اخر ما نُشر للدكتور أبوالقاسم سعد الله
أتيناك طائعين
بقلم أبوالقاسم سعد الله
هذه الكلمة كتب أغلبها عشية انعقاد اجتماع «الاتحاد من أجل المتوسط ». وهي من الكتابة الرمزية فلا تحمل على ظاهرها عند قراءتها .
أخيرا أتيناك طائعين يا باريس، يقودنا شيخ القبيلة وبعيرها، ومعه الخيمة وعمودها، فلا تغضبي عنا ولا تتوجسي منا، فنحن لا نستغني عنك طرفة عين، أتيناك عاشقين نمرغ جباهنا على ترابك العاطر ونهاب صوتك القاهر. لا تغضبي عنا، فأنت بلسم الجراح ودواء القلوب، وأنت مدينة النور، وماحية الديجور، وناشرة الحرية والمساواة؟
خطاب الغالب
لقد انقضى الجيل الذي رفع السلاح في وجهك، ولم يرع لك حرمة ولا ذمة، ولم يخف من جبروتك وعزتك. غاب الآن الشهداء والمجاهدون الأصلاء وسكنوا قبور النسيان. ولو كانوا أحياء لأذقناهم وبال أمرهم ولعاقبناهم العقاب الأليم. ألا نفعل ذلك اليوم مع أبنائهم وأحفادهم ومن تفرعوا منهم؟ ألم يكن فينا أعيان وقياد وباشغوات خدموك بكل إخلاص، ومازالت مآثرهم مسجلة في دفاترك ووثائق مخابراتك؟ أليس قايد الأمس قادرا على أن يلد قايدا مثله أو أفضل منه؟ إن من أمثالنا: »ولا تلد الحية إلا الحية«؟ أوَتحسبين أننا قوم ننكر الجميل ونكفر بالنعمة؟
خذينا إلى حيث شئت، وشقي بنا عباب المتوسط وجليد الألب، واضربي بنا سواحل البلطيق وبحر المانش، واصعدي بنا جبال الأورال، فنحن صناديدك بالأمس وخدمك اليوم، لم نتبدل ولم نتحول، ومن بدل وغيّر منّا سنحاسبه حسابا عسيرا.
نعم، خوضي بنا البحار واصعدي بنا الأجواء، واقطعي بنا ما شئت من المسافات والغابات والجبال والأحراش، فنحن حماتك الذين تنتشي أرواحهم كلما سمعوا نشيدك القومي (المارسييز)، ونزداد رهبة وخشوعا كلما رأينا رايتك المثلثة، ونذوب حبّا كلما لامست عذوبة لغتك ألسنتنا، وننبهر كلما شاهدت أعيننا إنجازاتك الحضارية .
إن لك في الجزائر حزبا أقوى من جميع الأحزاب، وكتلة أصلب من كل الكتل، و»لوبيا« مسيطرا على كل مفاصل الحياة. لقد أصبح هذا الحزب قوة مرعبة لأعدائك، تتحرك رهن إشارتك وتعمل وفق إرادتك. إنها قوة باقية على الحب القديم، والحنين الدفين. قوة رفعت رأسها الآن بكل تحدٍّ بعد أن أخفاه حينا نشطاء الممانعة . أما الآن فقد خلا الجو لهذا »اللوبي « فلم يعد يبالي باعتراض غيرك ولا يسمع سوى صوت ديكك،ولماذا يخاف الآن وقد :
نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمنا وما تفنى العناقيد؟
ولماذا تخافين على مستقبلنا المشترك: فألسنتنا لا تسبح إلا بلغتك، وآذاننا لا تستلذ غير موسيقاك الجميلة، وأسماء جنودك الذين دوخوا المتمردين عليك ماتزال تزين شوارعنا وساحاتنا وعماراتنا، وكتبك ومجلاتك ولوحات فنانيك ما تزال هي مراجعنا الأساسية. إننا مدينون لك بالوجود والتاريخ والمستقبل . أليست كلمة » ألجي « أحلى منكلمة الجزائر؟ أليست » ألجيري « أكثر موسيقية من كلمة القطرالجزائري؟
لم نكن قبلك شيئا مذكورا في التاريخ. فلا العرب قد حملوا رسالة أو أسسوا حضارة. ثم من هم هؤلاء العرب؟ أليسوا حفنة من الغزاة الطامعين في ملك الدولة البيزنطية وتراث الكنيسة؟ أليسوا هم بني هلال الذين وصفهم علماؤك بالوباء الفتاك لأنهم مسؤولون في المنطقة عن عملية الأسلمة والتعريب؟
ومن هم هؤلاء البربر؟ أليسوا هم الذين وصفتهم كتب علمائك بأنهم يجتمعون ضد الغريب ويتفرقون بعد انقشاع غبار المعارك، أليسوا قوما لا يحبون سلطة ولا يخضعون لسلطان، لذلك لم يؤسسوا دولة أو يرفعوا صولجان. فقد كانوا دائمة في حالة فوضى ظانين أنهم ينشدون الحرية.
ومن هم هؤلاء الأتراك؟ أليسوا قطيعا من الأعلاج الكافرين بالمسيح والكنيسة؟ أليسوا هم القراصنة الذين أرعبوا نصارى أوربا بحثا عن الغنائم؟ لقد تنادوا من جبال أناضوليا وسواحل البلقان والشرق الأدنى (الليفانت) يمخرون عباب المتوسط بحثا عن ملجإ فوجدوه في الجزائر التي أصبحت في عهدهم عشّا للقرصنة، ومع ذلك يسمونهابالمحروسة والمجاهدة؟
أما أنت يا باريس فشيء آخر، أنت حاملة مشعل الحضارة وناشرة علوم أثينا ورافعة مجد روما وباعثة روح الكنيسة التي رعاها القديس أوغسطين. لقد ولدنا من جديد على يديك فأدركنا من نحن وماذا علينا أن نكون. أين حسان بن النعمان من شارل مارتل؟ وأين عبد المؤمن من شارلمان؟ وأين خير الدين بربروس من ليوتي؟ وأين عبد القادر منبيجو؟ بل أين مصطفى بن بوالعيد من ماسو؟
لا تشكّي في ولائنا المتناهي يا باريس. فنحن الذين سندفع عنك الحراقة، وسنكفيك شر الإرهاب، وسنجعل حياتك آمنة مطمئنة. نحن حراس الشواطئ الذين لا تنام لهم عين، والساهرون على مصالحك حتى الرمق الأخير، والحافظون لكرامتك أمام العالم. ألم يقل أحدنا (ابن غبريط) إن فكرة الاستقلال عنك ماهي إلا ميكروب لا نريد حتىسماعها؟ ألم يردد باحثوك قولهم إن الجزائريين غير قادرين على حكمأنفسهم بأنفسهم . فكيف لا نحتمي بك من كل عدوان؟
خطاب المغلوب
إننا نفعل ذلك حبّا وكرامة، ولا ننتظر منك جزاء ولا شكورا. نفعله رغم أنك تآمرت وتتآمرين علينا ليل نهار، وتفرقين بيننا طمعا في تحقيق مشروعك الجديد الذي فشلت فيه قديما، وهو إقامة دويلات تابعة لك على أرضنا، وها أنت تدعمين خصومنا في المنطقة وتسلحين أنصار عدم الاستقرار عندنا وتجعلين منا شعبا متناقض التكوين غير متجانس العناصر. وقد أقنعت البعض منا بالدخول في حرب ضروس دامت عشر سنوات، وماتزال ارتداداتها تسمع من وقت لآخر، فأنت التي أغريت هذا بذاك، وزيّنت للبعض سبيل الحكم والتمسك به مهما كان الثمن، وعدم تسليم المقاليد إلى جيل ما بعد الاستقلال إنقاذا لنبوة ديجول .
لقد نجحت يا باريس في فصلنا عن الشرق، منبع حضارتنا العربية الإسلامية. فأصبحت عيوننا تتجه إلى الشمال رغم أنك تعتبريننا غرباء فيه، وأصبحت أفكارنا تستورد منك ومن أرشيف أوروبا الغربية والشرقية. ولولا الحج لما فتح باب الشرق أمامنا. ولولا الاتصال بالشرق عبر أربعة عشر قرنا لما فكرنا تفكيرا عربيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق