٌ على نسْج العلاقات الداخلية في البناء القصصي ، فينطلق أسلوب السّرد ، وتقنية الأسلوب الارتدادي انطلاقا إنسانيا يختزل الحالة النفسية في جُــملٍ ، ولقطات مكثّفة ، وبصيغة ماهرة ، وشفافية شاعرية لتصنعَ هيكل القصة ، كما يصوّر هذا المقطع :
« تداخلت أصوات المعقّبين، أجمعت على تهدئة المتكلّم ، وطمْأنته ، وتثمين دوره منذ أن حلّ بالمنطقة. ابتسم بدوره ، وبدا عليه الارتياح . مباشرة أخذ بضمّ الأوراق ، وكأنه يُوحي إلى الحاضرين أن الجلسة انتهت .»
فمضمون هذه القصة يجسّد الوضعية المزرية التي يعيشها المواطن بسبب تجاهل السلطات المعنية لاهتمامات الناس ، واحتياجاتهم اليومية كانعدام المرافق الاجتماعية الضرورية ؛ بالإضافة إلى عدم تأمين مستلزمات أساسية كالإنارة ، وتوفير مياه الشرب ، والسكن الاجتماعي ، وتعبيد الطرقات ، وإصلاح الشوارع ، والأرصفة ؛ وهذا ما دفع أعيان البلدية لعقد اجتماعٍ مع رئيس الدائرة لطرْح أمور مدينتهم عليه ، فيتدخّل كل واحدٍ من الحاضرين لعرْض قضية معيّنة ، بينما كان رئيس الدائرة يثمّن كلام كلّ واحدٍ إيهاما للحاضرين بالاهتمام بما يطرحه من خلال كتابة كلّ الملاحظات في دفترٍ أمامه ، ويتدخّل أحدُ الحاضرين طالبا وجوب تكوين لجنة تحصر القضايا الهامّة للمدينة ؛ بينما كان هذا يطرح وجهة نظره همس أحدهم:
« لقد أضعْنا وقتنا الثمين هذا الصباح..إذا أردتَ قتْلَ مشروعٍ كــوّنْ له لجنة ! ».
ونجد في قصة ( رجل على الهامش ) تلك المأْساة الاجتماعية ، والنفسية التي يعيشها المغترب عن الوطن . إن بطل القصة شابٌّ ينتمي إلى طبقة اجتماعية بسيطة ، لكنه متحصّلٌ على شهادة جامعية . طاف الوطن من أقصاه إلى أقصاه باحثا عن منصب عمل يناسب مؤهّلاته العلمية ، لكن محاولاته باءت بالفشل ، فبقي أمامه إلاّ الهجرة إلى الخارج ، فيغادر الوطن ليحطّ رحاله في فرنسا .يقضي بها خمسة عشرة عاما مرّت كالحلم .لقد زرع جسده في هذه المدينة الجميلة ، فبعد هذه المدة يتذكّر والديْه العجوزيْن العزيزيْن عليه ، فيعود إلى الوطن ، وتكون الفرحة كبيرة بملاقاة الوالدين ، والأصدقاء ، وتعرض عليه أمه فكرة الزواج ، وتقترح عليه ـ فاطمةـ ابنة جارهم ( سي أحمد ) ، فيوافق على الزواج ، ويتمّ الزفاف ، ويأخذ الشاب زوجته ليعود إلى فرنسا ، ولكن هذه الزوجة لا تروقها الحياة في الغربة ، فتخاطب زوجها قائلة :
« ليست مدينتي ، ولن تكون مهما بقيْتُ فيها ، ومهما أصررتَ أنت ، وليست مدينتك مهما داريتَ.»
فمن غور المأْساة السحيق ، ومن تحت أنقاض الإعصار المزلزل قد ينكفئ نداء الحياة قليلا في صوت ( فاطمة ) ، لكنه لا يلبث أن يتعالى من حنجرتها بوجه الريح العاصفة صارخة بعنف الثقة ، والإيمان بالعودة إلى الوطن .
ومهما تناء بها درْبُ الغربة عن وطنها ، ومهما طال السفر والرحيل يظلّ حلم العودة إلى الوطن أقوى من الهزيمة ؛ في المقابل نجد أن غربة الشاب عن وطنه ـ وهي غربة قسرية فرضتها ظروفٌ سياسية ـ باعثٌ أيقظه على مدى غربة الإنسان عن جوهره ؛ فإن وعيه لواقع الغربة النفسية ، والوجدانية ، ورفضه للموت في وطنه ، هو الباعث على إبعاده من أرض الوطن ، وإنّ فقدان الجوهر الجوهر يتمثّل على خير وجـــهٍ في هذه القصة ، ونفسية عانتها الأجيال في العشرية السوداء ..وكان الخلاص منها بعد مسافة زمنية طويلة ، ومريرة ؛ هذا ما أعتقد أني لاحظــتُه في الهيكل العام للقصة ، ومداولاتها الاجتماعية ، ولوحاتها الطبيعية الغنية في دقّتها ، وإيحائها .
وإذا ما انتقلنا إلى بقيّة القصص: ( أقوى من الأقنعة ، المرافئ المغلقة ، إصرار ، أحياء يتنكّرون للشمس ) ، هي حقيقة إبداعية فنّية تفرض نفسها ، وليس فيها من الحلم إلاّ كثافة رموزه ، وخصبها ، وشفافيتها ، وشاعريتها ..فيها من روح التفاؤل ، والضّـــوء ، والثقة مقدار ما فيها من حــسٍّ عميقٍ بأشياء الأدب ، ومقدار ما في قلم خلف بشير من حيويّة ، وصدقٍ ، وإتقــانٍ .
إذْ أول ما يطالعني هنا من تقنية السّرد القصصي عند بشير خلف ذلك الرحيل الذي ينطلق برفْــقٍ ، ولينٍ من أرض الواقع في بداية كلّ قصّة ، كأنه الانتقال السحري من عالم الحواس إلى عالم الخيال ، والتصعيد في مناخاته ، ولوالبه ، ومتاهاته ، ومغامراته ، ثم العودة برفقٍ أيضا ، وبلينٍ إلى الواقع الذي انطلق منه في البدْء ، ويطول بي المقام إنْ رحْــتُ أستعرض جميع ما يعاودني ، ولا يبرح يلوح في خاطري من حجارة الشكل اللغوي المُذهّب ، والصياغة التعبيرية التي ترتفع بجماليتها ، وشفافيتها إلى مستوى السّـرد الفنّي المهفهف .
وإن قصص خلف بشير إبداعاتٌ جديدةٌ في أدبنا الجزائري الراهن ..جديدة في محتواها ، وإبداعها ، وأسلوبها ، وصياغتها ..قصصٌ ممتعةٌ في كلّ ذلك إلى أقْــصى حدود الإمْــتاع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الغزو الفكري وهْمٌ أم حقيقة كتب: بشير خلف       حينما أصدر المفكر الإسلامي، المصري، والمؤلف، والمحقق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأ...