شغف التاريخ وسحْر الحكي
" وحدها الأعمال ا لأدبية التي تضيء أجزاء مجهولة
من الوجود الإنساني تستحقّ البقاء"
ـ تيموثي شانهان ..كاتب أمريكي
قراءة في مجموعة قصصية
بشير خلف
الاشتغال في الإبداع السّردي يحتّم في بعض الحالات على الكاتب المبدع الخوض في دقائق حياتية إنسانية عميقة، ومواضيع راهنة حارقة،أو ماضية فلتت من أصابع الزمان تغيب عن عيني الإنسان العادي في وعاء لغوي جذّاب ..في شعرية لغوية ممتعة، وأداء تشكيلي جمالي..فيعيد لها الكاتب المبدع ألقها، وحياتها، وقد تتماهى هذه المنفلتة بما هو راهنً في النصّ المُبْدع ..فلكي نبدع سرديا وشعريا، فإننا ننشئ حدثًا أسلوبيا يتخطّى المعيار الكلاميّ السائد.
العنونة :
العنوان أولى العتبات، أو العلامات التي يتلقّاها القارئ لفك مفاتيح النّص ومعرفة فحواه، ومن هنا تأتي أهميته في شدّ الانتباه، وتوجيه مسار القراءة بما يحقّق غايته ومرماه..حتى وإنْ كان البعض يرى أن العنوان ليس بالضرورة دائما المفتاح السحري للنص، أو يرتبط به عضويًّا..
في اعتقادي العنوان أولى العتبات، أوالثيمات التي يتلقّاها القارئ لفك مفاتيح النّص، ومعرفة فحواه، وهو المفتاح التقني، والأداة الرئيسة للنّص بما يؤديه من وظائف انتباهية، وتشويقية، وجمالية.
المجموعة التي بين أيدينا للشاب القاص الأدراري عبد الله كرّوم حملت عنوان إحدى قصصها وهي" حائط رحمونة" عنوان يحمل أكثر من رمز دلالي، وتاريخي، وجغرافي.. مجموعة تحمل رمزية الماضي،والانفلات منه بمضضٍ.
المتْن القصصي
مجموعة قصصية من الحجم الصغير تتضمّن بعد الإهداء، والتقديم للأستاذ الشاعر والفنان التشكيلي ينينة عبد الكريم مدير دار الثقافة بمدينة أدرار التي أصدرت المجموعة القصصية، وكلمة الأديب القاص الروائي الأدرع الشريف.. سبع قصص قصيرة ..عناوينها تحيل القارئ إلى عمق تاريخ المنطقة، والحراك الاجتماعي بها، وتماهي الحاضر بالماضي، ورمزية بعض عناوين المجموعة لِما ترمز إليه من ارتباط عضوي بين إنسان منطقة " توات" وبيئته الزمكانية.
أربعة وستون صفحة تحتضن القصص التالية:
ماء من دم، مزمار العتبة، حائط رحمونة، الواحة المنسية، رقصة الشمس، القرصنة البريئة، تويزة.
فقرة قصيرة يستهلّ بها القاص عبد الله المجموعة لها أكثر من دلالة عنونها ب " تبئير" والتبئير في اللغة "جعل العنصر، أو المكوّن بؤرة الكلام" أمّا اصطلاحًا يعني زاوية الرؤية ، أو وجهة نظر الملاحظ ، أو القاص في رواية القصة" غير أن المقصود بـ " التبئير" في بعض المناطق الصحراوية : تذكير النخل، أو تلقيحه بغبرة الطلع التي تُؤخد من ذكر النخل إلى أنثاه..وهي العملية التي لولاها ما نتجت غلّة التمر..
ولعلّ القاص في مجموعته وهو أصيل الصحراء، وابن نخيلها والمتشبّع بأريجها، وعسل تمرها ،وهي رمز الاستقرار والعمارة.. يقصد المفهومْين معًا، في فقرته الاستهلالية:
« قبل أن أرسّخ خطوة الأقدام الأولى، اتّكأْتُ على الحائط سندًا وظهيرًا، وفي انطلاقة خطوة الحرف الأولى، استندتُ إلى الحائط استلهامًا ورؤية ..وبعد الخطوتيْن أحلامً وآمالٌ ومسارٌ ..وقبلهما وبعدهما دعاء ورجاءٌ.»
هي مجموعة متمرّدة في بعض قصصها خارجة عن مألوف الكتابة السردية، تنفلت من سياق القوالب السردية الجاهزة، وتحلّق إلى عوالم جديدة تصنع قوانينها بنفسها بعيداً عن القوانين الجاهزة للاستهلاك السردي..كقصص: ماء من دم، مزمار العتبة، حائط رحمونة، الواحة المنسية.
التقنيات السردية الخارجة عن مألوف الكتابة السردية ذات أوجه متعددة في هذه القصص، من تعدد لأصوات الرواة، إلى توظيف التواتي المحلّي إلى تناصٍّ متعدّد الأوجه إلى تشظٍ سردي، إلى تداخلٍ في معطيات الزمان والمكان، وغيرها..وباقي القصص الأخرى من المجموعة خلت من هذه العناصر الفنية وإنْ كانت قيمة التعاون والتكافل هي الأساس في قصة " تويزة" على سبيل المثال، وفي قصة "القرصنة البريئة .. لئن تقنية الحكي فرضت نفسها وعنصر التشويق تواجد، إلاّ أن الفكرة الأساسية للقصة عادية.
في القصة الأولى من المجموعة" ماء من دم " منذ البداية يطل علينا الكاتب قبل أن يحيل سياق القصة إلى الراوي العدل.. ويخبرنا بأن الربوع التي سيتكلم عنها كانت أرضًا تزخر بالحياة لوجود الماء فيها، والفقارات التي هي سبب استمرار حيوات الناس على أديمها، ويتناسل على حاضنة رملها طيبون بالوراثة، اكتسبوا من نخيلها معاني الوجود..وإذا الماء يغور، وتنطفئ الحياة، وإذا ابن المنطقة الذي امتزج عرقه بماء فقاراتها، وواحات نخيلها التي كانت خضراء صار يلاحق هذه الواحات، ويتشوّف جريدها اليابس وهو يراقص الهواء، ويعربد في سماء مُتربة محشوة بغازات نووية منبعثة من صحراء" رقّان"..تلك لوثة من لوثات الرجال البض سمّموا بها الأجواء..التناغم الوجودي حصل في هذه القصة بين بدايتها ونهايتها..
بداية القصة: في البدْء كان الماء..وأرض الضمإ والقحط تغازل ريح المطر.
نهاية القصة: قلبٌ خفق حرقة على حالة الغابة، على الإنسان ، والحيوان،والشجر والحجر، وعلى كل شيء في الواحة..ضحايا قطرة الماء في واحتي..لا يحصون عددا.
وفي قصة" مزمار العتبة" الكاتب هو الراوي، وقد انفلت منه النوم، وغيره نيام والليل طويل تداعت الأفكار، وتتالت الأحداث، وتسارعت في زمن تكوكب الإنسان، وانكمش الحرف، وتسلّط الرقم..واختفت منابع الخير، واختنقت أنفاس الطبيعة، توارى الخير والجمال..الواحات الجميلة ذات الخير الوفير التي جمعت أزمانًا بعد أزمان سلالات طيبة بالوراثة..سلالات عُرفت بالحلم والكرم والتواضع..كانت تحتضن الجميع واحات الخير..ماذا أصابها؟ الرمل الضمآن زحف ويزحف.. يمتصّ ما تبقّى من قطرات، وينشر الصمت رهيبًا في الأجواء، ويتعشّق النخل الباسق لجماله وسحره، فيلوي عنقه، ويمتصّ جُمّاره فيسقطه جثّة هامدة..
أيام زمان والواحة تحتضن الجميع كان الكل يرقص، ويبحث عن مزمار العتبة الذي تتهادى منه معسولات الألحان..الناس نيام والكاتب الراوي مهووس بالكلام يعدد النجوم بين تخوم السديم، ومملكة الشخير، ولا يرى إلاّ الاستنجاد بتعويذة المصريين القدماء كي تعود الحياة إلى واحته الضمأى.
أمّا قصة " حائط رحمونة " التي تحمل المجموعة اسمها بقدر ما تحمل من رمزية المكان وعبْق التاريخ فإن مضمونها الذي جاء في صيغة المخاطب هي نصًّ حواري بين الكاتب والأمكنة التي تحمل دلالات تاريخية، وبيئية ..حوارٌ مكثّفٌ متصاعدٌ، اصطنع له شخصية متنقلة عبْر تخوم أماكن الْــتصَقَ بها الإنسان المحلّي..لازمها وأغدق عليها من عرقه، وهو يتناسل، فبادلته العطاء الوفير، وأمّنت له الأمن الغذائي، فاستقرّ بها..
حائط رحمونة رمز العمارة والاستقرار،وثيمة الخير والبركة..الفضاء الرحب للإفضاء، والسماع والإسماع..محضن السمر واتخاذ القرار.. الضيف لا يخاف مسْغبة في بيوت الطيبين من أمثال رحمونة ومثيلاتها قبل أن يتغيّر الحال، ويموت البــرّاح الذي كان الصوت الوحيد الآمر الناهي، والمعبّر عن الجماعة والأعيان..غارت المياه، وجفّت الفقارات، وتلوّى الجريد اليبس والرياح تقتلعه من أصله تُلقي به حطبًا يابسًا..حائط رحمونة الطيني سند الطيبين ذات أزمنة سقط، وبغيابه غاب معه الأنس والهناء..اُقيم مكانه حائط إسمنتي مصبوغ بالحُمرة، أعرض عنه الناس، وما اتكأ عليه أحدً منهم منذ أن أٌُقيم غير مرغوبٍ فيه، وهو الغريب عليهم في شكله وتشكيله، وماهيته..
المكان ودلالته من خلال المجموعة
لعل أهم فضاء سيطر على نصوص المجموعة هو فضاء الواحة بنخيلها، وثمارها، وناسها المرتبطين به أبا عن جد..الواحة التي اتخذت أوجها متعددة، ولا تخلو قصة منها من قصص المجموعة..وذكر الواحة يستلزم بالضرورة ذكْر الماء الذي لولاه ما كانت الواحة، وما كان الإنسان..
دلالة الماء في المجموعة تختلف من نص إلى آخر، لكنها تكاد تجمع في النهاية على كونها سيرة للحياة والكائن، وهي دلالة مهّد بها القاص من الإهداء وستتحول إلى نقطة ارتكاز لبدء الأحداث انطلاقا من أول عبارة بالقصة الأولى" في البدء كان الماء..وأرض الضمإ والقحط تغازل ريح المطر" ما يجعل من الماء " المتنفس الوحيد لحياة المخلوقات" في منطقة توات وسيلة لفتح باب الذاكرة وتقليب الذكريات، وترتيب اللحظات والأزمنة، والأمكنة التي من خلالها تطالعنا صور الحياة الصحراوية بين الواحات، وخصــــوصيتها ،ونمط عيش أفرادها داخل قرى تحصّن أهلها بتراثهم، وتقاليدهم، وارتباطهم بالأرض،ومجاورتهم " للقصور المتهاوية" التي ترمز إلى عبْق تاريخ الأجداد، وبالرغم من زحْف مكعبات الإسمنت تدريجيا إلى أحيائهم، وما رافقها من خدمات عصرية يسّرت حياتهم إلاّ أنهم يعتبرونها دخيلة عليهم..
دلالة الماء تتغلغل في مفاصل المجموعة، وتغذّي سياقاتها كما أسلفنا من أول قصة حتى آخرها من المجموعة في قصة " تويزة" التي تكاتف أهل القرية وساكنو القصور المجاورة لمدة ثلاثة أيام في هبّة تضامنية، متناسين الأحقاد، والخصومات، ليعيدوا المياه إلى مجاريها بعد أن نُكبت " فقارة بوعيسى" وقد تداعت آبارها، واختلطت أنفاقها،وانحبس ماؤها.
دلالات التناص :
في المجموعة ثمة نصوص متناصة متنافذة في أغلب قصص المجموعة، وأن هذا التنافذ أثرى النص القصصي، ومنحه ألقًا، وتشوقًا للمتلقّي كي يواصل سيرورة الحكي، ولعلّ من هذه التناصات:
1 ـ التناص الديني:
ورد التناص الديني في عدة مواقع من المجموعة منها:
" بسم الله مسلمين لرجال العتبة، بسم الله مسلمين لرجال العتبة."ص31
" قيل للأرض: ابلعي ماءك وغار الماء الساقي..تسبّخت التربة الصالحة ولم تعدّ تمنح خيراتها"ص42
" نشكر رسول الله وعليه نجيب كلامي**ونورد لو معناه يا ربّي قبل نظامي"ص50
" صدقة عليك يا سيدي ..اقض حاجتي"ص51
" لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم"ص60
" اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد..سمْعوا لو كان تسمعوا للآخرة.أمْر الله، وأمْر الجماعة …"ص39
2 ـ التناص التراثي:
" السلام عليكم أيها الآلهة الذين يشربون، ويقتاتون من دم الخُطاة يوم الحساب"ص30
" أهي جات التنيسيم حلّوا ليّ ندخل"ص32
" الله الله الله ..يا سيدي بوتدارة من جابك عند الله ، وأين الرجال الصبّارة حيث ماشي للواد…"ص36
" الحضرة ..الحضرة..اليوم النهار مهضور..مسلمين..مسلمين"ص49
" من ذا اللي غاثة لو جات للي واحل**فك وحلتي يا حنان يا منان
3 ـ التناص الفلسفي:
" كنّا بالأمس في هذه الحياة ، وقد جئنا الآن، وسوف نعود حتى نصير كاملين مثل الآلهة"ص21
" ربّما كانت الدهشة باعثًا على الفلسفة..( أرسطو)"ص29
السرد والحوار
من المعروف أن السرد في القصة القصيرة يختلف عن السرد في بقية الأجناس الأدبية الأخرى، وعادة ما يكون في القصة القصيرة مكثفا، ومركزا وذا منحى إيحاءٍ عالٍ، فجاء السرد في مجموعة " حائط رحمونة" من النوع الموضوعي الواقعي، أي أن الكاتب عبد الله كرّوم بالكاد في كل قصصه يتحدث بضمير الغائب ،وضمير المتكلم المخاطب كما في قصة" حائط رحمونة" وضمير المتكلم كما في قصة" الواحة امنسية"…وفي بقية القصص يحتل ضمير الغائب / الآخر الصدارة.
ضمير الغائب، وكما يؤكد النقاد المهتمّون بالسّرد، هو علامة ميثاق واضح بين الكاتب والمجتمع ،غير أنه أيضا بالنسبة للقاص الوسيلة الأولى للاستيلاء على القارئ بالطريقة التي يريدها، ضمير الغائب إذن أكثر من تجربة أدبية، وهو فعل بشري، يربط الإبداع بالآخر، وبالتاريخ ،بالوجود.
وتميَّز السرد عند عبد الله كرّوم في المجموعة في أكثر من موقع بالتكثيف والواقعية الاجتماعية، دون الجنوح إلى التعقيد اللفظي، أو الرمز الغامض، أو اللفظ الغريب، أو اللفظة الدارجة، وإنْ ألجأه السياق السردي إلى استعمالها فغالبًا ما ترد ضمْن دلالات التناص التراثي.
الحوار هنا يتمم السرد، ولا غرابة في ذلك فهو مفصل حيوي منه، ولذلك جعل القاص عبد الله هذا الحوار في نسق لغوي أحينا مكثّفا، وأحيانا بسيطا وواضحا، وقد يمتد فتتوالد منه أفكارٌ، وتتسم من خلاله مواقف الشخوص، ومدى تناغمها مع محيطها، أو عكس ذلك ..ففي قصة " ماء من دم" يكتسي طابع الأسى:
ــ أعرفه كما أعرف مواضع نخلاتي في السباخ البائسة.ص18
ــ حدث ذات مرّة أن اشتهى فريق اللحم أكل الشواء، وتعاقدوا على اللحم البلدي الأصيلي، وجدّوا في الطلب..فما من جدوى.ص19
وقد يكون مكثفا وجوديا:
ــ سرّ استمرار الإنسان على أديمها ماء" الفقارات" ينساب تحت الأرض…
ــ تفسّحوا في مجاهل الآفاق..وتدثّروا بالحلم..وتشرّبوا الأناة..والتحفوا رحابة الصدر.ص17
ــ الرمل..مدُّ البصر..يرافق الإنسان ..يأكل الأسنان، ويترحّم على الأموات…ص23
ــ بينما كان الطبيب يفلّ الأمعز الصوان من الأحجار، ويفتّت شظاياها تفتيتًا ، ويرى في نورها المتطاير أحلام يقظته…ص25
ــ الغابة يبست..والفقارة جفّت..وقلوبكم ميتة..ودماؤكم باردة..وأنتم لاهون لاعبون..ستضحك عليكم الأيام."ص24
وقد يكون الحوار تفسيريا لوضعٍ أو إدانة له:
ــ أنحن طوعًا، أو كرْهًا لوليٍّ صالح جذب إليه العرب والعجم، تلوح لك قبته المجصصة من بعيد صامدة منذ خمسة قرون لم تكترث بالتبديع، والتفيسق، والتكفير..؟ ص35
المتْن الأسلوبي واللغـوي:
إن الناظر في هذه المجموعة يلاحظ بوضوح أنها كتبت بلغة سلسة منتقاة العبارة، منقادة لتذليل المعاني وترويضها، ولعل اللافت للنظر في الأسلوب ذلك الطابع الشعري الذي يميزه، والذي قد تعلو درجته أو تنخفض بحسب أهمية المضامين الدالة.. لغة متدفقة وانسيابية ،لا تميل إلى التعقيد ،أو التقعر أو استخدام الكلمات الأجنبية ،أو الدارجة إلاّ ما ندر قد تأتي على لسان أحدهم في إطار " الحضرة" أو على لسان " البرّاح" ولم تتورط بالإسهاب والإطالة.. ترصد الأحداث بواقعية،. فلا يشعر القارئ بواسطتها بأي نشاز إيقاعي أو إزعاج لساني ،وقد ظهرت الأفكار واضحة حيث لا تتطلب مجهودا ذهنيا كبيرا..كما أن الشاعرية قد ترد هنا وهناك فتزيد النص القصصي جمالاٌ:
" إلى الذي بكته السعفة اليابسة في واحة النخيل، وقطرة الماء الغائرة في(الفقارات)"
" في البدء كان الماء..وأرض الضمإ والقحط تغازل ريح المطر"
" خرج يسبق ظله، ويراود أحلامه.."
" …يتشوف جريدها اليابس يراقص الهواء، ويعربد في سماء متربة محشوّة …"
" يتعاقب على حاضنة الرمل سلالات طيبة بالوراثة، يُعرفون بالحلم والكرم والتواضع، ربّما قهرهم سوط الحرّ والقرّ فجعلهم سوبرمان اس عشرة"
" قيل للأرض: ابلعي ماءك وغار الماء الساقي..تسبّخت التربة الصالحة ولم تعدّ تمنح خيراتها"
" أرض البور فاض ماؤها الأجاج ينساب في جنّات الفقراء والطيبين ..يهلك الحرث والنخل، يُميت ولا يُحيي"
" واجهْ وقت الأصيل شمسًا تفقد سوط اللهب، وتمتّعْ بمغيبها الآسر في أفق طبيعة عذراء."
اللغة متدفقة مطواعة لدى القاص عبد الله كرّوم ..لا تقعّر فيها ولا اصطناع تنساب عادية تعبّر عن بيئة محلية، وهموم مواطن صحراوي ربط مصيره بقطرة الماء، وبسيدة الأشجار ـ النخلة ـ ألفاظ كثيرة محلية طوّعها وإذا هي تؤدي معاني ساحرة، وكثير منها يأنف توظيفها الكُتّاب المحدثون لكن القاص وظفها باقتدار، والمتلقّي يتعامل معها عاديا ولا تشدّ انتباهه البتّة مثل:
فقارات، الجريد، السعف،مدقّ التمر يفتته سفوفا، التدارة أيقونة الضيافة،جذع النخلة، الكرناف، الليف، البلح، الحشف، البريح،الماجن( الحوض المائي)،تاي الشعرة،تمر تينقور، قصبة مشيدة الأدراج،حائط رحمونة.
وبعــد..ما يشدّ القارئ في هذه المجموعة ، هو الصدق، وكذا الأسلوب المتميز البعيد عن الإملال،الذي تحرّكه الجملة الفعلية بتواترات مكثفة جميلة تتراوح من خلالها الأزمنة الثلاثة؛ وقد يشعر القارئ أن أسلوب الكتابة أشد تشويقا من الأحداث التي قد تكون بسيطة كما في قصتي: رقصة الشمس، والقرصنة البريئة، ولكن بساطتها أغْنت قوة التعبير، وتوصيل المعنى .. إنها قصص لا أعتقد أن يملّ القارئ من إعادة قراءتها، وقد برز الجانب الجمالي فيها بشكل ملفت للانتباه..
وحسْبُ الكاتب القاص عبد الله كرّوم أن هذه المجموعة القصصية أولُ عملٍ إبداعي يصدر له في فضاءات السّرد، ويبدو أنه حريصٌ على مواصلة المشوار، وتطوير تقنياته السردية، ولا أحْـسَبُ أن هذا صعبا على شابّ ذكيّ متحفّز للتثقف، والاستزادة من المعرفة، وقد تحصّل أخيرًا على شهادة الماجستير.
الاشتغال في الإبداع السّردي يحتّم في بعض الحالات على الكاتب المبدع الخوض في دقائق حياتية إنسانية عميقة، ومواضيع راهنة حارقة،أو ماضية فلتت من أصابع الزمان تغيب عن عيني الإنسان العادي في وعاء لغوي جذّاب ..في شعرية لغوية ممتعة، وأداء تشكيلي جمالي..فيعيد لها الكاتب المبدع ألقها، وحياتها، وقد تتماهى هذه المنفلتة بما هو راهنً في النصّ المُبْدع ..فلكي نبدع سرديا وشعريا، فإننا ننشئ حدثًا أسلوبيا يتخطّى المعيار الكلاميّ السائد.
العنونة :
العنوان أولى العتبات، أو العلامات التي يتلقّاها القارئ لفك مفاتيح النّص ومعرفة فحواه، ومن هنا تأتي أهميته في شدّ الانتباه، وتوجيه مسار القراءة بما يحقّق غايته ومرماه..حتى وإنْ كان البعض يرى أن العنوان ليس بالضرورة دائما المفتاح السحري للنص، أو يرتبط به عضويًّا..
في اعتقادي العنوان أولى العتبات، أوالثيمات التي يتلقّاها القارئ لفك مفاتيح النّص، ومعرفة فحواه، وهو المفتاح التقني، والأداة الرئيسة للنّص بما يؤديه من وظائف انتباهية، وتشويقية، وجمالية.
المجموعة التي بين أيدينا للشاب القاص الأدراري عبد الله كرّوم حملت عنوان إحدى قصصها وهي" حائط رحمونة" عنوان يحمل أكثر من رمز دلالي، وتاريخي، وجغرافي.. مجموعة تحمل رمزية الماضي،والانفلات منه بمضضٍ.
المتْن القصصي
مجموعة قصصية من الحجم الصغير تتضمّن بعد الإهداء، والتقديم للأستاذ الشاعر والفنان التشكيلي ينينة عبد الكريم مدير دار الثقافة بمدينة أدرار التي أصدرت المجموعة القصصية، وكلمة الأديب القاص الروائي الأدرع الشريف.. سبع قصص قصيرة ..عناوينها تحيل القارئ إلى عمق تاريخ المنطقة، والحراك الاجتماعي بها، وتماهي الحاضر بالماضي، ورمزية بعض عناوين المجموعة لِما ترمز إليه من ارتباط عضوي بين إنسان منطقة " توات" وبيئته الزمكانية.
أربعة وستون صفحة تحتضن القصص التالية:
ماء من دم، مزمار العتبة، حائط رحمونة، الواحة المنسية، رقصة الشمس، القرصنة البريئة، تويزة.
فقرة قصيرة يستهلّ بها القاص عبد الله المجموعة لها أكثر من دلالة عنونها ب " تبئير" والتبئير في اللغة "جعل العنصر، أو المكوّن بؤرة الكلام" أمّا اصطلاحًا يعني زاوية الرؤية ، أو وجهة نظر الملاحظ ، أو القاص في رواية القصة" غير أن المقصود بـ " التبئير" في بعض المناطق الصحراوية : تذكير النخل، أو تلقيحه بغبرة الطلع التي تُؤخد من ذكر النخل إلى أنثاه..وهي العملية التي لولاها ما نتجت غلّة التمر..
ولعلّ القاص في مجموعته وهو أصيل الصحراء، وابن نخيلها والمتشبّع بأريجها، وعسل تمرها ،وهي رمز الاستقرار والعمارة.. يقصد المفهومْين معًا، في فقرته الاستهلالية:
« قبل أن أرسّخ خطوة الأقدام الأولى، اتّكأْتُ على الحائط سندًا وظهيرًا، وفي انطلاقة خطوة الحرف الأولى، استندتُ إلى الحائط استلهامًا ورؤية ..وبعد الخطوتيْن أحلامً وآمالٌ ومسارٌ ..وقبلهما وبعدهما دعاء ورجاءٌ.»
هي مجموعة متمرّدة في بعض قصصها خارجة عن مألوف الكتابة السردية، تنفلت من سياق القوالب السردية الجاهزة، وتحلّق إلى عوالم جديدة تصنع قوانينها بنفسها بعيداً عن القوانين الجاهزة للاستهلاك السردي..كقصص: ماء من دم، مزمار العتبة، حائط رحمونة، الواحة المنسية.
التقنيات السردية الخارجة عن مألوف الكتابة السردية ذات أوجه متعددة في هذه القصص، من تعدد لأصوات الرواة، إلى توظيف التواتي المحلّي إلى تناصٍّ متعدّد الأوجه إلى تشظٍ سردي، إلى تداخلٍ في معطيات الزمان والمكان، وغيرها..وباقي القصص الأخرى من المجموعة خلت من هذه العناصر الفنية وإنْ كانت قيمة التعاون والتكافل هي الأساس في قصة " تويزة" على سبيل المثال، وفي قصة "القرصنة البريئة .. لئن تقنية الحكي فرضت نفسها وعنصر التشويق تواجد، إلاّ أن الفكرة الأساسية للقصة عادية.
في القصة الأولى من المجموعة" ماء من دم " منذ البداية يطل علينا الكاتب قبل أن يحيل سياق القصة إلى الراوي العدل.. ويخبرنا بأن الربوع التي سيتكلم عنها كانت أرضًا تزخر بالحياة لوجود الماء فيها، والفقارات التي هي سبب استمرار حيوات الناس على أديمها، ويتناسل على حاضنة رملها طيبون بالوراثة، اكتسبوا من نخيلها معاني الوجود..وإذا الماء يغور، وتنطفئ الحياة، وإذا ابن المنطقة الذي امتزج عرقه بماء فقاراتها، وواحات نخيلها التي كانت خضراء صار يلاحق هذه الواحات، ويتشوّف جريدها اليابس وهو يراقص الهواء، ويعربد في سماء مُتربة محشوة بغازات نووية منبعثة من صحراء" رقّان"..تلك لوثة من لوثات الرجال البض سمّموا بها الأجواء..التناغم الوجودي حصل في هذه القصة بين بدايتها ونهايتها..
بداية القصة: في البدْء كان الماء..وأرض الضمإ والقحط تغازل ريح المطر.
نهاية القصة: قلبٌ خفق حرقة على حالة الغابة، على الإنسان ، والحيوان،والشجر والحجر، وعلى كل شيء في الواحة..ضحايا قطرة الماء في واحتي..لا يحصون عددا.
وفي قصة" مزمار العتبة" الكاتب هو الراوي، وقد انفلت منه النوم، وغيره نيام والليل طويل تداعت الأفكار، وتتالت الأحداث، وتسارعت في زمن تكوكب الإنسان، وانكمش الحرف، وتسلّط الرقم..واختفت منابع الخير، واختنقت أنفاس الطبيعة، توارى الخير والجمال..الواحات الجميلة ذات الخير الوفير التي جمعت أزمانًا بعد أزمان سلالات طيبة بالوراثة..سلالات عُرفت بالحلم والكرم والتواضع..كانت تحتضن الجميع واحات الخير..ماذا أصابها؟ الرمل الضمآن زحف ويزحف.. يمتصّ ما تبقّى من قطرات، وينشر الصمت رهيبًا في الأجواء، ويتعشّق النخل الباسق لجماله وسحره، فيلوي عنقه، ويمتصّ جُمّاره فيسقطه جثّة هامدة..
أيام زمان والواحة تحتضن الجميع كان الكل يرقص، ويبحث عن مزمار العتبة الذي تتهادى منه معسولات الألحان..الناس نيام والكاتب الراوي مهووس بالكلام يعدد النجوم بين تخوم السديم، ومملكة الشخير، ولا يرى إلاّ الاستنجاد بتعويذة المصريين القدماء كي تعود الحياة إلى واحته الضمأى.
أمّا قصة " حائط رحمونة " التي تحمل المجموعة اسمها بقدر ما تحمل من رمزية المكان وعبْق التاريخ فإن مضمونها الذي جاء في صيغة المخاطب هي نصًّ حواري بين الكاتب والأمكنة التي تحمل دلالات تاريخية، وبيئية ..حوارٌ مكثّفٌ متصاعدٌ، اصطنع له شخصية متنقلة عبْر تخوم أماكن الْــتصَقَ بها الإنسان المحلّي..لازمها وأغدق عليها من عرقه، وهو يتناسل، فبادلته العطاء الوفير، وأمّنت له الأمن الغذائي، فاستقرّ بها..
حائط رحمونة رمز العمارة والاستقرار،وثيمة الخير والبركة..الفضاء الرحب للإفضاء، والسماع والإسماع..محضن السمر واتخاذ القرار.. الضيف لا يخاف مسْغبة في بيوت الطيبين من أمثال رحمونة ومثيلاتها قبل أن يتغيّر الحال، ويموت البــرّاح الذي كان الصوت الوحيد الآمر الناهي، والمعبّر عن الجماعة والأعيان..غارت المياه، وجفّت الفقارات، وتلوّى الجريد اليبس والرياح تقتلعه من أصله تُلقي به حطبًا يابسًا..حائط رحمونة الطيني سند الطيبين ذات أزمنة سقط، وبغيابه غاب معه الأنس والهناء..اُقيم مكانه حائط إسمنتي مصبوغ بالحُمرة، أعرض عنه الناس، وما اتكأ عليه أحدً منهم منذ أن أٌُقيم غير مرغوبٍ فيه، وهو الغريب عليهم في شكله وتشكيله، وماهيته..
المكان ودلالته من خلال المجموعة
لعل أهم فضاء سيطر على نصوص المجموعة هو فضاء الواحة بنخيلها، وثمارها، وناسها المرتبطين به أبا عن جد..الواحة التي اتخذت أوجها متعددة، ولا تخلو قصة منها من قصص المجموعة..وذكر الواحة يستلزم بالضرورة ذكْر الماء الذي لولاه ما كانت الواحة، وما كان الإنسان..
دلالة الماء في المجموعة تختلف من نص إلى آخر، لكنها تكاد تجمع في النهاية على كونها سيرة للحياة والكائن، وهي دلالة مهّد بها القاص من الإهداء وستتحول إلى نقطة ارتكاز لبدء الأحداث انطلاقا من أول عبارة بالقصة الأولى" في البدء كان الماء..وأرض الضمإ والقحط تغازل ريح المطر" ما يجعل من الماء " المتنفس الوحيد لحياة المخلوقات" في منطقة توات وسيلة لفتح باب الذاكرة وتقليب الذكريات، وترتيب اللحظات والأزمنة، والأمكنة التي من خلالها تطالعنا صور الحياة الصحراوية بين الواحات، وخصــــوصيتها ،ونمط عيش أفرادها داخل قرى تحصّن أهلها بتراثهم، وتقاليدهم، وارتباطهم بالأرض،ومجاورتهم " للقصور المتهاوية" التي ترمز إلى عبْق تاريخ الأجداد، وبالرغم من زحْف مكعبات الإسمنت تدريجيا إلى أحيائهم، وما رافقها من خدمات عصرية يسّرت حياتهم إلاّ أنهم يعتبرونها دخيلة عليهم..
دلالة الماء تتغلغل في مفاصل المجموعة، وتغذّي سياقاتها كما أسلفنا من أول قصة حتى آخرها من المجموعة في قصة " تويزة" التي تكاتف أهل القرية وساكنو القصور المجاورة لمدة ثلاثة أيام في هبّة تضامنية، متناسين الأحقاد، والخصومات، ليعيدوا المياه إلى مجاريها بعد أن نُكبت " فقارة بوعيسى" وقد تداعت آبارها، واختلطت أنفاقها،وانحبس ماؤها.
دلالات التناص :
في المجموعة ثمة نصوص متناصة متنافذة في أغلب قصص المجموعة، وأن هذا التنافذ أثرى النص القصصي، ومنحه ألقًا، وتشوقًا للمتلقّي كي يواصل سيرورة الحكي، ولعلّ من هذه التناصات:
1 ـ التناص الديني:
ورد التناص الديني في عدة مواقع من المجموعة منها:
" بسم الله مسلمين لرجال العتبة، بسم الله مسلمين لرجال العتبة."ص31
" قيل للأرض: ابلعي ماءك وغار الماء الساقي..تسبّخت التربة الصالحة ولم تعدّ تمنح خيراتها"ص42
" نشكر رسول الله وعليه نجيب كلامي**ونورد لو معناه يا ربّي قبل نظامي"ص50
" صدقة عليك يا سيدي ..اقض حاجتي"ص51
" لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم"ص60
" اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد..سمْعوا لو كان تسمعوا للآخرة.أمْر الله، وأمْر الجماعة …"ص39
2 ـ التناص التراثي:
" السلام عليكم أيها الآلهة الذين يشربون، ويقتاتون من دم الخُطاة يوم الحساب"ص30
" أهي جات التنيسيم حلّوا ليّ ندخل"ص32
" الله الله الله ..يا سيدي بوتدارة من جابك عند الله ، وأين الرجال الصبّارة حيث ماشي للواد…"ص36
" الحضرة ..الحضرة..اليوم النهار مهضور..مسلمين..مسلمين"ص49
" من ذا اللي غاثة لو جات للي واحل**فك وحلتي يا حنان يا منان
3 ـ التناص الفلسفي:
" كنّا بالأمس في هذه الحياة ، وقد جئنا الآن، وسوف نعود حتى نصير كاملين مثل الآلهة"ص21
" ربّما كانت الدهشة باعثًا على الفلسفة..( أرسطو)"ص29
السرد والحوار
من المعروف أن السرد في القصة القصيرة يختلف عن السرد في بقية الأجناس الأدبية الأخرى، وعادة ما يكون في القصة القصيرة مكثفا، ومركزا وذا منحى إيحاءٍ عالٍ، فجاء السرد في مجموعة " حائط رحمونة" من النوع الموضوعي الواقعي، أي أن الكاتب عبد الله كرّوم بالكاد في كل قصصه يتحدث بضمير الغائب ،وضمير المتكلم المخاطب كما في قصة" حائط رحمونة" وضمير المتكلم كما في قصة" الواحة امنسية"…وفي بقية القصص يحتل ضمير الغائب / الآخر الصدارة.
ضمير الغائب، وكما يؤكد النقاد المهتمّون بالسّرد، هو علامة ميثاق واضح بين الكاتب والمجتمع ،غير أنه أيضا بالنسبة للقاص الوسيلة الأولى للاستيلاء على القارئ بالطريقة التي يريدها، ضمير الغائب إذن أكثر من تجربة أدبية، وهو فعل بشري، يربط الإبداع بالآخر، وبالتاريخ ،بالوجود.
وتميَّز السرد عند عبد الله كرّوم في المجموعة في أكثر من موقع بالتكثيف والواقعية الاجتماعية، دون الجنوح إلى التعقيد اللفظي، أو الرمز الغامض، أو اللفظ الغريب، أو اللفظة الدارجة، وإنْ ألجأه السياق السردي إلى استعمالها فغالبًا ما ترد ضمْن دلالات التناص التراثي.
الحوار هنا يتمم السرد، ولا غرابة في ذلك فهو مفصل حيوي منه، ولذلك جعل القاص عبد الله هذا الحوار في نسق لغوي أحينا مكثّفا، وأحيانا بسيطا وواضحا، وقد يمتد فتتوالد منه أفكارٌ، وتتسم من خلاله مواقف الشخوص، ومدى تناغمها مع محيطها، أو عكس ذلك ..ففي قصة " ماء من دم" يكتسي طابع الأسى:
ــ أعرفه كما أعرف مواضع نخلاتي في السباخ البائسة.ص18
ــ حدث ذات مرّة أن اشتهى فريق اللحم أكل الشواء، وتعاقدوا على اللحم البلدي الأصيلي، وجدّوا في الطلب..فما من جدوى.ص19
وقد يكون مكثفا وجوديا:
ــ سرّ استمرار الإنسان على أديمها ماء" الفقارات" ينساب تحت الأرض…
ــ تفسّحوا في مجاهل الآفاق..وتدثّروا بالحلم..وتشرّبوا الأناة..والتحفوا رحابة الصدر.ص17
ــ الرمل..مدُّ البصر..يرافق الإنسان ..يأكل الأسنان، ويترحّم على الأموات…ص23
ــ بينما كان الطبيب يفلّ الأمعز الصوان من الأحجار، ويفتّت شظاياها تفتيتًا ، ويرى في نورها المتطاير أحلام يقظته…ص25
ــ الغابة يبست..والفقارة جفّت..وقلوبكم ميتة..ودماؤكم باردة..وأنتم لاهون لاعبون..ستضحك عليكم الأيام."ص24
وقد يكون الحوار تفسيريا لوضعٍ أو إدانة له:
ــ أنحن طوعًا، أو كرْهًا لوليٍّ صالح جذب إليه العرب والعجم، تلوح لك قبته المجصصة من بعيد صامدة منذ خمسة قرون لم تكترث بالتبديع، والتفيسق، والتكفير..؟ ص35
المتْن الأسلوبي واللغـوي:
إن الناظر في هذه المجموعة يلاحظ بوضوح أنها كتبت بلغة سلسة منتقاة العبارة، منقادة لتذليل المعاني وترويضها، ولعل اللافت للنظر في الأسلوب ذلك الطابع الشعري الذي يميزه، والذي قد تعلو درجته أو تنخفض بحسب أهمية المضامين الدالة.. لغة متدفقة وانسيابية ،لا تميل إلى التعقيد ،أو التقعر أو استخدام الكلمات الأجنبية ،أو الدارجة إلاّ ما ندر قد تأتي على لسان أحدهم في إطار " الحضرة" أو على لسان " البرّاح" ولم تتورط بالإسهاب والإطالة.. ترصد الأحداث بواقعية،. فلا يشعر القارئ بواسطتها بأي نشاز إيقاعي أو إزعاج لساني ،وقد ظهرت الأفكار واضحة حيث لا تتطلب مجهودا ذهنيا كبيرا..كما أن الشاعرية قد ترد هنا وهناك فتزيد النص القصصي جمالاٌ:
" إلى الذي بكته السعفة اليابسة في واحة النخيل، وقطرة الماء الغائرة في(الفقارات)"
" في البدء كان الماء..وأرض الضمإ والقحط تغازل ريح المطر"
" خرج يسبق ظله، ويراود أحلامه.."
" …يتشوف جريدها اليابس يراقص الهواء، ويعربد في سماء متربة محشوّة …"
" يتعاقب على حاضنة الرمل سلالات طيبة بالوراثة، يُعرفون بالحلم والكرم والتواضع، ربّما قهرهم سوط الحرّ والقرّ فجعلهم سوبرمان اس عشرة"
" قيل للأرض: ابلعي ماءك وغار الماء الساقي..تسبّخت التربة الصالحة ولم تعدّ تمنح خيراتها"
" أرض البور فاض ماؤها الأجاج ينساب في جنّات الفقراء والطيبين ..يهلك الحرث والنخل، يُميت ولا يُحيي"
" واجهْ وقت الأصيل شمسًا تفقد سوط اللهب، وتمتّعْ بمغيبها الآسر في أفق طبيعة عذراء."
اللغة متدفقة مطواعة لدى القاص عبد الله كرّوم ..لا تقعّر فيها ولا اصطناع تنساب عادية تعبّر عن بيئة محلية، وهموم مواطن صحراوي ربط مصيره بقطرة الماء، وبسيدة الأشجار ـ النخلة ـ ألفاظ كثيرة محلية طوّعها وإذا هي تؤدي معاني ساحرة، وكثير منها يأنف توظيفها الكُتّاب المحدثون لكن القاص وظفها باقتدار، والمتلقّي يتعامل معها عاديا ولا تشدّ انتباهه البتّة مثل:
فقارات، الجريد، السعف،مدقّ التمر يفتته سفوفا، التدارة أيقونة الضيافة،جذع النخلة، الكرناف، الليف، البلح، الحشف، البريح،الماجن( الحوض المائي)،تاي الشعرة،تمر تينقور، قصبة مشيدة الأدراج،حائط رحمونة.
وبعــد..ما يشدّ القارئ في هذه المجموعة ، هو الصدق، وكذا الأسلوب المتميز البعيد عن الإملال،الذي تحرّكه الجملة الفعلية بتواترات مكثفة جميلة تتراوح من خلالها الأزمنة الثلاثة؛ وقد يشعر القارئ أن أسلوب الكتابة أشد تشويقا من الأحداث التي قد تكون بسيطة كما في قصتي: رقصة الشمس، والقرصنة البريئة، ولكن بساطتها أغْنت قوة التعبير، وتوصيل المعنى .. إنها قصص لا أعتقد أن يملّ القارئ من إعادة قراءتها، وقد برز الجانب الجمالي فيها بشكل ملفت للانتباه..
وحسْبُ الكاتب القاص عبد الله كرّوم أن هذه المجموعة القصصية أولُ عملٍ إبداعي يصدر له في فضاءات السّرد، ويبدو أنه حريصٌ على مواصلة المشوار، وتطوير تقنياته السردية، ولا أحْـسَبُ أن هذا صعبا على شابّ ذكيّ متحفّز للتثقف، والاستزادة من المعرفة، وقد تحصّل أخيرًا على شهادة الماجستير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق