عرض: بشير خلف
إن مفهوم المجتمع المدني ، رغم ما بات يحوزُه من رواجٍ في الخطاب الفكري ، والسياسي العربي الإسلامي ، لا يزال لم يتّضح بعد بالصورة الواضحة الدلالة حتى لدى النّخب ، وحتى من الكثير ممّن يشرفون عليه ؛ فالبعض يحدده بالمنظمات ، والمؤسسات ، والهيئات التي تُقام على أساس طوْعي بين أفراد المواطنين خارج أطُر الدولة ، والعائلة ، وعلاقات القرابة والعشيرة التي لا تزال مُؤثّرة اجتماعيا وروحيا في أكثر من مكان بالعالم العربي الإسلامي ؛ وهناك من يصرّ على وضْع التشكيلات القرابية ، والمحلية التقليدية عموما ضِمْن منظمات المجتمع المدني ، لأنها توفّر بعض أشكال الحماية للفرد تحت مظلّتها ، ويستثني هذا البعضُ الأحزابَ السياسية من تشكيل المجتمع المدني لافتراضٍ أنها تسعى للوصول إلى السلطة ، في حين يُصرّ البعض الآخر على ثِـقل دورها في المجتمع المدني ، كوْنها لا تسعى إلى استلام السلطة فقط ، بل لأنها تطرح برامج اجتماعية ، واقتصادية ، وتعليمية ، وغيرها . كذلك لا يزال الجدلُ قائما حول ما إذا كانت التشكيلات القائمة على أساس الانتماء الروحي ، أو الطائفي ، أو الإثني تشكّل جزءا من المجتمع المدني لأنها في أحيان كثيرة تسعى إلى التغيير والدفاع عن حقوق وتطلّعات فئات واسعة من المجتمع ، وتضغط على مراكز القرار لتلبية العديد من المطالب الصحية ، والاجتماعية والتعليمية ، والثقافية ؛ في حين يرفض البعض عضويتها في المجتمع المدني ، بحُكْم القيود التي تضعها في شروط الانتماء إليها ، واقترابها في هذا المجال من المنظمات الإرثية ، ولكوْنها بهذه الشروط تتناقض مع مبدإ المواطنة الذي لا يقوم على شروط الدين ، أو الجنس ، أو العرق ، أو الانتماء الجهوي، أوالإثني
ويواجه التعريفُ الذي يركّز فقط على الجانب الاختياري الطوْعي في العضوية نفسَ الإشكالية ؛ فمنظمات المجتمع المدني تتباين كثيرا من حيث درجة انفتاح عضويتها ، فبعضها كالنوادي الخاصة يشترط رسوم اشتراك ، واهتمامات محدّدة ، وبعضها كمؤسسات البحث والجامعات ، والمعاهد يشترط مؤهّلات أكاديمية ، وعلمية ، وتخصّصية معيّنة ، وتفرّغ للعمل المدفوع الأجر ، كما تضع النقابات المهنية شروطا للعضوية ، وتحصرها في مجموعات ، وفئات مهنية ، وتشترط الأحزاب عادة الموافقة على برنامج الحزب ، ونظامه الداخلي ..هناك أيضا رابطات وجمعيات ثقافية وفكرية، ومؤسسات روحية تعمل وفق رؤية محصورة ، وهناك الجمعيات الخيرية والإغاثية التي تعتمد على العمل التطوّعي وبدون مقابلٍ كالهلال الأحمر مثلا .
ما سبق يقودنا إلى أن التعاطيَ مع المجتمع المدني وكأنه جسمٌ قائمٌ بذاته ، أو هو نسيجٌ مترابطٌ ..هو استنتاجٌ خاطئٌ .السؤال الجدير بالطرح ..ما العمل ؟ هل المجتمع المدني بمفهومه الحديث والمعاصر وبتغلغله في نسيج المجتمع بنسب تتحرك صعودا وهبوطا حتمية تاريخية فرضت نفسها ولا بدّ من التعامل معها بمعرفة وحكمة ، وواقعية ، والاستفادة من ثمارها كما هو الحال عند منْ سبقونا ؟ أم هي بدعة دخيلة تسرّبت إلينا ممّن يناوئوننا وجودا وكينونة في هذه المعمورة ؟ أم الرأي الحصيف هو تدعيم البُنى التقليدية في شكلها الأهلي والطائفي ، والعشائري كما كان الحال في العصور السابقة ، وكما لا تزال هذه البُنى متواجدة ومؤثرة في العديد من مناطق العالم العربي الإسلامي ؟
المجتمع المدني الحديث رهين الوعْي
إن المجتمع المدني في شكله الحالي وفي سياقه المعاصر ونوعية الأدوار التي يؤديها ، وهو تلك الشبكة الواسعة من الهيئات والمنظمات التي طوّرتها المجتمعات الحديثة في تاريخها الطويل والتي ( ترفد عمل الدولة ، ولا تتعارض معها ) ، وإذا شبّهنا الدولة بالعمود الفقري ، فالمجتمع المدني هو تلك الخلايا التي تتكوّن منها الأعضاء ، والتي ليس للجسم الاجتماعي حياةٌ من دونها ، فليس هناك أيّ شكل من العداء بينهما ، ولا اختلافٌ في طبيعة الوظائف كما سبق وأن أكّدنا ، وإنْ كان هناك اختلافٌ في أداء الأدوار ..هذا المجتمع أصبح ضرورة ملحّة .
إن التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ، ومتكاملة الوظائف معها ، ومشارِكة في تحقيق الكثير من المهام التي تخلّت عنها هذه الأخيرة ؛ ثم إن هذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة ، والانتقال نحْو مجتمع ديمقراطي يحكم نفسه بنفسه ، ويتحمّل هو ذاته مسؤولية إدارة العديد من شؤونه المختلفة .
إن رابطة الفكر والإبداع ارتأت ـ والموضوع بمثل هذه الأهمية ـ أن تنظم له ندوة ..فكانت وتم تنظيمها في سنة 2005 ندوة أطرها أساتذة جامعيون من جامعات : باتنة، بسكرة، الوادي، والمهتمين بالمجتمع المدني من جمعيات وأفراد، ودامت الندوة ثلاثة أيام قُدمت فيها مجموعة من المحاضرات والمداخلات الهامة ..وكعادة الرابطة التي تؤمن بضرورة التوثيق ؛ فإنها أصدرت كتابها الموسوم: المجتمع المدني ودوره في التنمية ..كتاب من الحجم المتوسط يقع في 208 صفحات .
يتضمن الكتاب استهلالا في البداية للأستاذ أحمد ديدي نائب رئيس الرابطة؛ فتقديم للأستاذ الأمين مناني عضو مكتب الرابطة .
أمّا المحاضرات فقد تمحورت كالتالي:
المحور الأول:
ـ المجتمع المدني : ماهيته، ضرورته.
ـ المجتمع المدني بين الدولة والمجتمع.
ـ دور المجتمع المدني في المحافظة على الهوية الوطنية في ظل العولمة.
ـ أبجديات المجتمع المدني .
ـ المجتمعان المدني والأهلي: مقاربات ومفارقات
المحور الثاني:
ـ دور المجتمع المدني في التنمية الثقافية.
ـ المجتمع المدني والثقافة البيئية في المجتمعات الصحراوية.
ـ المجتمع المدني واستراتيجية التنمية المحلية
المحور الثالث:
ـ الثقافة والوعي وتأثيرهما
ـ نصوص معرفية
ـ المجتمع المدني بدعة دخيلة ، أم ضرورة ملحّة.
ومن مضمون العنوان السابق استخلصت الندوة أن المجتمع المدني ضرورة ملحّة ..إنما أي مجتمع مدني ؟ ومتى يكون مستقلا حتى يؤدي وظيفته على أكمل وجه؟ وهل عندنا في العالم العربي بما في ذلك الجزائر يتصف بهذه الصفات ..تباينت الآراء في هذا الموضوع ، ولكن أغلبها ركّزت على أن مجتمعنا المدني ـ إلاّ في حالات نادرة ـ هو مجتمع مناسبات يتحرك إلاّ بالمهماز..ويستجيب لردّ الفعل الخارجي مثلما يستجيب لسحْر الجزرة والعصا.
إن المجتمع المدني في الدول الغربية احتلّ مكانة رائدة وتجاوز غائياته البسيطة ، فالأمر تجاوز كل الجدل السياسي وأصبح مؤثرا في كل المجالات، ويُحسبُ له حسابه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق