مبادئ الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)
قراءة في كتاب
بقلم: بشير خلف
يُجمع الباحثون في علم " الأنثروبولوجيا " على أنّه علم حديث العهد، إذا ما قيس ببعض العلوم الأخرى كالفلسفة والطب والفلك .. وغيرها. إلاّ أنّ البحث في شؤون الإنسان والمجتمعات الإنسانية قديم قدم الإنسان، مذ وعى ذاته وبدأ يسعى للتفاعل الإيجابي مع بيئته الطبيعية والاجتماعية .
لقد درج العلماء والفلاسفة في كل مكان وزمان عبر التاريخ الإنساني، على وضْـع نظريات عن طبيعة المجتمعات البشرية، وما يدخل في نسيجها وأبنيتها من دين أو سلالة، ومن ثمّ تقسيم كلّ مجتمع إلى طبقات بحسب عاداتها، ومشاعرها، ومصالحها.
وقد أسهمت الرحلات التجارية والاكتشافية، وكذا الحروب، بدور هام في حدوث الاتصالات المختلفة بين الشعوب والمجتمعات البشرية، حيث قرّبت فيما بينها وأتاحت معرفة كلّ منها بالآخر، ولا سيّما ما يتعلّق باللغة والتقاليد والقيم .. ولذلك، فمن الصعوبة بمكان، تحديد تاريخ معيّن لبداية الأنثروبولوجيا.
وتعرف الأنثروبولوجيا أيضاً، بأنّها علم (الإناسة).. العلم الذي يدرس الإنسان كمخلوق، ينتمي إلى العالم الحيواني من جهة، ومن جهة أخرى أنّه الوحيد من الأنواع الحيوانية كلّها، الذي يصنع الثقافة ويبدعها، والمخلوق الذي يتميّز عنها جميعاً .
كما تعرّف الأنثروبولوجيا بصورة مختصرة وشاملة بأنّها علم دراسة الإنسان طبيعياً واجتماعياً وحضارياً..أي أنّ الأنثروبولوجيا لا تدرس الإنسان ككائن وحيد بذاته، أو منعزل عن أبناء جنسه، إنّما تدرسه بوصفه كائناً اجتماعياً بطبعه، يحيا في مجتمع معيّن لـه ميزاته الخاصة في مكان وزمان معينين .
فالأنثروبولوجيا بوصفها دراسة للإنسان في أبعاده المختلفة، البيوفيزيائية والاجتماعية والثقافية، فهي علم شامل يجمع بين ميادين ومجالات متباينة ومختلفة بعضها عن بعض، اختلاف علم التشريح عن تاريخ تطوّر الجنس البشري والجماعات العرقية، وعن دراسة النظم الاجتماعية من سياسيّة واقتصادية وقرابية ودينية وقانونية، وما إليها .. وكذلك عن الإبداع الإنساني.
كتاب مبادئ الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)
في هذا الموضوع صدر للدكتور الباحث أحمد زغب الأستاذ بالمركز الجامعي بالوادي هذه الأيام كتاب بعنوان:" مبادئ الأنثروبولوجيا ..علم الإنسان" طبْع مؤسسة صخري بالوادي..الكتاب من الحجم الصغير يقع في 130 صفحة ..التصفيف والكتابة نفذها المؤلف بنفسه.تصميم الغلاف يحمل العديد من اللوحات والرسوم التي ترمز إلى الإنسان الأول..الغلاف يوحي منذ البداية بما قد يأتي قي صفحات الكتاب الذي بذل فيه الأستاذ أحمد زغب الكثير من الجهد، وتعدّد المراجع باللغتيْن.
مكوّنات الكتاب
بعد المقدمة التي نوّه فيها الكاتب بهذا العلم الحديث، لم يقسم الكتاب إلى أبواب، وكل باب إلى فصول كما هو معتاد في هذا المجال المعرفي، فارتأى ــ وهذا من حقّــه ــ أن يقسّمه إلى مواضيع رئيسة، وكل موضوع تتفرع عنه عناوين فرعية:
1 ـ الأنثروبولوجيا: موضوعاتها وأقسامها.
2 ـ تاريخ الأنثروبولوجيا.
3 ـ علاقة الأنثروبولوجيا بالعلوم الأخرى.
4 ـ فروع الأنثروبولوجيا.
5 ـ مدارس الأنثروبولوجيا.
6 ـ الميدان في البحث الأنثروبولوجي.
7 ـ الموضوعات الأساسية لعلم الأنثروبولوجيا.
يرى الكاتب أن الأنثروبولوجيا الحديثة حققت عدة إنجازات منها أنْ جعلت الإنسان ينظر إلى أخيه الإنسان باحترام، وأن البشرية وحدة موحّدة، وانطلاقا من هذا صار هناك توافق على ضرورة الاختلاف في الثقافات، وتنوّع أساليب العيش.في رأينا هذا موجود نظريا إنما الواقع التاريخي البعيد، والقريب، والحاضر، وحتى المستقبل .
من جانبنا لا نحسب أنّ هذا حصل، أو سيحصل..وما آثار العولمة في مكوّناتها العديدة، والسعي بكل الطرق والأساليب المسخّرة من طرف الأقوياء للإخضاع الفقراء، والسعي لسحقهم، وإذابة خصوصياتهم إلاّ دليل على ما نقول
إن الإنسان يشبه أخاه الإنسان، إذ مهما تباينت، وتباعدت الثقافات فهي واحدة أو هي للتشابه أقرب كما علمتنا، حيث علّمتنا الأنثروبولوجيا أن ندرس الآخر المختلف دراسة حيادية معرفية بعيدا عن التشنج، والتعصب،والعرقية المركزية..وبفضل هذا العلم الحديث أثبت الكثير من العلماء المتخصصين في الأنثروبولوجيا أن الشعوب المسمّاة "بدائية" لا تستحق هذه التسمية التي تحطّ من قيمتها الإنسانية..
ما يرى الدكتور أحمد زغب أن ما يزيد هذا النشاط الفكري ـ أي الأنثروبولوجيا ـ أهمية لدى أهل الاختصاص في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكذا جمهور المثقفين هو علاقته مع علوم أخرى أخذًا وعطاء.
كما يرى الباحث أن الثقافة العربية المعاصرة إنْ لم تستقر حتى الآن على المصطلح الدقيق لمثل بعض العلوم والتخصصات الحديثة بما في ذلك هذا التخصص ـ الأنثروبولوجيا ـ إذ أُطلقت عليه في ثقافتنا: علم الإنسان، الإناسة،الإنسانيات..إن هذه البلبلة موجودة حتى في الثقافات الأخرى، والمثال على ذلك أن مفهوم الأنثروبولوجيا لا يعني الشيء نفسه بين فرنسا وبريطانيا، ونتيجة للبلبلة التي تكتنف المفهوم في الثقافة العربية يفضل الباحث الدكتور زغب الاستناد إلى المصطلح في المفهوم غير العربي، لأن الأمر يتعلق بتخصص علمي عالمي يُقدم إلى طلبة مبتدئين، لأن المصطلح الأجنبي أدٌق لكونه ابن البيئة الأصلية لهذا العلم.
إنّ كون الأنثروبولوجيا كعلم لـه خصوصيته وطرائقه، غربي المنشإ والتطوّر،فلا نوافق الأستاذ عليه يعني هذا تجاهل ,وإنكار، أنّ العرب كانوا أسبق من الغرب (الأوروبيين) في دراسة الثقافات الأخرى، وصفاً ومقارنة، وفي وضع المبادئ، والأسس المنهجيّة للبحث والدراسة في العلوم الاجتماعية والطبيعيّة.
من الباحثين العرب منْ يرى أن العرب أسبق من الغرب في بدايات هذا العلم ـ جنينياـ من ذلك على سبيل المثال الجهود التي قام بها دون أن يعلم أنها تدخل في هذا المجال رحلات، واستكشافات أبو سعيد الأصمعي (121 هـ- 216 هـ/ 740 - 831 م) راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر. وهو متخفٍّ في هيئة أعرابي، أبحاثه وكتاباته معروفة في الثقافة العربية بـ " نوادر الأصمعي" ..وإنْ كانت تخلو من التحليل العلمي، ولكنها مرويات في شكل نوادر، وطرائف لغوية، واجتماعية خبرها الأصمعي، وعايشها رحّالة بين أهلها تارات متنكرا، وتارات أخرى معرّفًا بنفسه.
أليس هذا العمل هو ذاته الأنثروبولوجيا كما أنتجها الغرب من دراسته لمجتمعاتنا، ومجتمعات أخرى؛ وأن التراث العظيم الذي جمعه الأصمعي الذي كان لا يعلم أنه يقوم بأول عمل أنثروبولوجي ميداني في تاريخ العرب والإنسانية جمعاء.
كما كانت لرحلات ابن بطوطة، وكتاباته خصائص ذات طابع أنثروبولوجي، برزت في اهتمامه بالناس ووصف حياتهم اليومية، وطابع شخصياتهم وأنماط سلوكاتهم وقيمهم وتقاليدهم.
أمّا كتاب ابن خلدون " العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " فقد نال شهرة كبيرة وواسعة بسبب مقدّمته الرئيسة وعنوانها : " في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان، والكسب والمعاش والمصانع والعلوم، وما إلى ذلك من العلل والأسباب ". وتعتبر هذه المقدّمة عملاّ أصيلاً في تسجيل الحياة الاجتماعية لشعوب شمال أفريقيا، ولا سيّما العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب بعض المحاولات النظرية لتفسير كلّ ما رآه من أنظمة اجتماعية مختلفة. وقد شكّلت موضوعات هذه المقدّمة – فيما بعد – اهتماماً رئيسياً في الدراسات الأنثروبولوجية.
إنّ الفلاسفة والمفكّرين العرب أسهموا بفاعلية – خلال العصور الوسطى- في معالجة كثير من الظواهر الاجتماعية التي يمكن أن تدخل في الاهتمامات الأنثروبولوجية،ولا سيّما التنوّع الثقافي (الحضاري) بين الشعوب، سواء بدراسة خصائص ثقافة أو حضارة بذاتها، أو بمقارنتها مع ثقافة أخرى
في موضوع الأنثروبولوجيا والفكر العربي المعاصر يصرّ الدكتور أحمد زغب على أن هذا العلم غربي أساسًا، حيث انطلق من نظرة الغرب إلى الإنسان، والكون،والمصير من جهة، ومن نظرة الغربيين إلى الآخر المختلف من جهة أخرى؛ كما أن المنطلقات الفكرية للأنثروبولوجيا لدى الغرب كانت عرضة لانتقادات شديدة ليس فقط من أنثروبولوجيين مسلمين، بل حتى من العلماء الغربيين النزيهيين..وكأن الباحث لم يستصغ ما ذهب إليه هؤلاء العلماء بدليل قوله:
« …فنحن مع كل ذلك نرى أن تعدد الأنثروبولوجيات بتعدد الثقافات لا يخدم العلم في شيء، إنما نؤيد الذين يسعون إلى علم شامل إنساني وحيادي إزاء كل الثقافات، مع وضع بعين الاعتبار كل الثغرات، والنقائص قصْد محاولة تلافيها على مرور الزمن.»ص:108
إن العلم الحيادي الذي يدعو إليه الأستاذ زغب ما وُجد تاريخيا، ولم يوجد، ولن يوجد..قد يكون ذلك في إطار البحوث العلمية بداية، ثم نتائج هذه البحوث تُــؤدلج لخدمة أغراض الكل يعرفها، ثم ما العيب لمّا تتعدد الثقافات، والمعارف بما في ذلك الثقافات الإسلامية العربية، وكذا العلوم ومنها الأنثروبولوجيات، لأنها فيما بعد تخدم الثقافة الإنسانية وتُثري مكوّناتها.
يحاول الأستاذ زغب أن يقنع القارئ بأنْ لا مفرّ من الإقرار بأن هذا العلم هو علمٌ إنساني ولكن السبْق فيه كعلم استقلّ بنفسه، ووقف على رجليْه إلاّ بفضل علماء الغرب، حتى وإنْ كان العرب كانوا سبّاقين إلى التفكير في تنوّع الثقافات الإنسانية، كما كانوا سبّاقين إلى البحوث الأثنوغرافية ( وصْف حضارة شعب ما)، كما هو الحال عند البيروني، وابن بطوطة، وابن خلدون..هي محاولات رائدة في نقل الفكر عن طريق الملاحظة، والجمع، والتقصير إلى التنظير.ص:109
يبرر الباحث سبب عدم وجود أنثروبولوجيا عربية إسلامية ماضيا وحاضرا إلى:
1 ـ عدم تقبّل فكرة التطور الحيوي عند الإنسان التي نادى بها داروين وغيره، وهي الفكرة التي تتعارض مع الفكر الديني، وتفسيراته التي تؤكد أن الإنسان مخلوق من عمل الله، وليس نتاج حلقة تطورية ذات أصل حيواني.ص:109
2 ـ ارتباط الأنثروبولوجيا بالاستعمار الغربي، إذ استغلّ المستعمر المعلومات التي جاء بها الباحثون عن المجتمعات البدائية قصْد معرفة بنيتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ممّا يسهّل التحكم فيها، والسيطرة عليها.
إن التاريخ الحديث والمعاصر أثبت، ويثبت بالدليل أن أيّ تعـــاطٍ أوروبي غربي مهما كان شكله مع قضايا المجتمعات العربية والإسلامية يقع دون ريب في دائرة الأطماع الاستعمارية، والتآمر على العرب والإسلام..وما يجري اليوم في هذه المساحة من العالم وراءه الغرب الذي جنّد ويجند كل تقنياته وأسلحته، وفي صدارتها العلوم، ومنها الأنثروبولوجيا.
نحن مع الأستاذ في ضرورة احترام ثقافات الشعوب، واحترامها، والحرص على تفهّمها، والوصول إلى أوجه التشابه والاختلاف بين الثقافات..الأمر الذي يساعد على فهْم طبيعة الإنسان..كما أن الرفض المطلق،أو القبول المطلق للأنثروبولوجيا بمعناها الغربي دون تمحيص ونقد كما يقول د.حسن فهيم في كتابه الموسوم بــ :" قصة الأنثروبواوجيا " الصادر عن عالم المعرفة بدولة الكويت يمثلان على السواء حالة من حالات التخلف الفكري، والسلبية العلمية.
ولمّا يقرّ الدكتور أحمد زغب على أن الثقافة العربية تستفيد من الأنثروبولوجيا فوائد جمّة، فهي تقدم للإنسان العربي صورة واضحة عن نفسه، وعن أقرانه، وتسهم في فهْم نشأة المجتمعات الإنسانية، وطبيعة وظائفها، كما أن هذا العلم يوضح دوافعنا، وسلوكنا، وكذا دوافع الآخرين وسلوكاتهم، كما أنه يساعدنا على فهم سلوكات الشعوب الأخر؛ فإن هذا لا يعدم البتّة أن نساهم في هذا العلم، وتكون لنا بصمتنا الخصوصية فيه كغيرنا عكس ما يراه الأستاذ ..نعم نتناول الأنثروبولوجيا ومفاهيمها بنقد وتبصّر، إنما نحن لسنا معه حينما يقول:
«…دون محاولة أسلمتها، أو عربنتها..لأن ذلك يضرب عليها حصارًا أيديولوجيا.»ص:111
نحن مع ما دعا إليه الدكتور عيسى الشماس في كتابه " مدخل إلى علم الإنسان ..الأنثروبولوجيا" الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بسوريا من الضروري العمل على فحص التراث العربي الإسلامي، بتنوّعه وغزارته،ودراسته دراسة متأنية ومتعمّقة، ولا سيّما تلك الأعمال ذات الصلة المباشرة بالأنثروبولوجيا، من أمثال : مؤلّفات أخوان الصفا، وكتاب " الحيوان " للجاحظ، وكتابات أحمد ابن مسكويه الخاصة بآرائه عن النشوء، وتحوّل الأحياء بعضها من بعض، وغيرها كثير.
فقد تؤدّي هذه الدراسات إلى إعادة تاريخ الأنثروبولوجيا من جديد، أو على الأقلّ، إعادة أصولها المعرفيّة والمنهجيّة، بحيث لا تردّ جميعها إلى عصر النهضة (التنوير) في أوروبا فحسب، بل قد يوجد في هذا التراث الحضاري العربي، الكثير من المفهومات والنظريات عن الجنس البشري والحضارة الإنسانية، وأوجه الحياة اليوميّة ومشكلاتها.ص:199
وبعــــــــــــــــــــد
كتاب مبادئ الأنثروبولوجيا للدكتور الباحث أحمد زغب كتاب قيّمٌ ومفيد جدا لكل مثقف وباحث عن المعرفة، كما أنه مفيد جدا لطلبة الجامعة، ومن خلال القراءة المتأنية والمركّزة التي يؤديها المطلع على هذا العلم قد يتفق مع الأستاذ في مواضع، ويختلف معه في غيرها، إنما الأستاذ بذل جهودا مضنية في إعداد هذا البحث المعرفي الإنساني، وهو الأستاذ المعروف بجديته وصرامته العلمية..مراجع عدة اعتمد عليها لإعداد مؤلَّفه هذا،منها ما هو باللغة العربية، ومنها ما هو باللغة الفرنسية..41 مرجعًا.
بالكتاب البعض من الأخطاء المطبعية، وغيرها اللغوية إلاّ أن عددها القليل لا يخلّ البتّة بهذا الإنجاز الطيب الذي يجعلنا نباركه، ونرجو للباحث أحمد زغب المزيد من الإصدارات العلمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق