سُـــوفْ. أوراق ثقافية. مدونة ثقافية تهتمّ بالمشهد الثقافي في ولاية الوادي من ملتقيات فكرية منوّعة، وندوات أدبية، وجلسات فكرية ، وإصدارات مختلفة، والتعريف بالقامات الفكرية المحلّية ، والوطنية. مدوّنة ترصد الحركة الثقافية الإبداعية، وتنوّه بهذا الحراك، وتثمّن كل ما يقوم به القطاع الثقافي بالولاية : مديرية الثقافة، دار الثقافة، الجمعيات الثقافية الفاعلة.
الجمعة، 1 مارس 2013
التاريخ في حياتنا
إن الكثير من كتاب التاريخ عندنا تتلمذوا على المصادر الفرنسية، وهي مصادر تذهب إلى أن الفاتحين المسلمين مثلا، كانوا أسوأ من الوندال. فهم غزاة نجحوا في التغلب على شمال إفريقيا التابع للدولة البيزنطية، فقتلوا وسلبوا ونشروا الخراب، ثم عاد أغلبهم من حيث أتوا بالغنائم والأسرى والجواري. ومن المصادر الفرنسية أيضا ردد بعضنا عبارة لابن خلدون أعجبت الفرنسيين ولقيت هوى في نفوسهم، وهي: »إذا عرّبت خرّبت«، وهي تحريف لقوله في المقدمة ما معناه: فصل في أن العرب إذا استولوا على المدن أسرع إليها الخراب. كما استعار الفرنسيون من ابن خلدون رأيه في وصف بني هلال بالجراد المنتشر. وقد رددوا له عبارة أخرى تخدم مشروعهم في الجزائر، وهي أن »المغلوب مولع بتقليد الغالب«. ألا يصبّ كل ذلك في نهر الاندماج الذي دعا إليه السانسيمونيون منذ الاحتلال؟ أليس الغالبون هم الفرنسيين والمغلوبون هم الجزائريين؟ ولأمر ما بادر الفرنسيون إلى ترجمة القسم الخاص بالتاريخ المحلي من كتاب العبر ووزعوه هدايا على أعيان ومثقفي الشعوب الأخرى عن طريق قنصلياتهم. ولكي نتحرر نحن من عقدة الغلبة هذه كان علينا تقليد الفرنسيين (وهم الغالبون) والتنازل عن هويتنا، ومنها تاريخنا.
وهكذا فنحن الآن مدينون، رغم ثلاثة قرون من العهد العثماني وقرن وثلث من الاستعمار الفرنسي، في حفظ حضارتنا العربية الإسلامية لقادة الدول الأربع سالفة الذكر. فكتب الطب والرياضيات والفلك والعلوم والرحلات والتاريخ والتراجم والفلسفة ودواوين الأدب والشعر تكاد تكون من إنتاج العلماء الذين تخرجوا من بلاطات الدول المذكورة. إنه إنتاج عربي إسلامي مغاربي بلغ ـ رغم الضعف السياسي ـ درجة عالية من الرقي والإبداع.
ومن اللافت أن قادتنا اليوم قد يرددون أسماء بعض مفكري وقادة الإسلام ويستعملونها »ديكورا« وعناوين متحفية أو طقوسية يترحمون عليها ثم يرجعون بنا إلى واقع كل ما فيه مخالف لما عرفت به تلك الأسماء من علم وفكر ومواقف. ما الفائدة إن نحن أحيينا ذكرى الشيخ ابن باديس ثم لا نطبق مشروعه الوطني؟ ما قيمة نصب تمثال للأمير عبد القادر ثم ندير ظهرنا للقيم الحضارية التي وضعها لتحرير بلاده وإنشاء دولته؟ وأي مغزى أن نعجب بآراء الأستاذ ابن نبي في الحضارة الإسلامية والغربية ثم لا نطبق آراءه على حياتنا الحاضرة. وربما أتهم بالمبالغة إذا قلت ما الجدوى من أن نكتب في الدستور أن الإسلام دين الدولة ثم نطبق في حياتنا قانون نابليون؟ ورغم أنني قصرت الحديث هنا عن الجزائر فإنه يمكن أن ينسحب على كل أقطار المغرب العربي.
علينا الآن أن نسأل الجيل الحاضر عما دون للمستقبل أيضا، إنه ربما يكتفي بلعن تاريخ بلاده الذي يتلخص عنده في السلطة والقيادة وتبذير الثروة والمال العام، وهو في ذلك على حق، فأنت إذا سألت مسؤولا: على أي أساس من المؤهلات العلمية والتاريخية والسياسية أصبح مسؤولا عرفت أنه بالنسبة للتاريخ لم يدرس لا تاريخ الجزائر ولا تاريخ الإسلام وحضارة شعوبه، وكل ما عنده من العلم بالتاريخ قد لا يزيد على رزمة من المعارف العامة مستمدة من مطالعات في كتب ابتدائية فرنسية موجهة.
فلا غرابة والحال كذلك أن شوهت هوية الجزائر الحاضرة حتى أصبحت لا هي عربية ولا هي إسلامية ولا هي لائكية بالتمام والكمال. ادرس أفكارنا الاجتماعية والسياسية كم هي متباينة، وتأمل في محيطنا كم فيه من لغة للخطاب ومن حرف للكتابة، وانظر إلى طعامنا وشرابنا ولباسنا وفنوننا الشعبية فستجد أنها في أغلبها لا شرقية ولا غربية. ولذلك لم أستغرب حين سألني بعض الشباب الجامعي سؤالا يقضّ مضجعهم، وهو: من نحن؟ إن هذا السؤال يعبّر بلا شك عن الخواء الفكري الخطير عندهم. وفي مناسبة حديثة طلبت مني إحدى الطالبات إلقاء محاضرة على جمع من زميلاتها، فسألتها في أي موضوع فقالت: في المواطنة في ضوء العولمة.
أعتقد أننا جميعا ضحايا المدرسة الاستعمارية، والمؤسف أننا لا نشعر بذلك، وهذا أخطر ما تمر به النفس البشرية من سحق وإلغاء. فجيلنا الذي أصبح مخضرما لم يدرس التاريخ في مدرسة رسمية بمنظومة تربوية موحدة. إن معلوماتنا التاريخية لا تعدو كونها قراءات حرة للبحث عن جذور الحركة الوطنية وأصول الحضارة العربية الإسلامية. ومن اللافت للنظر أن مفهوم التاريخ لم يكن واحدا عند الأحزاب والمنظمات الوطنية.
ويمكن القول إن الوعي الوطني عندنا كان أسبق من الوعي بالتاريخ على خلاف القاعدة التي تقتضي أن يسبق الوعي الوطني شعور بالذات وبالهوية بعد يقظة بدراسة التاريخ والتراث والشعور بالاعتزاز بهذا التراث والانتماء إليه، كما حدث مع أغلب الحركات الوطنية كاليونانية والألمانية. ومع ذلك فالوعي بالتاريخ عندنا ـ حين ظهر مع جمعية العلماء وحزب الشعب ـ كان يدفعنا إلى الحماس وليس إلى التأمل، إلى الحركة وليس إلى التفكير، حتى لقد قال بعض القادة في وقت لاحق إننا كنا نعمل قبل أن نفكر.
وبدل أن نسارع بتصحيح هذه النظرة لتاريخنا بعد الاستقلال ووضع برنامج دقيق لتطهيره من الشوائب تركنا المقاليد بيد أصحاب المدرسة الفرنسية التي اعتمدت على زعزعة أنسابنا وعلاقاتنا الاجتماعية وعلى تشويه الأحداث التاريخية، بما فيها الفتوحات الإسلامية. وهكذا أصبح غوتييه عند الجيل الجديد أصدق رواية عن أنسابنا من ابن خلدون، وأصبح ميرسييه أعلم من ابن عبد الحكم وابن حزم، كما أصبح الضابط لويس رين أفقه من الأمير عبد القادر. أما هانوتو فقد أصبح هو العمدة فيما يتعلق بالعادات والتقاليد والأنساب في بلاد زواوة وأعلم من علماء وشيوخ زواوة أنفسهم. وقد نقل معلمو عهد الاستقلال آراء هؤلاء المتحاملين المسبقة إلى تلاميذهم وكانوا يثقون فيها ثقة مطلقة، فكانت النتيجة أن صار الجيل الحاضر يعيش فترة قلق وإحباط، فترة شك وبحث عن التاريخ والهوية والمواطنة كما ذكرنا.
وبقطع النظر عن الأصول، فإن سكان بلاد المغرب قد امتزجوا امتزاج الماء بالماء قبل امتزاج شعوب أوروبا بمئات السنين، وتوحدوا في بوتقة واحدة وحدة لا انفصام لها قبل أن تتوحد الشعوب المهاجرة إلى أمريكا. فكيف يتوحد هؤلاء المهاجرون ويؤسسون إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس والقمر، وتتوحد شعوب أوروبا في اتحاد واسع الأرجاء سنكون نحن أول ضحاياه لو تغيّر الزمن، بينما تبقى شعوب بلاد المغرب تبحث عن هويتها فيما تصنعه لها مخابر الاستعمار. أليست وحدة شعوب بلاد المغرب هي الأعمق والأصلب؟ أليس من المذلة والحمق أن نظل بدون مشروع وحدوي إقليمي أو قومي؟ ما قيمة الثقافة والفكر إذا لم يحركا شعوبنا ونخبتنا في هذا الاتجاه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
لن تكون أية لغة "صعبة" بعد الآن بفضل هذا الاختراع الياباني الذكي كتب: بشير خلف يُعدّ التحدث بلغة أجنبية مهارة مطلوبة ...
-
نبذة تاريخية عن وادي سوف المرحوم الدكتور إبراهيم ميّاسي التقديم: سوف إقليم متميز بخصائصه الجغرافية والبشرية ، ضمن الأقالي...
-
من أجمل ما قاله عُشّاق وادي سُـوفْ من قديم هام الرحّالة، والأدباء، وال شعر اء ب من طقة وادي سوف وخاصة مدينة ال وادي .. انبهر...
-
سليمان جوادي..فارس القصيدة الغنائية.. تفضلي يا آنسة يا أم العيون الناعسة أنا وحيد متعـب ولا رفــيقا آنـسه من لا يذكر كلمات هذه الأغنية...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق