الخميس، 28 فبراير 2013

قصة الرحيل


قصة قصيرة
                                الرحيل
                                         بقلم: بشير خلف
                   قد يتقبّل الكثيرون النصح ، لكن الحكماء فقط
                                هم الذين يستفيدون منه .”
                                                      ( بابليليوس )  
                                     (1)
       قال لك أحد أصدقائك يوما و هو يتفحص وجهك أكثر:
ـ لقد تراكمت عليك الأدران، إنك تحتاج إلى صقل و لن تصقلك غير زوجة وفية، و فيما ذهبت أصابعك الواهنة لحظتها تعبث داخل جيبك بالقطعة النقدية الوحيدة التي ستمدها إلى القهواجي مقابل فنجاني القهوة لك وله، رحت تضحك على حالك، و تضحك من كلامه.
في الليلة الماضية ما تمكّن منك النوم، قضيت ليلتك في أرق ثقيل، في قلق مستمر، ضجّ السرير من تقلبك و حركاتك الكثيرة، الخيالات المزعجة تنازعت رأسك، عصفت بك، عزمتَ كم مرة  على مغادرة البيت هائما في الأزقة و الشوارع تريد الترويح عن النفس. بين لحظة و أخرى تنشط الذاكرة فتعود بك إليها، فيتألق وجهها الملائكي أمامك، كلما تراءى لك ذاك الوجه الربيعي خفق قلبك،والتهب خيالك، تزاحمت الخواطر و الأفكار، حاولت ليلتها تشويش تكوينات الصورة، خلْطَ خطوطها فما استطعت، بمجرد أن تفعل ذلك حتى تمتثل أمامك من جديد في ثوبها البنفسجي الرائع الذي ترتديه في عطلة آخر الأسبوع و هي تنتظرك بفارغ الصبر في الحديقة العامة لتلك المدينة الشمالية، أو في ذلك المطعم الراقي أين تُـعدُّ مآكل شرقية شهية.
و في محاولاتك اليائسة تشويشَ تكوينات الصورة و إطفاءَ إشراقتها الربيعية، يطفو على السطح صوت آخر يفتكُّـكَ من جاذبية الذاكرة:
ـ عليك بالبحث عن عمل في أسرع وقت يا ولدي كي تؤمّن لنا لقمة العيش، و لعل الله يسهّل الأمر بعد ذاك فتكمل نصف دينك، آه يا ولدي لن تهدأ نفسي حتى يتحقق الأمر الأخير، فحتى إذا رحلتُ عن هذه الدنيا لاحقةً بأبيك أكون حينئذ راضية مطمئنة النفس.
و يلاحقك صوت أحد أصدقائك، و يزداد شدة و طرقا مؤلما لطبلتي أذنيك:
ـ لقد تراكمت عليك الأدران … أنت تحتاج إلى صقل … إلى صقل … إلى … و لن تصقلك غير زوجة وفية … غير زوجة وفية … زوجة … وفية.
أفقت على صوت أمك التي اقتربت منك مهلوعة و قد امتلكها الخوف، فاقتربت منك بحنان مهدئة، واضعة يدها على جبينك الذي ارتفعت حرارته:
ـ مالك يا ولدي تصرخ ؟ أ أصابك مكروه ؟ حرارتك مرتفعة، اهدأْ يا ولدي لا تتحرك سأعدّ لك شرابا ساخنا قد يعيد لك حيويتك و يخفض هذه الحمى الملتهبة.
                            (2)
لمّا كان رئيس المصلحة يتسلم منك دبلوم التخرّج، كنت تبحث بعينيك عن مقعد تجلس عليه، دلفتَ إلى المكتب بعد أن جاء دورك والألم يسري التهابا في المفاصل و العظام. وقوف طويل في يوم قائظ و شمس حارقة. طابور مكوّن من شبان متخرجين حديثا و حتى قديما، و أنت تبحث عن شيء تجلس عليه في المكتب الفخم، أو أي شيء قد تستند إليه في وقفتك، و كأن رئيس المصلحة تفطن إلى ذلك، بنظرة أخفت حركتها نظارةٌ طبية سميكة العدسة، أزاحها إلى أسفل، كاشفة عن عينين ضيقتين لمحت منهما من السخرية و الإذلال و علامات التشفي. تصنَّعَ الودَّ و حسن الاستقبال. و أنت تتأهب للتكلم و يدك إليه ممدودة بملف يعلوه الدبلوم، طلب منك الجلوس.
مسح مضمون الدبلوم بعينيه، بخبرة المحترفين وضع الوثيقة المزخرفة في الملف، وضعه جانبا مع غيره من ملفات أخرى شبيهة له، ثم التفت إليك، لمحت لحظتها من نظرته علامات من الأسف و العطف الكاذبين. ما كنت تنتظر المعجزة فالجواب عرفته مسبقا قبل دخولك، لكنه الفضول و الأمل معا… إنك فضولي دوما تُـصرّ على معرفة المجهول و الوقوف عليه بنفسك. رئيس المصلحة يخاطبك بنبرة تجاهلية  لواقع سوق العمل في البلد:
ـ يا إلهي شاب مثلك في ريعان الشباب، متحصل على إجازات جامعية عالية، دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء، يتسول، يتسول منصب عمل، كمدرس في التعليم ، وفي أي مستوى، حتى لو كان المستوى الابتدائي. أية قيمة أدبية أو اجتماعية أو حتى عملية لشهادة جامعية عليا لا توفر لحاملها لقمة العيش. أية قيمة ؟ أية قيمة بالله ؟
رددْتَ حينها بنوعٍ من التحدّي وأنتَ تكتشف التخابث في ثنايا التساؤلات :
ـ التسول قد يكون مقبولا في وقت ما، و في ظروف ما يا سيد.
ـ التسول قد لا يكون حلا، هو هروب من الواقع. سُننُ الحياة يا ولدي ترفض ذلك.
                                (3)      
في تلك الآونة رنّ الهاتف. انقطع الحوار. اشتغل محاوِرُكَ لحظتها بالرد عن المكالمة. حملتك الذاكرة إلى بعيد … بعيد، عبرت الحدود المرسومة على الخرائط . رمشة عين و ما كنت تحمل جواز سفر. استخرجت المدن المحبوسة في الذاكرة. زرعتَ جسدك في إحدى مدن الشمال . إحدى مواطن العشق و مواطن الدراسة العليا. و الذاكرة تجوب تلك المواطن تراءى لك وجهها الربيعي في آخر لقاء، تألق الجمال يومها و أفاض. بروح البراءة و الصدق استبْقتكَ و ألحّتْ، و ما وجدتْ غير دموعها سلاحا:
ـ لا ترحل أرجوك. حياتي ستكون جحيما ببُـعدكَ عني.
ـ أعذريني عزيزتي، فالنداء الآتي من بعيد أقوى مني.
ـ أرجوك لا ترحل . أنت الأمل وأنت الحياة لي .
ـ لا أشك في حبك و إخلاصك لي… هناك نداء آخر أقوى مني و منك، ساعديني على الرحيل. قد تساعدنا الظروف و نجتمع و نحقق حلمنا لا تيئسي يا عزيزتي .
ـ أتوسل إليك . لا ترحلْ قد أعددتُ كل شيء من أجْـل بقائك. كل الظروف مهيئة لإقامتك . اتفقت مع والدي المدير العام للشركة كي نبدأ العمل معا في يوم واحد فيها … عملٌ وِ فْـق تخصصنا. إقامتك مضمونة عندنا في البيت، و إن لم ترغب في ذلك،والدي قد تعهد بإيجاد إقامة لائقة مستقلة لك، ثم بالإمكان مواصلة دراستنا من جديد معا.
مواطن العشق تتألق مشرقة أخاذة في مخيلتك و الذاكرة تجوب بعيدا . تجذبك إليها بقوة .
 فجأة انقطعت تلك الجاذبية الممتعة، حلّت محلها نظيرة لها أقوى و أقوى:
ـ أنت وحيدنا يا ولدي. ما بقي من العمر إلا القليل . لا معين لوالدتك المثخنة بسكاكين مرض القلب، فمَـنْ لها بعد الله غيرك ؟ و مَن لها إذا استبقتك تلك المواطن البعيدة عندها و أغرتك بملذاتها ؟
قالها والدك المرحوم قبل وفاته منذ حوالي سنة.
و يبتعد الوجه الراحل . تختفي معالمه من الإطار، و يبقى صدى الصوت يتردد. يقترب وجهها حزينا. نقش الزمن على مساحته الصغيرة نقوشا أفسدت نضارته الأصلية و عوادي الأيام تركت على الجسد الواهن تضاريس و خطوطا فوضوية صارخة.
و الصوت الاستعطافي يقترب:
ـ بقي على تخرجك سنة واحدة يا ولدي، أتمنى أن تكون عودتُك نهائية في الصائفة القادمة . تَضَرُّعي إلى الله مستمرٌّ صباح مساء كي تتخرج و تعود إليّ غانما سالما .لا تنس أن البلد في أمسّ الحاجة إلى أمثالك.
                                (4)
ترافقا خمس سنوات في الجامعة قضياها في معهد واحد. منذ البداية وجدا نفسيهما متجاورين في المدرج و في التفويج . رعيا معا هذا الجوار. رعياه في كل شيء، و كما وجدت فيه النفس العالية الهمّة والقلب الكبير و النزعة الإنسانية الأصلية، و الإيمان القوي الراسخ بوجوب إقرار المحبة و الود والتسامح بين البشر أجمعين، وجد فيها الفتاة العفيفة الطاهرة ذات الحس المرهف و عمق الشعور بآلام الغير، و ما تغلبت عليها عوامل الثراء التي تتنعم فيها أسرتها كغيرها ممن جرفهم المستوى الطبقي. أحبَّ فيها التواضع و البراءة و الصدق و الذكاء الوقاد و الشغف بالمعرفة وبالقيم الإنسانية الرفيعة.
رسخ في ذهنها أنها تعيش له و هو يعيش لها، كان يُلمّحُ أحيانا إلى رحيله كانت تعتبر ذلك مجرد دعابة و دلال منه لها .
الدموع تنساب متألقة كحبات دُرٍّ انسكبت فيها خيوط الشمس في جلسة ذاك اليوم الذي تناولا  فيه غذاء شهيا ما برح الذاكرة :
ـ هي ليست مدينتي يا عزيزتي، فلم البقاء ؟
      قالت والدموع ما توقفت :
ـ حينما ترحل إلى هناك أياما بين الفينة و الأخرى، في كل مساء أعود إلى غرفتي تستوطني الوحدة . يسكنني الحزن . و لمّا يطلّ وجهك  الوضّاء مشرقا، مواجها سكون الوحدة و القلق تدب الحياة من جديد في الغرفة . أشعر بانتعاش غريب لحظتها  .. أنهض .. أغني.. أقرأ.. أعمل أي شيء … أي شيء.
                               (5)
و تنتصب أمام عينيك أسوارٌ عاليةٌ تحجزك عنها، و ترتسم الأيادي تتدانى، تمتد و تمتد لبعضها،غير أنها بقدر ما تتدانى تبتعد و تبتعد حتى تتلاشى في الفضاء اللامتناهي، و تكَرَّرَ رجاؤُها في تحنن و تلطف . تقترب منك أكثر و عطرها الأخاذ يعبق المكان و بصوت متهدج:
ـ أنا مدينتك التي عشقْـتَها. المدينة خواء، فراغ إذا ما خلتْ من الأحبة.
كانت الصورة تحمل وجهين: وجها استوطن به الربيع بكل بهائه و زرع مفاتنه على جسد في ريعان الشباب يفور حركة و حياة و إشراقا، و وجها حمل كل ينابيع العطف و الرحمة و الحنان والتضحية، وضع عليه الخريف ملامحه، بل الشتاء بصماته. استمات كلا الوجهين في احتلال مقدمة الصورة و زحزحة الخصم، و ما كان النصر حليف أحدهما يقتربان، يتداخلان، ينصهران، تتضبّبُ الصورة … تندثر معالمها …
                            (6)
أعاد رئيس المصلحة عبارته التي قذف بها في وجهك قبل المكالمة، و بدورك تجاهلتها مجيبا إياه في سياق آخر:
ـ يبدو أن سوق العمل أغلقت أبوابها في وجه الجميع في هذا البلد، و كأنه فهم تجاهلك لِما كان قد نفثه. باغتك بسؤال استفزازي أعنف من الأول:
ـ دبلوم مثل دبلومك يا ولدي لو كانت كل الأمور تسير سليمة لأهّلكَ لاحتلال أعلى المناصب،ولوضعك في الريادة، إيه … إنه الواقع فرض عليك الوقوف أمام المكاتب متسولا، بحثا عن أي شغل حتى و لو كان متعارضا مع المستوى العلمي و التخصص، إنما ما يحيرني و يشغل بالي أكثر أن دبلوما عاليا مثل هذا لا يُـمكّن صاحبه من التفكير الجدي، المعمق، و استعمال العقل و توظيف المعرفة المكتسبة للخروج بإجراء عملي فعال، أو أنه ليس دبلوما يدلّ بحقٍّ
على أنّ حامله صاحب مستوى علمي رفيع وتخصص متين …إيه يا تعليم هذا الزمن !
    تصنعت الهدوء وقتها وتصابرْتَ إذْ سألتَه :
ـ ماذا تقصد بالتفكير و استعمال العقل من فضلك ياسيد ؟
ـ أقصد لو كنت في سنك لساعدني دبلومٌ كهذا على عبور الحدود و اجتياز الموانع بطاقة الفتوة و لزرعْتُ جسدي في كل مدن العالم، و الرسوّ في كل الشواطئ … فراشة حرة تتنقل هنا و هناك بحرية، تحط أينما وجدت الدفء و أينما ألْـفَت الرعاية.. عشرات أمثالك أقفلت سوق الشغل أبوابها في وجوههم، كان ذلك دافعا لهم للرحيل، لرفع راية التحدي و الإصرار، انقادت لهم الدنيا … مالٌ …جاهٌ، اقتصاد العالم بين أيديهم، تجارته تحت إمرتهم، يا ولدي الحياة من أسلحتها الفعالة ، الإرادة، التصميم، التحدي … السعادة عَصِيّة و المسْكُ بها يتطلب المغامرة تلو المغامرة، إذا خلت من المغامرات المستمرة تفقد طعمها … السعادة يا ولدي لا وطن لها و أصحاب الإيرادات القوية والتحدي في عالمنا اليوم لا وطن لهم.
ـ و حق الوطن يا سيد، نطقتَ بها من أعماقك.
ـ الانتماء للوطن أبديٌّ ، وخدمته والذود عنه ليس بالضرورة دوما نافعة إلاّ لمّا تُؤدّى على أديمه . 
ـ هذا نكران للأوطان لا يغفره التاريخ ولا الأجيال الآتية .
ـ قد تأتي ظروف تاريخية على الوطن فيستغني عن البعض من أبنائه حتى و لو كانوا أهل خبرة وتخصص و علم نافع و أصحاب قيم عالية، العالم يا ولدي اليوم تقاربت أجزاؤه و اقترب سكانه من بعضهم، اهتماماتهم واحدة، و مصيرهم واحد … الحياة تنقاد لأهل التحدي و ركوب المخاطر بحثا عن المجد … وطنك الذي يستجيب لطموحاتك … الذي يلبي رغباتك . لو كنتُ مكانك و في عمرك لبدأتُ حياتي من جديد مغامرا.
و أنت غير مصدق لما تسمع اقترب منك أكثر و همس:
ـ فرضا أنك فزتَ بوظيفة أيا كانت هذه الوظيفة ما ستتقاضاه منها شهريا بعد تعب يتقاضاه في زماننا هذا فتى  مطرودٌ من التعليم، يمارس نشاطه في سوق الترابندو أو البزنسة أو في نشاط الاستيراد في يوم أو جزء من اليوم … و ما أكثر هؤلاء اليوم … تحركْ … المجال مفتوح أمامك … الحياة رحبة اقتحمها من أبوابها الواسعة، تأكد أنك إن لم تربح في البداية فإنك لن تخسر شيئا.
                                 (7)
موطن العشق يتألق و الخريطة ممدودة أمام ناظريك … المدن المزروعة مُعلَّمَةٌ هنا و هناك تناديك بحنو … تجذبك … ترتسم الصورة من جديد و تمتد مساحتها مغطية كل جدران و سقف الغرفة الضيقة التي تتقاسمها مع والدتك و قد أنهكها مرض القلب الفتاك، و يصل صوتها الواهن إلى أذنيك … و يصل إلى أنفك عطرها الخاص عبقا … منعشا … أخاذا من بعيد.
ـ لا ترحلْ أعددتُ كل شيء لبقائك و إقامتك … اتفقت مع والدي على كل ما يعنينا … لا ترحل أرجوك.
و فيما كان نظرها مثبتا على حقيبة السفر و عيناها مغرورقتان بالدموع، طمأنتها و أنت تلثم يدها الضعيفة.
اطمئني يا أمي سأعود سريعا إليك و أنت تردد بصوت خفي:
لقد اكتشفت سر الحياة لأجرب مثل غيري … هو سرٌّ لا يمنح إلا للمغامرين.
كان دعاؤها المفعم بالدفء و الحنان يلاحقك و أنت تنسلّ من البيت:
ـ اللهم احفظْه في غدوه و رواحه و سعيه … اللهم افتح الأبواب أمامه و ارزقه من الحلال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...