متى يعلنون وفاة "العربية"؟
يروي الفيلسوف الجزائري الراحل نايت بلقسام حكاية، حدثت في الدار البيضاء المغربية، عندما قرّر أحد الدكاترة الألمانيين أن يتعلم اللغة العربية، حتى يتميّز عن أبناء بلده الذين راحوا يتعلمون اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، فقضى في تعلّم لغة القرآن أزيد عن عشر سنوات حتى أتقنها، وقرّر أن يتجوّل في شوارع الدار البيضاء مرحا، يخاطب أهلها بلغته الجديدة، فطلب من شاب مغربي أن يدلّه على عربة يجرها حمار، حتى يسيح في شوارع المدينة، بلغة عربية فصيحة وراقية، ولكن الشاب لم يفهم ما قاله الدكتور الألماني، فأعاد المنتشي بتعلمه اللغة العربية السؤال، بمرادفات من القاموس العربي الذي حفظه عن ظهر قلب، ولكن الحيرة اعتصرت كل شباب المغرب العاجزين عن فهم ما قاله هذا الوافد، فعاد الدكتور الألماني إلى بيته لاستفسار صديقه المغربي عن سبب جهل الناس في الشارع المغربي لخطابه لهم باللغة العربية، فأخبره بأن الناس تتكلم اللهجة الدارجة، وهي تختلف من بلد عربي إلى آخر، فعليه أن يقول "نبغي" في المغرب، و"عاوز" في مصر و"بدّي" في لبنان، وهنا أمسك الدكتور الألماني برأسه، وصاح صيحة عربية فصيحة لآخر مرة في حياته: "يا ويلتي على عًُمر أفنيته في تعلم لغة لم تركبني حمارا"؟
مجرد افتخار العرب بكون لغتهم لها يوما عالميا، يُحتفل به في الفاتح من مارس، هو دليل على أنهم مقتنعون بأن لغتهم خسرت بقية أيام السنة، ومجرد اعتقادهم أنها ضمن اللغات
المهدّدة بالانقراض كما جاء في دراسات عالمية، دليل آخر على أن ما تعانيه اللغة العربية إنما هو من أهلها قبل بقية الأقوام، وإذا كانت الدراسة قد ردّت أسباب تراجع اللغة العربية إلى شحّ الابتكارات، وابتعاد العرب عن استعمالها في الشام والمغرب العربي وخاصة في الخليج العربي، فإنهم فشلوا أولا في بعث الأبحاث العلمية، وقبلوا بأن يبقوا شعوبا تستهلك طعامها وسياراتها وهواتفها النقالة وحواسيبها وحتى لغة الحوار من الخارج، وفتحوا ثانيا أبوابهم لبقية اللغات، وسمّوا لغات غيرهم باللغات الحية في إشارة إلى "موت" لغتهم، إلى درجة أن عدد المصاحف المترجمة للغة الإنجليزية في إمارة أبو ظبي يتجاوز عدد المصاحف العربية، كما أنزل الوحي على النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الخالد.
كل قواميس اللغات الأجنبية تتدعم بمفردات جديدة، هي نتاج ابتكارات شعوبها من التلفزيون إلى الأنترنت والفايس بوك وأنواع السيارات والطائرات والأسلحة، إلا اللغة العربية التي مازالت على حالها منذ أن رثاها ورثى أهلها الشاعر نزار قباني في قصيدة "متى يعلنون وفاة العرب؟"، وقال فيها "أيا وطني جعلوك مسلسل رعب، نتابع أحداثه في المساء، فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباء"؟
وتبقى الجزائر البلد العربي الوحيد، الذي دعّم القاموس العربي بالكثير من المفردات، وهي مفردات ليست من وحي الإختراعات والاكتشافات، وإنما للأسف من عصارة الألم الذي ينخر البلاد، منذ أن عاش أهله ما يسمى بـ"الحڤرة"، وهي أمرّ من مفردة الاحتقار، فمارس ما يسمى بالـ"حرڤة" وهي أقسى من مفردة الهجرة، في بلد يُسيّر بـ"التشيبة" وهي أخطر من الرشوة، وبـ"الشكارة"، وهي ألعن من الربا، ونخشى أن نمسح القاموس العربي بمزيد من المفردات التي صنعها الفساد بكل أنواعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشروق اليومي: الثلاثاء 04/03/2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق