الاثنين، 4 مارس 2013

أ.يحي بوعزيز..أخلاقيات العلم وشعلة الوطنية*


 أ.يحي بوعزيز..أخلاقيات العلم وشعلة الوطنية*
                 يقترن اسم المرحوم يحي بوعزيز عند طلابه وأصدقائه وزملائه بفضائل عديدة قلّما اجتمعت في زماننا في شخص واحد، منها أنه يقتدي بالوصف الذي خصّ به القرآن الكريم رسولنا الأكرم(ص) في الآية الرابعة من سورة  القلم وإنكَ لعلى خُلُقٍ عظيمٍ
 المرحوم الدكتور يحي بوعزيز    
   يرجع ذلك إلى تنشئته الأولى في أحضان عائلته التي تنتمي إلى أشراف ( إمبراضن) ناحية الجعافرة من ولاية برج بوعرريج ، وللتوضيح نقول لشبابنا الجامعي إن الشرف في منطقة زواوة وغيرها من مناطق الجزائر، لا يعني المال والعقار، وسطوة القبيلة؛ إنه يرتبط أكثر بالاستقامة، والابتعاد عن الرذيلة، وحفْظ كتاب الله، وتعليمه في الكتاتيب والمعمرات، وبالتالي فإن الشرف لا يعني وجود طبقة من الارستوقراطية منفصلة عن بقية الشعب، بل إنه مجرّد احترام يؤهل الشخص للحصول عل ثقة الناس، ولمركزٍ قياديٍّ فيما يسمّى اليوم المجتمع المدني، أي لعضويةٍ، أو لرئاسة مجلس الأعيان، أو ثاجماعت.
        إذا تحادثتَ مع يحي الأستاذ المؤرخ وجدتَ علمًا غزيرا واطلاعا واسعا على ملحمة الجزائر من القديم إلى المقاومة والحركة الوطنية إلى ثورة التحرير الكبرى، فهو يتدفق مثل السيل، ولكنه لا يخوض في المجادلات والمهاترات اللفظية فهو يدرك أنه إذا أراد الله بقومٍ سوءا كثُر بينهم الجدل وقلّ العمل المفيد، وهذا مع الأسف ما أصاب بعض النُّخب المثقفة عندنا وفي بلاد العرب والمسلمين.
        يفضّل الأستاذ أن يتحدث عنه عملُه العلميُّ ومسلكيته الأخلاقية أكثر ممّا يتحدث هو نفسه، فهو نظيف اليد واللسان لم يطلب أبدا مقابلاً لمقالاته في مجلّة المجلس، ولم أسمعه شخصيا يشتكي من أيّ شخصٍ من زملائه، أو مرؤوسيه في الجامعة، أو المسؤولين في ولاية وهران، فهو راهبٌ في محراب العلم تصْدُقُ عليه الآية الكريمة وعِبادُ الرّحمن الذين يمشون على الأرضِ هوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهلون قالوا سلامًا
        خدم الفقيد الوطنية الجزائرية بالعلم منذ أبحر في محيط المعرفة التاريخية الواسع، وهو طالبٌ في مقتبل العمر لم يتم بعد دراسته الثانوية بكتابةٍ عن الأمير عبد القادر، سائرًا على خطى رجالات الحركة الوطنية، وحركة النهضة والإصلاح مثل مبارك الميلي، وتوفيق المدني، وشريف ساحلي في دراسته عن تحرير التاريخ ( decolonner    l,histoire)، وكبار فلاسفة التاريخ مثل هردر في ألمانيا، وتوينبي في بريطاتيا.
          بعد جُهْد مضنٍ وطويل في الدراسة والتدريس فرضتْ عليه إدارة الجامعة التقاعد الإجباري سنة 1996 وهو في أوْجِ عطائه العلمي، فأحسّ وكأنه تلقّى جزاء سنمّار، وبدل أن تستفيد منه الكلية في مجالات البحث والتكوين في مرحلة الليسانس والدراسات العليا والاستشارات العلمية كأستاذٍ مشاركٍ في تخصصه، طبّقت الجامعة قوانين الوظيف العمومي نصًّا وليس روحًا.
         الاستفادة من خبرة الأستاذ لا تعني الوقوع في هيمنة أساتذة الكراسي وديكتاتورية الماندرينا ( les mandarins ) الموروثة عن تقاليد الجامعات الفرنسية، وخاصة في مراكز ومعاهد الطب الجامعي (CHU)التي يتربّع على عرشها الأستاذ رئيس المصلحة (chef  de service )، وقد وضعها أحد الأساتذة الشبّان في فرنسا على رأس القائمة فيما سمّاه أنواع البؤس الخمسة في النظام الجامعي هناك.
          ولعلّ الإصلاح الحالي في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي يخفّف أو يزيل هذا الإهدار، وينظم العلاقات والحركية في صرْح المعرفة الأول الذي لا ترتبط قيمة العاملين فيه بالسنّ والأقدمية وحدهما، بل بنتائج التكوين ومستوى المنتوج العلمي والتطبيقي، وأساسًا بتوطين المعرفة في بلادنا، وباللسان العربي المبين.
             بالإضافة إلى حرْص الأستاذ بوعزيز على الاطلاع على المصادر والمراجع، فقد كانت معاناة شعبه وما بقي في ذاكرته من مذابح 8 ماي 1945 ومشاهد القمع والقهر والإذلال لِبـني وطنه قد علّمتْه أن الكولونيالية شــرٌّ كله ولا خير فيها على الإطلاق، وأن أكذوبة التمدين التي ما زالت تتردّد في الأوساط الفرنسية لم تكن سوى إبادة للأبرياء والمقاومين والمجاهدين من آبائنا وأجدادنا فقد كان أيّ كلبٍ أو قطٍّ في بيت الكولون أكثر قيمة من أيّ شخصٍ من جنس البرنوس(  la race du burnous)، وهو الاسم الذي أطلقه الأثنولوجيون الفرنسيون على كل الجزائريين.
         ابن الجعافرة الوفي للذاكرة الوطنية كتب عن ماضي الجزائر في كلّ مراحله، وعن أبطال الجزائر في أي منطقة بدون تفضيل، أو تمييز فهو مواطنٌ كلّيٌّ على مستوى الجغرافيا وفي الامتداد التاريخي لبلاده في الماضي السحيق والقريب، إذا حدّثك بالأمازيغية خلْتَه لا يعرف غيرها، وإذا خاطبك بالعربية تفوّقَ في الفصاحة والبلاغة والبيان، وهو نموذج من النخبة الجزائرية العالمة التي لا ترى في التنوّع مدعاة للفرقة، ولذلك انصهرت أمازيغيته في العروبة، والإسلام ثقافة وحضارة، وليس عرقًا أو سلالة تطبيقا لمقولة ابن باديس الصحيحة بالأمس مثل اليوم: نحن أمازيغ عرّبنا الإسلام.
       أستسمح السادة الأساتذة من أهل الاختصاص إذا غامرت بخطوة صغيرة في حقلهم المليء بالمصاعب والألغام وقلتُ إن الحقيقة هي صالّة المؤرخ وهي ليست ملكية لشخص واحد، وهي عندنا جوهر الوطنية؛فإذا لم يكن لأمة أو شعب تاريخ اضطرّ لتعويضه بالأسطورة، أو ملء الفراغات في ماضيه بمآثر خيالية وحكايات شعبية..غير أن الحقيقة التاريخية تقترب كلما ابتعدت الوقائع في الماضي وتضاءلت تأثيرات المعاصرة وفي هذا السياق تكون المذكرات الشخصية والشهادات من التاريخ المباشر، أو مادةٍ خامٍ للباحث وبالطبع لا ينقص ذلك من قيمتها الوثائقية، وهذا بالضبط ما تقوم به وزارة المجاهدين مشكورة في هذه المرحلة التي تتسارع فيها التحوّلات في مجتمعنا، وبلادنا على وشك الاحتفاء بالذكرى الخمسين للتحرير والاستقلال في سنة 2012 أي بعد 67 سنة من بداية ثورة التحرير.
        ولا شكّ أن التعديل الأخير الذي بادر به الرئيس عبد العزيز بو تفليقة في نوفمبر الماضي لًيؤكدُ من جديد على الأهمية الاستراتيجية لكتابة تاريخنا وتعليمه للناشئة بأحْدث الطرق البيداغوجية ، ونحن نعجب من مطالبة البعض بإبْعاد الدولة عن كتابة التاريخ والمطالبة وحتّى الاحتجاج على ضعف عناية الدولة بالباحثين في هذا الميدان وغيره، وأحيانا من نفس الأشخاص.
        وعلى أيّ حالٍ فإن وقائع الماضي تتوالى وتتداخل وفق متّصلٍ من الأسباب والنتائج التي تتحوّل بدورها إلى أسبابٍ وهذه هي السببية التي عبّر عنها فيلسوف التاريخ ف بروديل ( Braudel.F) في دراسته عن ( grammaire  des civilisations) يقول : إن ما يقع بالصدفة لا تحتفظ به الذاكرة. ولكن معضلتنا نحن في الجزائر بدأت باختطاف تاريخنا ( hold-up ) من طرف العدوّ الكولونيالي وتواصلت على اتجاهيْن : الأول تكالب على مسْح الذاكرة الوطنية، واستئصال معالمها ورموزها، وهذه هي الإبادة المعنوية.والاتجاه الثاني المستمر إلى اليوم هو تواطؤ باحثين وراء البحر على تسويق ما يُطلق عليه السطو على الحقائق أو سلعة طايوان في التعبير الشعبي، أي السلعة المغشوشة.
         لم يكن اهتمام أغلب الباحثين الفرنسيين بماضي الجزائر، والبحث عن الحقيقة والحرص على النزاهة الأخلاقية، وخاصة منهم المختصون في الأثنولوجيا والأنثوغرافيا ودفاتر الكذب التي تحمل اسم علم الجزائر ومجامعه انجد نماذج منها في النصوص التي ذكر عيّنة منها كلٌّ من لوكا وفاتان في كتابهما عن جزائر الأنثروبولوجيين سنة 1975 .
      ولا بدّ من الاعتراف بأن أولئك الأساطين كتبوا أوّلاً تاريخ فرنسا في الجزائر، ونجحوا ثانيا صنع مُريدين من الجزائريين روّجوا مفاهيمهم المدغولة، وأساطيرهم المزعومة وكثيرٌ من أولئك المُريدين الذين يحظون باهتمام منابر ودُور نشر في الإكساغون هم الذين يكتبون ما يُرضي النوستالجية الفرنسية المعلنة، أو المخفية عن الفردوس المفقود، وكما أن للنخبة الواعية من باحثينا الشباب والأساتذة الكبار ذاكرة وطنية وهم على أعتاب تأسيس مدرسة جزائرية للتاريخ وفلسفة التاريخ، فإن لأغلبية الباحثين الفرنسيين ذاكرة وحنينا لامبراطورية الشرّ، والاستعباد الكولونيالي.
        لم يتعرّض الأستاذ بوعزيز للتلويث، أو غسْل الدماغ فقد حصّنته تنشئته الأولى، وثقافته العربية الإسلامية، وقد ترك للأجيال من الطلاب والباحثين ثروة معرفية ومسلكية نموذجية، ولذلك فإن د.يحي بوعزيز سيبقى حيّا بأعماله، ومن الإنصاف لتفانيه في البحث والتأليف والتدريس وأخلاقه التي تقترب من المثالية أن تبادر جامعة وهران ووزارة التعليم العالي بإطلاق اسمه على أحد كليات الجامعة، أو على الأقلّ أحد مدرّجاتها، وأن تبرمج الكليةُ التي قضى فيها زمنا طويلا باحثا، ومدرسا ندوات دورية لدراسة أعماله، وإعادة طبْع مؤلفاته ونشْر ما هو مخطوطٌ منها، وقد تقبل بلدية وهرات الباهية والوفية أن يحمل الشارعُ الذي يوجد فيه سكنه اسمه، فجهاد العلم لا يقلّ عن الجهاد بالرشاش، فالأول يكمل الثاني .( يا يحي خُذِ الكتابَ بقوّةٍ )الآية رقم12 من سورة مريم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  لن تكون أية لغة "صعبة" بعد الآن بفضل هذا الاختراع الياباني الذكي كتب: بشير خلف        يُعدّ التحدث بلغة أجنبية مهارة مطلوبة ...