التصوف..صدْقُ المنطلقات الأولى
بقلم: بشير خلف
التصوف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة معروفة باسم الصوفية.
ولا شك أن ما تدعو إليه الصوفية من الزهد والورع والتوبة والرضا، إنما هي أمور من الإسلام الذي يحث على التمسك بها ،والعمل من أجلها، ولكن بعض الصوفية يخالفون ما دعا إليه الإسلام حيث ابتدعوا مفاهيم، وسلوكيات مخالفة لِما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، فالمتصوفة يتوخون تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة، لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية.وقد تنوعت وتباينت آراء الناس وتوجهاتهم نحو تلك الحركة لأن ظاهرها لا يدل على باطنها.(1)
يقول العلاّمة أبو حامد الغزالي في هذا الصدد:
« التصوّف أمرٌ باطنٌ لا يُطّلع عليه، ولا يمكن ضبْط الحكم بحقيقته، بل بأمور ظاهرة يُعوِّل عليها أهل العُرْف في إطلاق اسم الصوفي.والضابط الكلّي أنّ كلّ منْ هو بصفة إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها، واختلاطه بهم منكرًا عندهم، فهو داخلٌ في غُمارهم.والتفصيل أن يُلاحظ فيه خمس صفات:الصلاح، والفقر، وزيّ الصوفية، وأنْ لا يكون مشتغلاً بحرفة، وأنْ لا يكون مخالطًا لهم بطريق المساكنة.»(2)
إنْ كانت هذه هي الصفات الحقيقية للمتصوف عند أهل التصوف فهي تخالف تعاليم الإسلام الذي ينبذ الزهد، والاعتزال، والمسكنة، إذْ هو دين القوة، والعزّة والجهاد الدنيوي، والأخروي.
بينما يرى البعض التصوّف هو الاتصاف بشيم الأخلاق، وحُسْن السلوك، فهو ( التصوّف) خليقٌ بأنْ يصحب كل نزعة شريفة من النزعات الوجدانية، والأساس أن يكْمُل الصدق، ويسود الإخلاص، بحيث لا تملك النفس عمّا آمنت به، واطمأنت إليه في عالم المعاني، وكذلك يتمثّل التصوّف في صُورٍ كثيرة فيكون في الحبّ، ويكون في الولاء،ويكون في السياسة حين تقوم على مبادئ تتصل بالروح وبالوجدان.(3)
يخلط الكثيرون بين الزهد والتصوف، ومن هنا كان تأثر الكثيرين بالتصوف، فالزهد ليس معناه هجر المال والأولاد، وتعذيب النفس والبدن بالسهر الطويل والجوع الشديد، والاعتزال في البيوت المظلمة والصمت الطويل، وعدم التزوج، لأن اتخاذ مثل ذلك نمطا للحياة يُــعد سلوكا سلبيا يؤدي إلى فساد التصور، واختلال التفكير الذي يترتب عليه الانطواء والبعد عن العمل الذي لا يستغني عنه أيّ عضو فعال في مجتمع ما، كما يؤدي بالأمة إلى الضعف والتخلي عن الدور الحضاري الذي ينتظر منها.
ومهما اختلفت الآراء، وتباينت الاتجاهات نحو التصوّف، فإن موضوع التصوف وتحديدا الطرق الصوفية يحتلّ أهمية كبرى في حياتنا الفكرية المعاصرة، وهو من القضايا الشائكة والمعقدة في تاريخنا الثقافي والديني، وأسال الكثير من الحبر ولا يزال، ولا زلنا إلى يوم الناس هذا لم نفصل في هذا الموضوع برأي نهائي، فالكثير من الباحثين ما زال يتردد بين الإعلاء من قيمة هذه الظاهرة الدينية وبين الحط منها، وربما يعود ذلك إلى أنها مرتبطة بميول النفس البشرية وأهوائها، ولم يستطع بعضهم التخلص من ذاتيته والحكم على الأشياء بعيدا عن الأهواء والمنطلقات والخلفيات.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم "إريك جيوفروي" ـ المختص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حواره الخاص مع "إسلام أون لاين.نت": "أن المستقبل في العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي". ويرى أيضا أن الصوفية قد مارسوا السياسة في أحيان كثيرة كما مارسوا أدوارا ثقافية واجتماعية، "(2)فانتقل بذلك التصوف وتطور من ظاهرة أو مسألة فردية بين الإنسان وربه إلى ظاهرة اجتماعية طرقية كثر رجالها وأتباعهم كثرة ظاهرة، ومع تطور التصوف العملي وانتشار الظاهرة الصوفية لدى الأوساط الشعبية، حيث كثر عدد الأتباع والمريدين، والتف المريدون حول الشيخ ونسجوا حوله هالة من التقديس والتبجيل، بدأت تظهر الطرق الصوفية بشكلها المتعارف عليه الآن.
وأول ما عرف العالم الإسلامي من الطرق: الطريقة القادرية، والمدينية والرفاعية والشاذلية والخلوتية…
بالنسبة للجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط، فقد بدأ التصوف فيه تصوفا نظريا، ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري، واتجه إلى الناحية العملية الصرف، وأصبح يطلق عليه "تصوف الزوايا والطرق الصوفية"، وقد ظل هذا التصوف العملي سائدا في جميع أنحاء المغرب الإسلامي حتى بعد سقوط الدويلات الثلاث ودخول الأتراك العثمانيين.
أما بالنسبة للجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط، فقد بدأ التصوف فيه تصوفا نظريا، ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري، واتجه إلى الناحية العملية الصرف، وأصبح يطلق عليه "تصوف الزوايا والطرق الصوفية"، وقد ظل هذا التصوف العملي سائدا في جميع أنحاء المغرب الإسلامي حتى بعد سقوط الدويلات الثلاث ودخول الأتراك العثمانيين.
وكان من أوائل وأحد أوتاد الطريقة الصوفية في الجزائر: الشيخ أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي، وقد عرفت طريقته "المدينيـة" شهرة واسعة وأتباعا كثيرين، في مختلف أنحاء المغرب الإسلامي، وازدادت شهرة على يد تلميذه عبد السلام بن مشيش (ت 665هـ= 1228م)، ثم ازدادت نشاطا وأحياها من بعده شيخ الطائفة الشاذلية وتلميذ ابن مشيش:"أبو الحسن الشاذلي". وكان لتعاليم الشاذلي في الجزائر الأثر الأكبر بحيث يكاد يجزم أن معظم الطرق التي ظهرت بعد القرن الثامن تتصل بطريقة أو بأخرى بالطريقة الشاذلية.(4)
هوامش:
(1) ـ موقع الصوفية
(2) ـ أبو حامد الغزالي.إحياء علوم الدين.ج2 ص 153
(3) ـ د.زكي مبارك.التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق.ص16
(4) ـ عبد المنعم القاسمي الحسني/الشهاب الثقافية
(5) ـ المرجع السابق.
بقلم: بشير خلف
التصوف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة معروفة باسم الصوفية.
ولا شك أن ما تدعو إليه الصوفية من الزهد والورع والتوبة والرضا، إنما هي أمور من الإسلام الذي يحث على التمسك بها ،والعمل من أجلها، ولكن بعض الصوفية يخالفون ما دعا إليه الإسلام حيث ابتدعوا مفاهيم، وسلوكيات مخالفة لِما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، فالمتصوفة يتوخون تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة، لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية.وقد تنوعت وتباينت آراء الناس وتوجهاتهم نحو تلك الحركة لأن ظاهرها لا يدل على باطنها.(1)
يقول العلاّمة أبو حامد الغزالي في هذا الصدد:
« التصوّف أمرٌ باطنٌ لا يُطّلع عليه، ولا يمكن ضبْط الحكم بحقيقته، بل بأمور ظاهرة يُعوِّل عليها أهل العُرْف في إطلاق اسم الصوفي.والضابط الكلّي أنّ كلّ منْ هو بصفة إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها، واختلاطه بهم منكرًا عندهم، فهو داخلٌ في غُمارهم.والتفصيل أن يُلاحظ فيه خمس صفات:الصلاح، والفقر، وزيّ الصوفية، وأنْ لا يكون مشتغلاً بحرفة، وأنْ لا يكون مخالطًا لهم بطريق المساكنة.»(2)
إنْ كانت هذه هي الصفات الحقيقية للمتصوف عند أهل التصوف فهي تخالف تعاليم الإسلام الذي ينبذ الزهد، والاعتزال، والمسكنة، إذْ هو دين القوة، والعزّة والجهاد الدنيوي، والأخروي.
بينما يرى البعض التصوّف هو الاتصاف بشيم الأخلاق، وحُسْن السلوك، فهو ( التصوّف) خليقٌ بأنْ يصحب كل نزعة شريفة من النزعات الوجدانية، والأساس أن يكْمُل الصدق، ويسود الإخلاص، بحيث لا تملك النفس عمّا آمنت به، واطمأنت إليه في عالم المعاني، وكذلك يتمثّل التصوّف في صُورٍ كثيرة فيكون في الحبّ، ويكون في الولاء،ويكون في السياسة حين تقوم على مبادئ تتصل بالروح وبالوجدان.(3)
يخلط الكثيرون بين الزهد والتصوف، ومن هنا كان تأثر الكثيرين بالتصوف، فالزهد ليس معناه هجر المال والأولاد، وتعذيب النفس والبدن بالسهر الطويل والجوع الشديد، والاعتزال في البيوت المظلمة والصمت الطويل، وعدم التزوج، لأن اتخاذ مثل ذلك نمطا للحياة يُــعد سلوكا سلبيا يؤدي إلى فساد التصور، واختلال التفكير الذي يترتب عليه الانطواء والبعد عن العمل الذي لا يستغني عنه أيّ عضو فعال في مجتمع ما، كما يؤدي بالأمة إلى الضعف والتخلي عن الدور الحضاري الذي ينتظر منها.
ومهما اختلفت الآراء، وتباينت الاتجاهات نحو التصوّف، فإن موضوع التصوف وتحديدا الطرق الصوفية يحتلّ أهمية كبرى في حياتنا الفكرية المعاصرة، وهو من القضايا الشائكة والمعقدة في تاريخنا الثقافي والديني، وأسال الكثير من الحبر ولا يزال، ولا زلنا إلى يوم الناس هذا لم نفصل في هذا الموضوع برأي نهائي، فالكثير من الباحثين ما زال يتردد بين الإعلاء من قيمة هذه الظاهرة الدينية وبين الحط منها، وربما يعود ذلك إلى أنها مرتبطة بميول النفس البشرية وأهوائها، ولم يستطع بعضهم التخلص من ذاتيته والحكم على الأشياء بعيدا عن الأهواء والمنطلقات والخلفيات.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم "إريك جيوفروي" ـ المختص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حواره الخاص مع "إسلام أون لاين.نت": "أن المستقبل في العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي". ويرى أيضا أن الصوفية قد مارسوا السياسة في أحيان كثيرة كما مارسوا أدوارا ثقافية واجتماعية، "(2)فانتقل بذلك التصوف وتطور من ظاهرة أو مسألة فردية بين الإنسان وربه إلى ظاهرة اجتماعية طرقية كثر رجالها وأتباعهم كثرة ظاهرة، ومع تطور التصوف العملي وانتشار الظاهرة الصوفية لدى الأوساط الشعبية، حيث كثر عدد الأتباع والمريدين، والتف المريدون حول الشيخ ونسجوا حوله هالة من التقديس والتبجيل، بدأت تظهر الطرق الصوفية بشكلها المتعارف عليه الآن.
وأول ما عرف العالم الإسلامي من الطرق: الطريقة القادرية، والمدينية والرفاعية والشاذلية والخلوتية…
بالنسبة للجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط، فقد بدأ التصوف فيه تصوفا نظريا، ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري، واتجه إلى الناحية العملية الصرف، وأصبح يطلق عليه "تصوف الزوايا والطرق الصوفية"، وقد ظل هذا التصوف العملي سائدا في جميع أنحاء المغرب الإسلامي حتى بعد سقوط الدويلات الثلاث ودخول الأتراك العثمانيين.
أما بالنسبة للجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط، فقد بدأ التصوف فيه تصوفا نظريا، ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري، واتجه إلى الناحية العملية الصرف، وأصبح يطلق عليه "تصوف الزوايا والطرق الصوفية"، وقد ظل هذا التصوف العملي سائدا في جميع أنحاء المغرب الإسلامي حتى بعد سقوط الدويلات الثلاث ودخول الأتراك العثمانيين.
وكان من أوائل وأحد أوتاد الطريقة الصوفية في الجزائر: الشيخ أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي، وقد عرفت طريقته "المدينيـة" شهرة واسعة وأتباعا كثيرين، في مختلف أنحاء المغرب الإسلامي، وازدادت شهرة على يد تلميذه عبد السلام بن مشيش (ت 665هـ= 1228م)، ثم ازدادت نشاطا وأحياها من بعده شيخ الطائفة الشاذلية وتلميذ ابن مشيش:"أبو الحسن الشاذلي". وكان لتعاليم الشاذلي في الجزائر الأثر الأكبر بحيث يكاد يجزم أن معظم الطرق التي ظهرت بعد القرن الثامن تتصل بطريقة أو بأخرى بالطريقة الشاذلية.(4)
هوامش:
(1) ـ موقع الصوفية
(2) ـ أبو حامد الغزالي.إحياء علوم الدين.ج2 ص 153
(3) ـ د.زكي مبارك.التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق.ص16
(4) ـ عبد المنعم القاسمي الحسني/الشهاب الثقافية
(5) ـ المرجع السابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق