هل كان الأمير عبد القادر حداثيا؟
بقلم أ.د/ أبو القاسم سعد الله
يتجاذب دارسو الأمير عبد القادر الآراء حول موقفه من الحضارة الغربية سواء عند مقاومته للفرنسيين، أو عند استقباله لكبار الزوار في المشرق وأوروبا، أو عند تأليفه الكتب وتحريره الرسائل: فمن الدارسين من وصفه بالمحافظ والزاهد وحتى المتصوف في جميع مراحل حياته. ولهم في ذلك حجج من آثاره المختلفة. ومنهم من وضعه على رأس “المصلحين” في القرن التاسع عشر، أي أولئك القادة الذين تأثروا وحاولوا إدخال الحضارة الغربية إلى بلدانهم الإسلامية المتخلفة.
ونحن ربما لن نأتي بجديد حين نتناول هذا الموضوع، ولكننا نريد أن نعيد قراءة بعض أقوال وأعمال ومواقف الأمير وآراء بعض من ترجموا له، ثم نستنتج منها ما بدا لنا أنه أقرب إلى الحقيقة: فهل كان الأمير فعلا محافظا أو كان فعلا حداثيا؟إن تراثه كرجل محافظ غني لا يحتاج ربما إلى برهان وبيان لأن بيئته ونشأته ودراسته كلها تقريبا تصب في هذا الاتجاه. وأما تراثه الحداثي فقد تناوله عدد من الباحثين نذكر منهم: الدكتور وارنييه Warnier Dr. الذي تولى قنصلية فرنسا في مدينة معسكر أثناء هدنة معاهدة التافنة، والباحث أدريان بيربروجير Berbrugger A. مؤسس مكتبة الجزائر العمومية الذي ترأس الوفد الفرنسي إلى معسكر الأمير في الونوغة، والمترجم الاسكندر بالمر A. Palmer الذي رافق الأمير أثناء جولته بباريس بعد إطلاق سراحه من سجن أمبواز…
وفي العصر الحاضر يمكن أن نعد من هؤلاء رفائيل دنزيغر مؤلف كتاب عبد القادر والجزائريون، وألان كريستلو في بعض بحوثه. والغريب في هذا الصدد أن ليون روش الذي كان ربما أقرب من هؤلاء جميعا إلى شخص وفكر الأمير لم يتناول -حسب علمنا- قضية الحداثة عند الأمير1.
وفي العصر الحاضر يمكن أن نعد من هؤلاء رفائيل دنزيغر مؤلف كتاب عبد القادر والجزائريون، وألان كريستلو في بعض بحوثه. والغريب في هذا الصدد أن ليون روش الذي كان ربما أقرب من هؤلاء جميعا إلى شخص وفكر الأمير لم يتناول -حسب علمنا- قضية الحداثة عند الأمير1.
أوليات
نشأ الأمير في بيئة محافظة بقرية القيطنة وزاوية العائلة قرب مدينة معسكر. وكانت مدينة معسكر إلى وقت قريب من ميلاد الأمير عاصمة الإقليم الغربي قبل أن تصبح وهران هي عاصمته. وكان أحد أجداد الأمير قد أنشأ في القيطنة فرعا للطريقة القادرية التي كان مقرها الرئيسي في بغداد، وهي الطريقة والتي كانت روحيا وسياسيا تدعم السلطة العثمانية في المشرق والمغرب.
وحين غزا الفرنسيون الجزائر وسقطت السلطة العثمانية كان محي الدين، والد الأمير، هو مقدم الطريقة القادرية التي أحست، باعتبارها سلطة روحية، بعبء المسؤولية، فقامت تجمع بين الدين والسياسة أو التصوف والحرب (الجهاد). والواقع أنه كان في الإقليم الغربي عدد من الطرق الصوفية الأخرى المستقوية بالسلطة المغربية (الدرقاوية، الطيبية، والتيجانية…) ولكنها لم تتصد للجهاد المنظم كما تصدت له القادرية.
في هذه البيئة نشأ الأمير متأثرا بتقاليد أسرته ومحيطه السياسي والديني. فلم تشق القادرية عصا الطاعة على النظام العثماني يوم شقتها ضده بعض الطرق الأخرى (التيجانية، الدرقاوية…) ولكنها مع ذلك، لم تسلم من الشك في ولائها المطلق للسلطة العثمانية.
نشأ الأمير في بيئة محافظة بقرية القيطنة وزاوية العائلة قرب مدينة معسكر. وكانت مدينة معسكر إلى وقت قريب من ميلاد الأمير عاصمة الإقليم الغربي قبل أن تصبح وهران هي عاصمته. وكان أحد أجداد الأمير قد أنشأ في القيطنة فرعا للطريقة القادرية التي كان مقرها الرئيسي في بغداد، وهي الطريقة والتي كانت روحيا وسياسيا تدعم السلطة العثمانية في المشرق والمغرب.
وحين غزا الفرنسيون الجزائر وسقطت السلطة العثمانية كان محي الدين، والد الأمير، هو مقدم الطريقة القادرية التي أحست، باعتبارها سلطة روحية، بعبء المسؤولية، فقامت تجمع بين الدين والسياسة أو التصوف والحرب (الجهاد). والواقع أنه كان في الإقليم الغربي عدد من الطرق الصوفية الأخرى المستقوية بالسلطة المغربية (الدرقاوية، الطيبية، والتيجانية…) ولكنها لم تتصد للجهاد المنظم كما تصدت له القادرية.
في هذه البيئة نشأ الأمير متأثرا بتقاليد أسرته ومحيطه السياسي والديني. فلم تشق القادرية عصا الطاعة على النظام العثماني يوم شقتها ضده بعض الطرق الأخرى (التيجانية، الدرقاوية…) ولكنها مع ذلك، لم تسلم من الشك في ولائها المطلق للسلطة العثمانية.
درس الأمير العلم في القيطنة ووهران، وحج إلى بيت الله الحرام، وزار مع والده عواصم الشرق الإسلامي العلمية والدينية والصوفية (وهي مكة والمدينة والقاهرة وبغداد ودمشق)، ولقي العلماء في مراكز العلم كالأزهر والحرمين الشريفين والجامع الأموي والزاوية القادرية. ولم يرجع من الشرق إلا بعد أن ملأ وطابه بعلوم الفقه والكلام والحديث والتصوف والأدب والتاريخ، مما عمق فكره ووسع رؤيته في وحدة العالم الإسلامي. وتثبت آثاره المكتوبة وسلوكه السياسي والثقافي والقضائي تأثره بالخلفاء الراشدين وكبار القادة المسلمين، سواء أثناء المقاومة أو بعدها.
كانت وهران إلى سنة 1792 محتلة من اسبانيا، وكان حكامها يتعاملون مع بعض التجار الجزائريين الذين كان بعضهم على معرفة بالعادات واللغة الاسبانية. ورغم الاختلاف الذي صنعه الدين والسياسة والتاريخ فقد كان هناك تبادل منافع بين الطرفين. حقيقة أن المؤرخين لم يحدثونا عن مدى بقاء التأثير الاسباني في وهران بعد تحريرها، غير أننا نتصور أن العادات الاسبانية لم تنقطع من هناك لفترة طويلة، وأن مؤثرات التعليم والصحة والعمران والاقتصاد لم تختف باختفاء الحكم الأسباني وحلول الحكم الإسلامي في وهران، ومن ثمة فإن الشاب عبد القادر عندما ذهب إلى هذه المدينة دارسا لم يكن غريبا عن المؤثرات الأجنبية كما لم يكن غريبا عن مؤثرات الزوايا والمساجد.
كانت وهران إلى سنة 1792 محتلة من اسبانيا، وكان حكامها يتعاملون مع بعض التجار الجزائريين الذين كان بعضهم على معرفة بالعادات واللغة الاسبانية. ورغم الاختلاف الذي صنعه الدين والسياسة والتاريخ فقد كان هناك تبادل منافع بين الطرفين. حقيقة أن المؤرخين لم يحدثونا عن مدى بقاء التأثير الاسباني في وهران بعد تحريرها، غير أننا نتصور أن العادات الاسبانية لم تنقطع من هناك لفترة طويلة، وأن مؤثرات التعليم والصحة والعمران والاقتصاد لم تختف باختفاء الحكم الأسباني وحلول الحكم الإسلامي في وهران، ومن ثمة فإن الشاب عبد القادر عندما ذهب إلى هذه المدينة دارسا لم يكن غريبا عن المؤثرات الأجنبية كما لم يكن غريبا عن مؤثرات الزوايا والمساجد.
الأمير محافظا
كانت المرحلة الأولى من كفاح الأمير مقتصرة على الحرب والجهاد ضد الفرنسيين تحت شعار: الدفاع عن الإسلام والوطن والشرف… فلم يقل أو يفعل شيئا لصالح الحضارة الغربية، ولم يرسل بعثة طلابية إلى بلاد أوروبية كما فعل محمد علي والي مصر. لقد كان على الأمير أن يظهر التمسك بتعاليم الدين الإسلامي أمام قومه حتى لا يفقد ثقتهم ويضيع هدفه معهم ويصبح في نظرهم “كافرا” تجب مقاومته. وقد فضل أن يتعامل في عين المكان مع بعض خبراء السلاح من الأوروبيين على أن يرسل بعثة من الشباب الجزائري ليتعلموا صناعة السلاح بأنفسهم.
والمتتبع لسيرة الأمير يلاحظ أنه كان يعيش عيشة إسلامية محافظة سواء أثناء كفاحه أو سجنه أو مقامه في الشرق. فقد رفض عرض الإقامة عليه في فرنسا بإغراءات سخية مقابل نسيان التعهد الذي التزم له به الفرنسيون، وأصر على نيل حريته والتوجه إلى بيئة شرقية عرفها وعرفته من قبل وهي الإسكندرية أو عكا حيث يستطيع أن يمارس شعائره الإسلامية في بلاد عربية اللسان- مصر أو سوريا. وفي سجنه بفرنسا كان ملتزما بإقامة الشعائر الدينية بكل تفاصيلها مع تطبيقها على أولاده وأهله، كما كان ملتزما بتدريسهم الفقه والتوحيد والسيرة النبوية، حتى أن مطران مدينة بوردو كان في وعظه لقومه، يتخذه مثالا، لأنه كان يقيم الأذان ويؤدي الصلوات جماعة، بالإضافة إلى تدريسه العلم وقراءة صحيح البخاري. وعندما حدث نقاش بين الطلبة حول تفضيل الحاضرة أو البادية انتصر الأمير للبادية في قصيدة له مشهورة.
بقي الأمير وفيا للإسلام وقيمه الحضارية حتى بعد انتقاله إلى الشرق، بل إنه ازداد تعمقا في الدراسات الإسلامية: فجلس للتدريس في الجامع الأموي حيث ختم صحيح البخاري، وأدى فريضة الحج مع المجاورة مرة أخرى، وأحاط به علماء الشام الذين عبروا له عن إعجابهم ببطولته وجهاده في سبيل دينه، وتشبع من أخبار الصوفية وحياة الزهاد، وأخذ الطريقة النقشبندية من شيخها خالد النقشبندي، وألف- على ما يقال- كتابا في التصوف(المواقف)، ونظم الشعر الرمزي المفعم بالأسرار الروحانية، وأظهر تأثره بابن العربي الذي اتخذه وليا ونصيرا، وألف كتاب المقراض الحاد الذي رد فيه على الملحدين والمشككين في مسايرة الإسلام لروح العصر، وأعلن في أجوبته عن أسئلة الضابط يوجين دوماس حول المرأة العربية المسلمة رأيا ملتزما بالمبادئ الشرعية
كانت المرحلة الأولى من كفاح الأمير مقتصرة على الحرب والجهاد ضد الفرنسيين تحت شعار: الدفاع عن الإسلام والوطن والشرف… فلم يقل أو يفعل شيئا لصالح الحضارة الغربية، ولم يرسل بعثة طلابية إلى بلاد أوروبية كما فعل محمد علي والي مصر. لقد كان على الأمير أن يظهر التمسك بتعاليم الدين الإسلامي أمام قومه حتى لا يفقد ثقتهم ويضيع هدفه معهم ويصبح في نظرهم “كافرا” تجب مقاومته. وقد فضل أن يتعامل في عين المكان مع بعض خبراء السلاح من الأوروبيين على أن يرسل بعثة من الشباب الجزائري ليتعلموا صناعة السلاح بأنفسهم.
والمتتبع لسيرة الأمير يلاحظ أنه كان يعيش عيشة إسلامية محافظة سواء أثناء كفاحه أو سجنه أو مقامه في الشرق. فقد رفض عرض الإقامة عليه في فرنسا بإغراءات سخية مقابل نسيان التعهد الذي التزم له به الفرنسيون، وأصر على نيل حريته والتوجه إلى بيئة شرقية عرفها وعرفته من قبل وهي الإسكندرية أو عكا حيث يستطيع أن يمارس شعائره الإسلامية في بلاد عربية اللسان- مصر أو سوريا. وفي سجنه بفرنسا كان ملتزما بإقامة الشعائر الدينية بكل تفاصيلها مع تطبيقها على أولاده وأهله، كما كان ملتزما بتدريسهم الفقه والتوحيد والسيرة النبوية، حتى أن مطران مدينة بوردو كان في وعظه لقومه، يتخذه مثالا، لأنه كان يقيم الأذان ويؤدي الصلوات جماعة، بالإضافة إلى تدريسه العلم وقراءة صحيح البخاري. وعندما حدث نقاش بين الطلبة حول تفضيل الحاضرة أو البادية انتصر الأمير للبادية في قصيدة له مشهورة.
بقي الأمير وفيا للإسلام وقيمه الحضارية حتى بعد انتقاله إلى الشرق، بل إنه ازداد تعمقا في الدراسات الإسلامية: فجلس للتدريس في الجامع الأموي حيث ختم صحيح البخاري، وأدى فريضة الحج مع المجاورة مرة أخرى، وأحاط به علماء الشام الذين عبروا له عن إعجابهم ببطولته وجهاده في سبيل دينه، وتشبع من أخبار الصوفية وحياة الزهاد، وأخذ الطريقة النقشبندية من شيخها خالد النقشبندي، وألف- على ما يقال- كتابا في التصوف(المواقف)، ونظم الشعر الرمزي المفعم بالأسرار الروحانية، وأظهر تأثره بابن العربي الذي اتخذه وليا ونصيرا، وألف كتاب المقراض الحاد الذي رد فيه على الملحدين والمشككين في مسايرة الإسلام لروح العصر، وأعلن في أجوبته عن أسئلة الضابط يوجين دوماس حول المرأة العربية المسلمة رأيا ملتزما بالمبادئ الشرعية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق