الفنون التشكيلية في الجزائر..سؤال التأطير أم إجابة الإهمال
في هذا الملف الشائك.. أردنا تسليط الضّوء على زاوية جدّ معتمة في المشهدية الثقافية الجزائرية.. وهي زاوية الفنون التشكيلية…. التي تبقى عرجاء رغم احتكام الجزائر على إطار أكاديمي ممثل في المدرسة العليا للفنون الجميلة؛ يعد الأبرز على الساحة الإفريقية.. بدلا ن ضرب كف بكف طرحنا السؤال فكانت الإجابة:
شهادة أهل البيت:
مدير الدراسات للمدرسة العليا للفنون الجميلة “شاعو كمال”
“لدينا رغبة جامحة في إعادة إنعاش الفن التشكيلي لكن ينقصنا دعم وزارة الثقافة”
بونوة وديلام وعبد الباقي من أهم خرّيجي مدرستنا
تعتبر المدرسة العليا للفنون الجميلة من أعرق المدارس في إفريقيا و أكبرها مساحة، فهي أوّل مدرسة أنشأت في إفريقيا في مجال الفنون الجميلة العام 1952، كان مقرها في البداية بشارع القنصليات أي ساحة الشهداء حاليا، ثم جاءت الفكرة من السلطات الفرنسية لإنشاء مدرسة تليق بمقام الفنون الجميلة أين يوجد مقرها الحالي، و توجد بباريس مدرسة مشابهة لها تماما.
وحسب ما صرّح به شاعو كمال فإنّ الإدارة الحالية للمدرسة تطمح لتقديم الأحسن و تكوين طلبة في المستوى، حيث تغيرت معايير الالتحاق بالمدرسة مقارنة بما كان متعاملا به من قبل، إذ لم تكن تشترط المستوى الدراسي للإلتحاق، أمّا حاليا فيشترط الحصول على بكالوريا ثمّ المشاركة في المسابقة التي تشرف عليها لجنة مختصة، فالمدرسة تستقبل الطلبة الذين لديهم على الأقل فكرة عن تاريخ الفن التشكيلي وأبجدياته، فإذا كان الطلبة المرشحون في المستوى يمكن أن تستقبل المدرسة أكثر من مئة طالب، فهذه السنة مثلا بلغ عدد الطلبة الجدد 129 طالبا، فالمدرسة شئنا أم أبينا لها ميزتها الخاصة فهي تعتمد على الجانب الفني، ونحن كإدارة نبحث عن النخبة ونعمل على أن تصبح المدرسة أحد أقطاب الامتياز، فقد تخرجت منها أسماء لها وزنها في مجال الفنون التشكيلية كبونوة المتواجد حاليا بالإمارات ويحياوي محمد المتواجد بباريس وكذا ديلام علي وعبد الباقي اللذين يعملان بالصحف الجزائرية اليومية.
كما أنّ المدرسة تابعة لوصاية ثنائية، فإداريا تابعة لوزارة الثقافة أما بيداغوجيا فتابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وهذا منذ 2006، يشرف على تكوين الطلبة أساتذة من خيرة ما أنجبت المدرسة بالإضافة إلى استفادتنا من خبرة أساتذة أجانب كالأستاذ شريفي من مصر وهو يعتبر من أكبر الخطاطين، زد على ذلك أساتذة من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا…إلخ.
وأرجع شاعو كمال سبب تقهقر الفنون التشكيلية إلى غياب بكالوريا فني وانعدام تكوين متخصص في المنظومة التربوية، و يتساءل ذات المتحدث مادام أنه تمّ تخصيص ثانوية رياضية فلم لا يكون الأمر سيان وتكون هناك ثانوية فنية تعنى بالفنون الجميلة؟ فعلى الأقل هذا يفتح آفاقا للشغل أمام الطلبة المتخرجين من المدرسة.
ويعترف المتحدث ذاته من جهته أنّ الفنون التشكيلية مازالت تبحث عن نفسها حيث لم تجد لا الآذان الصاغية ولا الذواقين لهذا الفن، “فعصر السرعة جعلنا لا نلتفت إلى الوراء ولا نراجع حساباتنا، فنحن نساير الوتيرة التي تتطلبها العولمة، كما لم تنل الفنون التشكيلية حظها ولم تأخذ حصتها وسط الحركية والزّخم الكبير من الأنشطة الثقافية والمهرجانات التي تنظمها وزارة الثقافة”.
ويعتبر الأستاذ كمال شاعو أنّ المدرسة هي الفاعل الأساسي والوحيد في تكوين الفنانين التشكيلين، لكن تنقصنا الإمكانيات والدعم من وزارة الثقافة حتى نؤدي دورنا على أكمل وجه، فنحن لدينا رغبة جامحة في إعادة إنعاش الفن التشكيلي وإعادة بعث تراثنا من جديد، لكن كلّ شيء يتوقف على توفر الإمكانيات ودعم الوزارة الوصية.
شهادة أهل الذكر:
الفنان التشكيلي محمد بوكرش
” الفن التّشكيلي في بلادنا يحتضر على يد القائمين على قطاع الثقافة “
محمد بوكرش هذه الموهبة الفتّاقة والظاهرة العملاقة في مجال الفن التشكيلي ما كانت لتصل يوما للعالمية لولا تردده الدائم على مهرجان تونس، وما كان للأوصياء على الثقافة الجزائرية أن يعترفوا به ويضموه للذاكرة الشعبية للفنون التشكيلية لولا اكتشاف أعماله من قبل الأجانب، والفضل يعود للسيدة فيراز ديكولار وزوجها خلال نزولهما ضيوفا على الرئيس الأسبق شادلي بن جديد، حيث اكتشافا موهبته بانبهار وأعجبا بالطريقة المميزة التي يرسم بها على مادة الخشب، وهاهو اليوم يشرّح لنا واقع الفنون التشكيلية بين مطرقة المبدع وسندان المتلقي.. يقول:
“توجد أزمة عميقة في مجال الفنون التشكيلية سببها بالدرجة الأولى غياب مشروع وطني يستثمر في الطاقات والمبدعين، فعلى الرغم من وجود أعلام كبار في الفن التشكيلي الجزائري كرشيد قريشي ولزهر حقار وغيرهم كثيرون وهم من الأسماء العالمية الأشهر من نار على علم، إلاّ أنّهم اكتسبوا شهرتهم من الخارج، مثلي تماما فقد دخلت العالمية من مهرجان تونس الذي كنت أتردد عليه كثيرا، لكن تبقى هذه الأسماء خريجة المدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر، لكن على الرغم من كثرة الفنانين إلاّ أنّنا نجد دور الشباب خاوية على عروشها وصالونات العرض قليلة جدا، كما لا نملك سوقا للفن التشكيلي في الجزائر، إنّ الفن التشكيلي يحتضر في بلادنا على يد القائمين على قطاع الثقافة، فالذين من المفروض أنّهم أوصياء على الفنون الجميلة في بلادنا هم من يقتلون روح الإبداع عند الشباب ويحولون دون تطورها.
وحسب اعتقادي أنّ غياب إعلام جاد ومتخصّص يكون كحلقة وصل بين هؤلاء الأعلام والجماهير المتعطشة لهذا الفن ساهم بطريقة أو بأخرى في إحلال قطيعة بين المبدع و المتلقي، فالإعلام يلعب دورا كبيرا في التعريف بالفنانين التشكيلين وبطاقاتهم وإبداعاتهم، كما توجد من جهة أخرى قطيعة بين الجانب النظري والتطبيقي حيث يعتبران خطان متوازيان لا يلتقيان في بلادنا، ومن الضروري أيضا ترشيد رؤوس الأموال الثقافية وحسن استثمارها فيما يبني وليس فيما يرفّه، لأنّ الترفيه يكون فيما بعد تحصيل حاصل.
والمشكل الذي تتخبط فيه الفنون التشكيلية مسؤولية جماعية، فلابدّ من إحداث صحوة فكرية وحركة تنويرية تجعل الطالب الذي يأتي من بعدنا والفنانين الصاعدين يكونون على ثقة في أنّ قاطرة الفنون التشكيلية تضمن لهم الوصول للنقطة الهدف، فميول الطالب ومواهبه تبرز في الابتدائي والمتوسط ومن ثمّ يوجه إلى الثانوية التقنية أو الرياضية ولكن للأسف لم يكن في بلادنا أيّ أثر لثانوية خاصة بالفنون الجميلة، ولتغطية هذا العجز وجدت المدارس الجهوية ومن المفروض أن تكون شهادة البكالوريا الفنية هي المطلوبة لمتابعة الدراسة بالمدرسة العليا للفنون الجميلة، و لكن من المفارقات العجيبة أن تلغى وتعوض ببكالوريا عادية، حيث أصبحت المعدلات الأضعف هي التي توجه للمدرسة، فنجد بالمدرسة طلابا لم يمسكوا في حياتهم قلما للرسم.
وفيما يخص المتاحف وبالأخصّ المتحف الوطني للفنون الجميلة فيتم التعريف به من خلال إنتعاش السياحة وكذا تنظيم دورات تكوينية وزيارات من طلبة المدارس والجامعات، كما علينا تنشيط وتفعيل الملتقيات الخاصة بالفنون التشكيلية من خلال تسطير برامج فسيفسائية منها ما يكون مشتركا بين الفنانين العالمين وما هو لمسة نابعة من خصوصية الفنان الجزائري، فعندما نستضيف المدارس الغربية والفنانين الأجانب للمشاركة في ملتقيات دولية فلبدّ أن يستفيدوا من مشاركتهم و يكتسبوا خبرات جديدة ويكتشفوا تقنيات وأفكارا جديدة أيضا.
المبدع الحقيقي لابدّ أن تكون له حلول لمشاكله فهو الخلية التي لبدّ أن تلتحق بنسيجها و إلاّ سيصبح هذا النسيج مهلهل، وإذا لم تتضافر جهود هذه الخلايا سيكون النسيج ضعيفا وعبقرية المبدع تقتضي رغم كلّ المشاكل التفرغ للفن والإبداع.
الفنان التشكيلي الصاعد حسان دريسي
“للجزائر متاحف عريقة ومصنّفة عالميا لكنها تعاني الإهمال والتّهميش “
والفنان حسان دريسي شارك بلوحاته في عدة معارض بدءا بمشاركته بمعرض نظم بالمدرسة العليا للفنون الجميلة عام 2004، ومركز الفنون والثقافة لقصر الرايس عام 2006، كما شارك بمعرض نظم برواق عمر راسم عام 2009، وفي 2010 نظم معرض بالمتحف الوطني لتاريخ الفن المعاصر بموسكو، وفي 2011 نظم معرضا بصفة منفردة برواق باية بقصر الثقافة مفدي زكريا.
أوضح لنا دريسي أنّ للجزائر متاحف عريقة ومصنّفة عالميا وإفريقيا وعلى رأسها المتحف الوطني للفنون الجميلة الذي صنّف كأكبر متحف في إفريقيا والشرق الأوسط، حيث يضمّ أكثر من 8 آلاف لوحة فنية نادرة لفنانين تشكيلين عالميين، ولكنه للأسف يعاني الإهمال والتهميش ممّا جعله هيكلا دون روح، حيث يفتقد للزيارات المنظمة له من طرف المدارس أو السياح، ولذا لابدّ من الالتفات لهذه المواقع الأثرية والترويج لزيارتها من طرف المختصين في الثقافة والسياحة وكذا الإعلام المتخصّص في هذا المجال.
الأستاذ جمال مفرّج من جامعة قسنطينة
“الفن التشكيلي في بلادنا يحتاج إلى تشخيص دقيق”
كانت لنا فرصة لقاء الأستاذ الجامعي جمال مفرّج -و هو أستاذ في علم الجمال وفلسفة الفن-على هامش الملتقى الذي نظمته جامعة بوزريعة، حيث أعطانا صورة مفصّلة عن واقع الفنون التشكيلية في الجزائر والفجوة العميقة بين حركية المهرجانات وتراجع الإبداع.
فالفن التشكيلي المعاصر في الجزائر يحتاج حسب الأستاذ جمال مفرّج إلى تشخيص دقيق، فهو يزداد تقهقرا يوما بعد يوم ويسير نحو الانحطاط والرداءة، ورغم هذا الوضع الكارثي إلاّ أنّه يقابل باللامبالاة من طرف كافة الفعاليات، وإذا عرجنا إلى معرفة أسباب عدم نمو وتقدم الفنون التشكيلية عندنا وعدم نيلها المكانة التي تليق بها فهي عديدة ومتشابكة:
ـ منها غياب قانون خاص بالفنان يثبت وجوده ويحمي حقوقه.
ـ إضافة لافتقار الجزائر للفضاءات الخاصة بالعروض وانعدام المتاحف المتخصصة، ففي المغرب مثلا مدينة واحدة فقط يوجد بها أكثر من 35 قاعة عرض.
ـ كذا عدم تخصيص ميزانيات للتكوين بحجم الميزانيات الضخمة المخصّصة للمهرجانات.
ـ كما ألقت العشرية السوداء بظلالها على واقع الفنون التشكيلية، حيث اغتيل العديد كمحمد عسلة مدير المدرسة العليا للفنون الجميلة آنذاك، وتعرض البعض الآخر للتهديد بالتصفية مما جعلهم يغادرون البلاد دون رجعة تاركين وراءهم فراغا ثقافيا رهيبا.
ـ كما أن غياب النقد الفني الذي يعرّف بالفنانين ويقيّم أعمالهم.
ـ وكذا انصراف المتاحف المتخصصة عن شراء أعمال الفنان التشكيلي وعرضها ليتعرف الجمهور على أصحابها سهاما في هذا التردي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق