الاثنين، 4 مارس 2013

ماذا يبقى من قيادة الأمير للمقاومة الشعبية,


ماذا يبقى من قيادة الأمير للمقاومة الشعبية,
وما هي خلاصتها السياسية؟
تعرض هذه الورقة وجهة نظر في القيادة العسكرية والسياسية للأمير عبد القادر وبعض مواقفه في الأسر والمهجر، والهدف الإجابة بإيجاز عن السؤالين التاليين:
1 ـ ماذا يبقى مفيدا من المنهج القيادي للأمير؟
2 ـ ما هي الدروس التي نستخلصها من ذلك المنهج؟
أولا: التطبيق المبكر للشورى والديمقراطية المباشرة
تتطلب الإجابة عن السؤال الأول أن نوضح في البداية أن كلمة أمير تعني القائد العام، وهو مصطلح بدأ استخدامه بالمعنى الديني والسياسي والعسكري في صدر الإسلام ”الخليفة أمير المؤمنين”، أي قائدهم على نهج نبينا الأكرم عليه أزكى الصلاة والتسليم، ومنه أخذت كلمات أميرال (فرنسية) وأدميرال (إنجليزية) وأميرلاي (تركية)•••
ومن المعروف أن حامل لواء المقاومة لم يكن من سلالة الملوك والسلاطين، فهو من النخبة العالمة أو المثقفة التي تحظى بأعلى مراتب الشرف والاحترام في ذلك العهد، وفي كل مناطق الجزائر، وإن كان يحق للأبناء والأحفاد الاعتزاز والافتحار بأمجاد ذلك الرجل العظيم، فإن الجزائر لم تعرف منذ ما يزيد على أربعة قرون وحتى في عهد الدايات، وراثة مثل هذه الألقاب•
وعلى الرغم من كل ما يقال عن النظام السياسي في بلادنا بعد الاستقلال، فلم تورث الرئاسة لابن رئيس أو أخيه، وعلى أي حال فإن هذا التوضيح لا يستهدف أي شخص من أبناء الأمير أو أحفاده، وقد أسندت لهم مهام ومسؤوليات سامية في الدولة الجزائرية الحديثة• نجد في المنهج القيادي للأمير عبد القادر التطبيق الفعلي لمبدأ الشورى الإسلامي، أو ما يعرف اليوم بالديمقراطية المباشرة، فقد طرح شخصه ومشروعه للمقاومة مرتين، طلب أولا الثقة أو التزكية من محيطه الأقرب بين أهالي القيطنة، ثم ترشح لها ثانية على نطاق أوسع في سهول غريس وبني شقران، ولو توفرت وسائل الاتصال والاستشارة كما هو الحال الآن، لعرض ترشحه ومشروع المقاومة على الاستفتاء الشعبي والانتخاب الحر على كل المواطنين الجزائريين• نجد في منهج الأمير عبد القادر عناصر لاستراتيجية بعيدة المدى للمقاومة الشعبية، في بلد في حالة حرب تدميرية شاملة وفي غياب الدولة التي تم استئصال معالمها ورموزها ومؤسساتها المركزية بعد حوالي سنتين (1830 ـ 1832) من بداية العدوان، ولن نعرض هذا للتساؤلات والإجابات الكثيرة حول ما حدث في سيدي فرج وسطاولي إلى القصبة خلال تلك المدة، ولكننا نعرف أنه في حالات الحرب أو التهديد بالحرب تضع أكثر البلدان ديمقراطية حتى في العالم المعاصر الاستشارة الشعبية في حالة بيات ( Hebernation ) أو تأجيل، ومن أحدث الأمثلة على ذلك القانون الوطني رقم 1 و,2 في الولايات المتحدة، بعد حادث البرجين في 11 / 09 / 2001 الذي ألغى الكثير من الحريات والحقوق المدنية•
ثانيا: من التأطير الى التنظيم
في مواجهة الاستئصال والتدمير
هدف الاستشارة الشعبية إقناع النخب العالمة، أو المثقفة بمقاييس ذلك العصر الذي تغلب عليه الثقافة الدينية التي تقتصر على حفظ القرآن الكريم وتفاسيره ومتنون الفقه وعلوم العربية وحلقات الذكر، وهو واقع الحال السائد في العالم العربي والإسلامي كله، الذي لم يتغير كثيرا بعد الصدمة الحضارية حتى أواخر القرن ,19 حين امتزج بإرهاصات الحركات الوطنية، ولا يعني ذلك التقليل من ذلك الموروث في سياقه التاريخي• فقد قام بدور السد في مواجهة المد الكولونيالي، غير أن ذلك التراث لم يتطور بعد ذلك من داخله وبالاستفادة مما يحدث خارجه في الغربين الأدنى (أوروبا) والأقصى (أمريكا) أي لم يصنع حداثته، وتجميده في عصرنا هذا يعني الدفع بشعوب الأمة الإسلامية نحو مزيد من الانحدار إلى الحضيض الأسفل• بذل الأمير جهدا كبيرا في إقناع تلك النخب، فقد كان على دراية بأنها تؤطر المجتمع المدني، والشعب بوجه عام، في شبكة الزوايا والتنظيم الخاص بالمجتمع القبلي الذي ينتمي فيه الأفراد إلى نواح تنتظم في قبائل وعشائر وبطون يعرف بها الفرد قبل اسمه الشخصي، ولا يزال بعضها متوارثا إلى اليوم مثل البجاوي والقسنطيني والتلماسني والشاوي والفماري، الخ••• ولا نتحدث عن التشويه الذي لحق الأسماء والألقاب بعد الاحتلال• والحقيقة أن الأمير أضاع وقتا ثمينا في محاولاته لجمع الصفوف، بل وخاض معارك ونزاعات ثانوية استفادت منها القوات الغازية وفي ماضينا عبرة لمن يعتبر!
تفطنت قوات العدوان لخطة الأمير الرامية إلى توحيد الشعب الجزائري الذي أصبح وجها لوجه مع عدو متفوق في العدد والعتاد: جيب منظم بسلاح فتاك ومتطور وبإمكانه الحصول على الإمدادات اللوجستيكية والجنود في أيام معدودات•• فبين طولون نقطة الانطلاق الأول لأسطول العدوان، أو مرسيليا حوالي 700 كلم، أي أقل من المسافة البرية بين معسكر وقسنطينة أو عنابة خاصة، إذا قارنا بين وسائل النقل البحري الأسرع وحال الطرقات ووسائل النقل في الجزائر قبل حوالي 160 عام•
لإفشال خطة الأمير، عمدت قوات العدوان إلى عمليات قنص استهدفت قتل النخب الوطنية أو تشتيتها، ونجحت خلال سنتين من بداية الحملة في تفريغ أغلب القرى والمدن الجزائرية من العلماء، وملاحقة من بقي منهم على قيد الحياة في الزوايا والكتاتيب، وهي معقلهم الأصلي والأكثر تأثيرا بين خاصة الناس وعامتهم، وهذه هي الجريمة الثانية التي تواصلت لأكثر من قرن، وأكملت جريمتها الأولى المتمثلة في تدمير الدولة واقتلاع مؤسساتها ومحو رموزها ومعالمها• ثالثا: بعض مؤهلات القيادة عند الأمير وميراثه المتجدد ما يبقى مفيدا لأهل الفكر والذكر والسياسة من نهج الأمير في القيادة وسيرته في الأسر والمهجر، هو مؤهلات القيادة وخاصة في حالة الخطر المحدق التي تتطلب قوة الشخصية ورباطة الجأش، وهي السمات المطلوبة من المسؤول الأول الذي يقود• فقد كان الأمير محاورا بارعا ومستمعا جيدا يتمتع بشخصية جذابة، توحي بالثقة وعلو الهمة ظاهرا وباطنا، كما شهد من عايشوه أثناء قيادته للمقاومة، من الأعداء والأصدقاء، وتلك الشهادات مذكورة في عدد من الكتابات بالعربية والفرنسية والعثمانية والإنكليزية، في حياته وبعد أن التحق بالرفيق الأعلى•
وفي هذا الجانب القيادي من شخصية عبد القادر، نقول بأننا لا نرى في مسيرته ما يدعو إلى نسج حكايات أسطورية، ولا نجد في كفاحه البطولي أي خوارق ومعجزات، فلم يتول الرجل وظائف سامية في السابق، فلم يكن لا ”باي” ولا ”باش آغا” فقد كان شخصا عاديا من خريجي الزاوية القادرية وفي منطقة السهل الوهراني، عشرات الزوايا ومئات من الشيوخ والآلاف من المريدين، والأهم من كل ذلك أن المسؤولية سعت إليه ولم يطلبها أو يحصل عليها بعد صراعات قبلية ومنازعات عروشية، ولا أقول انقلابا عسكريا، إذ لم يكن تحت إمرته في البداية جندي واحد•
اختارته الأغلبية للقيادة وهو في ريعان الشباب لم يتجاوز سنه 24 سنة، وفيهم بلا شك من يزيد عليه تجربة وخبرة، كما أن والده الشيخ محيي الدين لم يتول أية مسؤولية سياسية أو عسكرية على الرغم من أنه كان من وجهاء القوم، بل إن أسرته لم تكن من المقربين من داي وهران، ولأسباب لا يتسع المقام لذكرها، كانت في عداد المغضوب عليهم• تجددت تجربة الأمير وتطورت بعدما يزيد على مائة عام، فقد تكونت نواة الثورة التحريرية من شبان في سن الأمير، وتولى قيادة الولايات والمناطق التاريخية ثم هيئة الأركان العامة قادة استشهد الكثير منهم في ميدان الشرف ولم يبلغوا الأربعين من العمر، وعلى الرغم مما يحظى به كبار السن من النساء والرجال من احترام ونفوذ في المجتمع الجزائري في ذلك العهد، والأغلبية منه من سكان القرى والبوادي المعروفة بالعائلة الممتدة، فلم تنقل لنا محاضر جلسات المحافظين السياسيين لجيش التحرير الوطني وتقارير العدو أي رفض أو احتجاج على تكليف شبان بمهام قيادية في أي مستوى من المسؤولية• مما يبقى مفيدا ونموذجا يحتذى في تراث الأمير عبد القادر للمسؤولين في قمة هرم الدولة ومستويات هرم المسؤولية الأخرى وفعاليات المجتمع المدني، هو حرص الأمير على الوحدة الوطنية والتجانس والانسجام بين مكونات المجتمع وخصوصياته المحلية التي لا تتعارض ولا تنفي أو تضعف المشتركات الجامعة والموحدة، ومن أهمها العقيدة الإسلامية واللغة الطائفية والعرقية• عمل الأمير بتفان على تحقيق تلك الأهداف، واعتبرها من الشروط الأساسية لمواجهة العدو واستمرار وصمود المقاومة الشعبية، ولذلك اختار الأمير خليفته، أو الوالي بالتعبير الحالي، من نفس المنطقة إذا رشحه وقبله أهالي تلك المنطقة، فأهل كل منطقة أدرى بشؤونها، في وقت ابتعدت فيه الإدارة العثمانية عن الشعب في بلد تزيد مساحته على 2 مليون وثلث مليون كلم.2
من المؤسف أنه لم تسجل للذاكرة الوطنية مدونات موثوقة عن زيارات الأمير وجلسات العمل التي كان يعقدها أثناء تنقلاته في غرب ووسط الجزائر وفي منطقة زواوة في بويرة (برج حمزة سابقا) وبجاية وفي المغرب، وخاصة بعد يأسه من توحيد المقاومة مع المملكة المغربية، وربما كان لسان حاله وهو يعود أدراجه إلى أرض الوطن سيؤكل الثور الأسود يوما ـ ما ـ بعد الانتهاء من الثور الأبيض، وهو ما حدث بالفعل بضعة عقود من بعد (1911)• على الرغم من خصوصيات المسار التاريخي للبلدان المغاربية، فإن تجربة الأمير المرة وخيبته الأليمة، تؤكد لمن يحتاج إلى دليل أن التضامن بين الشعوب المغاربية واتحادها في السراء والضراء، هو الكفيل بحماية أمنها الجماعي في حالات السلم، والحرب وازدهارها المشترك، فما يجمعها ويفيدها أكثر مما يفرقها ويبعدها عن بعضها•
وهذا الهدف الاستراتيجي، كان وما يزال قناعة راسخة لدى الجزائريين• فأول تنظيم سياسي في الجزائر حمل اسم نجم شمال إفريقيا وهدفه توحيد نضال التحرير بين كل الشعوب المغاربية، الذي تغنى به شباب الحركة الوطنية (حيوا الشمال•• يا شباب•• حيوا الشمال الإفريقي••) وهو كذلك مطلب جوهري في البيان التاريخي لثورة الأول من نوفمبر ,1954 ورهان الجزائر الدائم في الحاضر والمستقبل• إن التجمع الجهوي لا يلغي سيادة الدولة الأمة، والخصوصيات المحلية والوطنية، ولا يمنع العلاقات مع بلدان أو تجمعات أخرى، والأهم من كل ذلك أن لا يعتبر أي عضو في الاتحاد أن ضعف وزعزعة بلد مجاور قوة له، أو ينخدع بجاذبية تجمع آخر وراء المتوسط والأطلسي والقبول بخدمة تابعة للآخر، مقابل إغراءات وتسهيلات خادعة وأخطرها الاستقواء بعلاقة ”زواج متعة” مع الخارج•• فمتى تصفو النوايا وتتضافر الإرادات؟
رابعا: من مقاومة الأمير إلى بيان ثورة 54
إذا كان من المؤسف أن الأمير لم ينجح في مسعاه لتوحيد الكفاح المسلح ضد عدوه المباشر والمتربص بجاره المغربي والشرقي (تونس) فإنه من المؤسف أكثر أن المقاومة الشعبية لم تتوحد مع جناحها الحيوي، في إيالة قسنطينة التي قادها أحمد باي وواصلها وحده إلى آخر رمق، وإذا كان التاريخ لا تفسر أحداثه عن طريق الاحتمالات أو الفرضيات الخيالية، فإنه من الممكن أن نتساءل عن مدى صمود المقاومة، لو توحدت في كل أنحاء القطر؟ لقد قدم المؤرخون عدة تفسيرات لوجود مقاومتين في آن واحد وضد عدو واحد، لا يسمح موضوع هذه الورقة بالخوض فيها• لقد استفاد العدو من انشطار المقاومة والانتفاضات العديدة التي لم تشمل كل التراب الوطني، ولم ينخرط فيها كل الشعب الجزائري، فتمكن من عزلها وإغراقها في بركة من الدماء والدمار، وقد استخلصت ثورة الأول من نوفمبر من تجربة الأمير عبد القادر والانتفاضات المتلاحقة بعده (36 انتفاضة خلال 72 سنة / 1847 ـ 1919)، وأحزاب ومنظمات ساعدت على تقريب الجزائر من تنظيم المجتمع الحديث بدل مجتمع الولاءات القبلية فوحدت الصفوف في مشروع سياسي للخلاص هو جبهة التحرير الوطني وتنظيم عسكري واحد هو جيش التحرير الوطني• تنخرط فيهما كل الفعاليات السياسية السابقة، إذا قبلت المشروع العظيم الذي حدد منهجية العمل الثوري وأهدافه مهما كانت توجهات التيارات السياسية ومواقف زعمائها ومناضيلها من الاندماجيين إلى الاستقلاليين إلى حركة الإصلاح إلى من اختاروا المنزلة بين المنزلتين• يمكن اعتبار تنظيم جبهة وجيش التحرير أعلى مرحلة من النضج السياسي وصلتها الحركة الوطنية في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين ولا ينقص منها ما قاله العدو بالأمس وما يقوله ساسته ومفكروه ووسائط تبليغه الأخرى وخاصة الأشرطة والأفلام السينمائية• فالجزائر لم تتحرك بتدخل قوات أخرى أجنبية (الحلفاء هم الذين حرروا فرنسا من الاحتلال الألماني 1940 ـ 1945) ولولا تدخل القوات الأمريكية والبريطانية، والتحالف العالمي لإسقاط هتلر لبقيت فرنسا محمية ألمانية كما هو حال النمسا•
ولا ينقص من الثورة أيضا الخلافات والصراعات الجانبية والأخطاء الجزئية التي لا تخلو منها أية ثورة في السياق التاريخي لجزائر النصف الثاني من القرن الماضي، فإنها على العموم لم تشكل أو تعارض جوهر المشروع الثوري كما ورد في بيان الأول من نوفمبر ,1954 ولن تؤثر على عظمة المشروع الثوري للجبهة وجيش التحرير تلك الأحداث التي وقعت بعد 1962 وآراء الفاعلين ومذكراتهم وتصريحاتهم حول وقائعها ودور هذا أو ذاك فيها، ومثل كل الثورات الفاصلة بين عهدين سوف يزيد التقادم من عظمة الثورة الجزائرية ومصادرها في مقاومة الأمير عبد القادر والانتفاضات التي أعقبتها والرصيد السياسي لنضالات الحركة الوطنية بكل أجنحتها•
خامسا: على نهج الأمير المصالحة لترسيخ الوحدة الوطنية
نجد في جهود الأمير المبكرة لبناء وترسيخ الوحدة الوطنية مبادرة أولى تاريخية لجمع الصفوف، لم تسمح له حالة الحرب الشاملة بإرسائها وجني ثمارها• وقد طور الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ذلك النهج وأعطاه أبعاده التاريخية والحضارية والسياسية، الهدف هو إنقاذ الوطن من الغرق•••
في الأزمة وإنذارات الحرب الأهلية•• (صدرت للكاتب دراسة عن الأزمة والمخرج منها نشر دار الأمة 1997)•
ـ مصالحة مع ماضينا الأمازيغي العربي الإسلامي، بلا تجزئة ولا تقطيع أو حذف مزاجي أو سياسوي، فقد بادر الرئيس بوتفليقة بدسترة الأمازيغية (2002)، وواصل إعادة الاعتبار للقيادات التاريخية، وحملت الكثير من الساحات والمطارات والجامعات أسماء مصالي الحاج وفرحات عباس وعبان رمضان، إلى جانب الأمير عبد القادر والإمام عبد الحميد ابن باديس والبشير الإبراهيمي، وقادة الثورة العظام مثل مصطفى بن بولعيد والعربي بن مهيدي وزيغوت يوسف وعميروش وهواري بومدين ورابح بيطاط••• إلخ•
ـ كما نجد صورة للوئام والاحترام عندما يشارك الرؤساء الأحياء إلى جانب رئيس الدولة في الأعياد الدينية والوطنية، في صورة نادرة في منطقتنا وفي العام الثالث بوجه عام، وحتى في العالم المتقدم•
ـ ومن الناحية السياسية، بشـّر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالمصالحة والسلم الوطني بين كل الجزائريين، وعمل جاهدا، على نهج الأمير عبد القادر، على غلق باب جهنم الذي فتح على الجزائر خلال عقد التسعينيات، حيث كانت بلادنا قاب قوسين أو أدنى من حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، تؤدي بها حتما إلى تدخل أجنبي ووصاية دولية، وبالقرب منها من يطالب بحق التدخل، أي العودة بالجزائر ما قبل .1962 في وقت كان فيه العالم من حولنا، وحتى في جوارنا القريب، يستعد لدخل قرن وألفية جديدة، حيث تتسارع التحولات وتحقق ثورة الحاسوب والاتصالات والجينوم فتوحات لم تكن تخطر على البال•
حققت المصالحة خطوات إيجابية على طريق ترسيخ السلم والاستقرار، ووجهت جهود الدولة والمجتمع نحو العدو الحقيقي لبلادنا، وهو التخلف الموروث والمتراكم• فلا يمكن تدارك الوقت الذي أضاعه الجزائريون في اشتباكات مهلكة، وتحديث الدولة وهياكلها القاعدية وتطوير المجتمع، إذا لم يتحقق الأمن والاستقرار في كل ربوع الوطن، وهذا هو الهدف الأول للمصالحة والسلم الوطني• وقديما، قال الماوردي في دراسته ”أدب الدنيا والدين” (364 هـ ـ 1017 م): ”الأمن أهنأ عيش والعدل أقوى جيش”•
وليس من المفيد، لكي لا نقول ليس بريئا، أن تبرز خطابات بعض الحساسيات وأعمدة بعض الصحف وتركز الأضواء على جريمة هنا أو هناك لإظهار فشل المصالحة والدعوة لاستئناف الحرب، والدعوة لايدويولوجية تجريدية قد تصل ببلادنا إلى الصوملة والحالة العراقية• قبل الشعب الجزائري، بأغلبيته، مشروع المصالحة من أجل السلم والأمن في استفتاء شعبي أشبه بالاستفتاء على الميثاق الوطني سنة ,1976 أي بعد ربع قرن، لأن الإرهاب باسم احتكار الحقيقة، سواء أكانت دينية أو عنصرية، هي ايديولوجيا الموت والدمار، لا تحمل إرهاصات نهضة حضارية أو قضية مشروعة•
والإرهاب بهذا المعنى يختلف عن العنف الثوري أثناء حرب التحرير الوطني الذي حمل آمال وآلام الملايين من الجزائريين، وهو الجهاد الحقيقي ضد الطاغوت الكولونيالي (بمعانيه الدينية والدنيوية) وممارساته الإجرامية، ولا جهاد يساويه أو يفوقه مشروعية، فهو جهاد واستشهاد من أجل الحرية والعقيدة والحق في الحياة بكرامة ومواطنة حقيقية حرم منها الجزائريون أمدا طويلا•
لأي تنظيم أو شخص الحق في الاعتراض بالرأي والموقف على المصالحة• ولكن، على المعترضين اقتراح بديل آخر، لا يؤدي إلى اشتعال الفتنة وإهدار الطاقات البشرية والمادية، كما حدث للأمير عبد القادر بين 1832 و,1847 فهذا الوضع لا يقبله الحس السليم•
سادسا: مسيرة الأمير وتراثه ملكية للوطن وجزء من تراث الإنسانية
قبل الإشارة إلى دروس أخرى من نهج الأمير ومساره، قد يكون من المفيد الإدلاء بوجهة نظر لرفع التباس شائع عند البحث أو الاحتفاء برموزنا التاريخية، ويتمثل الالتباس في حصر تلك الشخصيات الرائدة في تاريخنا القريب والبعيد في عائلة أو قرية أو مدينة أو ناحية، وكأنه ملكية خاصة لا يسمح للآخرين بتبنيها كمعلم وطني، وكأن الأمر يحتاج إلى إذن مسبق، وهذا التملك أو الخوصصة يبدو لنا أنها ـ على أغلب الظن ـ من بقايا التقاليد القبلية والعشائرية التي سبقت الحركة الوطنية والثورة• فهل هي تعود اليوم للظهور؟ وإذا كان من حق أي قرية أو حومة أو مدينة أن تعتز بأبنائها من الأبطال والنابغين في العلوم والفنون والآداب، فإن تلك الشخصيات تصبح بالتقادم ملكية عامة للأمة وجزءا من ذاكرتها الوطنية الجماعية، وقد تتحول إلى جزء من التراث المشترك للإنسانية، كما هو الحال بالنسبة للأمير عبد القادر•
* سابعا: نتائج وخلاصة
بعد هذه الملاحظة، فإننا نختم هذه الورقة بالنتائج والخلاصة التالية:
1 ـ النتائج
ـ إن قوة الدولة من قوة الأمة وانسجام المجتمع، وتوافق فعالياته على مشروع للتحرير والنهضة والتقدم والعدالة الاجتماعية القائمة على مزيج من معيار الاستحقاق، أي التفوق والكفاءة من جهة، والتضامن مع المستضعفين من الفقراء والمعوقين من جهة أخرى• وإذا كان تحقيق الوحدة الوطنية وبناء دولة بمؤسسات لا تنهار لأول صدمة كما حدث في فاجعة ,1830 فإن على أجيال ما بعد التحرير أن تنمي مكاسب الثورة، ولا تكتفي الفعاليات السياسية ومنظمات المجتمع المدني بالتغني بها والعيش عالة عليها• المسعى الذي لا يقبل التأجيل هو تكاثف الجهود لاستكمال مسيرة الثورة بتحرير آخر لا يقل أهمية، ألا وهو التقليل من التبعية في ثلاثة ميادين حيوية وهي: الغذاء (الفلاحة والمياه) والصناعة وتوطين المعرفة والتكنولوجيا وإنتاجها في بلاد باللغة العربية، وتكوين رأس المال الحقيقي وهو العقول المنتجة للأفكار، ورعاية المواهب الواعدة بالتفوق في الابتكار والإبداع والتكوين والتأهيل المستمر للشباب الجزائري• ومن البديهي أن المجالات الثلاثة السابقة متداخلة ومتكاملة، والتقدم في إحداها يؤثر في الجانبين الآخرين، مما يؤدي إلى التنمية المستدامة والتقليل من التبعية في عالم تعولم فيه كل شيء، إلا العدل في توزيع الثروة والنقل الحقيقي للعلم والتكنولوجيا• أليس رهان الجزائر الحقيقي هو اختراق منطقة الحضر التي يحتكر فيها ناد مغلق علوم المقدمة والرفاهية؟ هناك بلا شك مؤهلات كثيرة في حالة كمون ترشح الجزائر لمرتبة البلد الصاعد، إذا تم تفعليها وتوظيفها في ميثاق وطني ديمقراطي للتقدم والازدهار، وقد يتحقق ذلك قبل نهاية العشرية القادمة•
ـ لم تكن للأمير عبد القادر تجربة في التسيير والإشراف على مؤسسات وأجهزة الدولة المحلية والمركزية، فقد وجد نفسه فجأة أمام مسؤوليات قيادية مصيرية، وفي مواجهة التشرذم الداخلي وإصرار عدو يتمتع بترسانة من أسلحة الدمار والإرهاب بواسطة التقتيل الجماعي والأرض المحروقة•
ـ وقد استعمل العدو أسلحة أخرى لا تقل فتكا وتدميرا، ومن أخطرها سلاح فرّق تسد، لتشتيت صفوف الأمير وإشغاله بالانشقاقات الداخلية، وكذلك قطع خطوط الإمداد من العمق المغربي وعن طريق الإضعاف من الداخل وتشديد الحصار• في هذه الوضعية الخانقة، لم يجد الأمير من مخرج سوى ما يسمى بحرب العصابات وسرعة الحركة، فقد كان موجودا في كل مكان وليس موجودا في أي مكان بعينه، لأن الاختلال الفادح في توازن القوة لا يسمح بحرب الجبهات• وهذا بالضبط ما حدث خلال حرب التحرير في طول الجزائر وعرضها، وفي كل مدنها وقراها• ولابد من الإشارة إلى إرادة الرجال أولا، ومساحة الجزائر الشاسعة والطوبوغرافيا ثانيا، والديموغرافيا ثالثا، فلم يتمكن مليون ونصف مليون جندي وحوالي مليون مستوطن من فرض التهدئة، أي إخضاع عشرة ملايين، على الرغم من وجود نسبة ضئيلة منهم من المرتزقة الذين انتهى بهم الأمر بعد 1962 إلى العزل في أكواخ من الطين والقزدير في فرنسا، وهذه أيضا عبرة لمن يعتبر من الأجيال الصاعدة•
ـ هناك سلاح آخر لا يقل خطورة هو سلاح المخابرات والتسلل إلى داخل معقل الأمير، فقد تمكن عملاء من الجواسيس الفرنسيين من التقرب من الأمير حتى أصبحوا من خاصته، متخفين وراء اعتناق الإسلام للحصول على ثقة الأمير المشهور بالورع والشهامة• ولا نظيف جديدا إذا قلنا إن قوة الدولة من قوة مؤسساتها، المدنية والعسكرية والأمنية، وبتراكم التجربة في الذاكرة الوطنية الحية الصالحة لاستشراف المستقبل وصنعه انطلاقا من حصيلة الماضي، بكل ما فيه من مكاسب وانتصارات، ومن أخطاء وانسكارات•
2 ـ خلاصة
بعد 200 عام على ميلاد الأمير (1808 ـ 2008) وما يقترب من نصف قرن (46 سنة) على التحرير (1962 ـ 2008)، فإن وضع تاريخ عام للجزائر منذ أقدم العصور ولتاريخ العالم، من وجهة نظر علماء جزائريين ومن موقع بلادنا الجيوسياسي بين القارات والبحار وعمقها العربي الإسلامي والإفريقي، يمكن أن يسفر عن مدرسة أو مدارس وفلسفة للتاريخ تقوم على تنظيم علمي، وليس مجرد مرافعات حماسية وتضع مفاهيم ومصطلحات متحررة من المناهج والمفاهيم التي وضعها الفرنسيون الذين اهتموا في الحقيقة بتاريخ فرنسا في الجزائر، كما وضعوا تاريخ مقاومة فرنسا للاحتلال الجرماني، ولا نجد في كتاباتهم أي تمجيد للوجود الألماني ولانتصارات ”البوش” في في 1871 ولا في سنة 1940
ومن بين المفاهيم المتداولة في كثير من الكتابات والكتب المدرسية كلمة استسلام الأمير عبد القادر، وهي في الحقيقة شبه هدنة، وتأجيل للمعرمة التي كانت تدور على أرضه وضحاياها بالآلاف من قومه، ولا تدور رحاها على الأرض الفرنسية، و ما لحق بالأرض والعرض لا يطاق• ويحق لنا أن نتساءل هل ألغى أسر نابليون بونبارت في سانت هيلينا إصلاحاته وأمجاده العسكرية؟ نعتبر ما وقعه الأمير هدنة في معركة تواصلت بأشكال مختلفة، غرس هو بذورها التي أثمرت سنة 1954 بالمواجهة الفاصلة مع العدو الكولونيالي، لم يكن قائد المقاومة الشجاع مغامرا يبحث عن أمجاد شخصية وتتسلط عليه هلاوس ايديولوجية مثل الفوهرر هتلز، يبني مجده على أشلاء شعبه وخراب وطنه•
ينبغي التأكيد كذلك على أن عدو الأمير هو المعتدي على شعب لم يعلن عليه الحرب، بل ساعده بعد الثورة الفرنسية وساهم في إنقاذه من المجاعة، وهو محاصر من جيرانه في أوروبا في نهاية القرن .18 وبالتالي، لم يكن عدو الأمير هو الفرنسي لأنه فرنسي، ولا دينه مسيحي (على الرغم من خيانة قادته للعهد وتنفيذ أحقادهم الصليبية)، ولا لغته الفرنسية (لم يتعلم الأمير الفرنسية لا أثناء المقاومة ولا أثناء أسره في فرنسا وفي المهجر، كما تجمع على ذلك كل الروايات الموثوقة)•
حقا، أدرك الأمير الفرق الشاسع بين ما وصلت فرنسا من مكننة وتصنيع وبين الأوضاع في بلاده، وحتى في الأستانة (عاصمة الخلافة العثمانية)• ولكن، ليس في مقولاته ومجمل تراثه ما يدل على نزعة اندماجية باسم الحداثة أو الانبهار الببغائي بما رأى وسمع في بلاد الفرنجة، ولم يستشهد به أحد من التيار الاندماجي في الفترة ما بين الحربين، وحتى حفيده المثقف الأمير خالد، فضلا عن بقايا دعاته بعد الاستقلال، فقد بقي الأمير وفيا لثقافته الأصلية• الأمير القائد والمسلم الملتزم بمقولات النقل والعقل والمؤمن الروحاني، هو أيضا مثال للتسامح الديني الذي استحق عليه العرفان والاحترام العالمي والكثير من الأوسمة من ملوك وأمراء وقادة أوروبا في ستينيات القرن ,19 يستحق جائزة نوبل للسلام قبل شيمون بيريز، الرئيس الحالي لإسرائيل، بأثر رجعي، إذا كانت جائزة السلام العالمية حقا في خدمة السلام والتعايش السلمي بين الحضارات والثقافات• ؟
ـــــــــــــــــــــ
ـ محمد العربي ولد خليفة ـ جامعي
ـ محاضرة ألقي ملخصها في جامعة وهران في ندوة دولية بعنوان ”تراث الأمير عبد القادر بين الخصوصية والعالمية”
ـ الخبر الأسبوعي.العدد: 514 من3 إلى9 جانفي 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...