درس من الفاتيكان..
أطل على العالم، في يوم بارد من شتاء يلفه الثلج، ويطبعه الصقيع، فألقى في وجه المعمورة، بقرار استقالته. فعل ذلك "قداسة البابا، بانوا السادس عشر"، وعاد أدراجه، ليترك الخلق يسهرون جراء استقالته ويختصمون.
إنها استقالة تاريخية، في حياة الفاتيكان، ابتدعها البابا، على عكس من سبقوه، مبررا إياها، بعجزه الصحي، وعدم قدرته على القيام بأعظم مسؤولية روحية في العالم المسيحي. ونريد أن نغوص في خبايا الأسباب التي أدت، بالبابا، إلى أن يتوارى عن الأنظار، ويهجر الأضواء، وينزع ثوب اللؤلؤ والمرجان، والذهب المرصع به التيجان، ويقول للناس، أمركم شورى بينكم.
لقد أدبنا الإسلام فأحسن تأديبنا، وعلّمنا أن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها، ولا يهم من أي وعاء خرجت، أيا كان دين مصدرها، ولون قائلها، وجنس العامل بها. ولعل هذا ما يشجعنا على البحث في حيثيات هذا الفرار البابوي التاريخي، فنتساءل ونحن من دين مغاير لدينه، عن الخبايا، في زوايا، الفاتيكان، وما أكثرها، لنرى إن كان العامل الصحي، هو وحده الكامن خلف ما أعلنه البابا، أم أن وراء الأكمة ما وراءها.
إن مما يسلم لنا الجميع به أن "قداسة البابا بونوا السادس عشر"، قد عودنا على أنه، طيلة تربعه على عرش البابوية كان مثيرا للجدل، فيكفي أن نذكر محاضرته: "السيئة الذكر والأثر" التي ألقاها، بجامعة راتيسبون Ratisbonne الألمانية في موضوع الديانات، وتهجّم فيها على الإسلام، وهو ما أثار موجة من الاحتجاجات داخل العالم الإسلامي، ويمكن القول بأن إقدام سماحته على مثل هذا الهجوم، قد كان بمثابة الضوء الأخضر الذي أطلقه في وجه ذوي النفوس المريضة في الغرب، لحملتهم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وما تبعها من رسوم مشؤومة، وأفلام مذمومة، إلى غير ذلك.
من يومها بدأت العلاقات الخارجية المتأزمة بين العالم الإسلامي وقداسة البابا، لكن هذا التأزم الخارجي، كان عرضا يخفي أعراض تأزم داخلي، ينخر أركان الكنيسة، وهو ما يلقي بالمزيد من الضوء على الأسباب العميقة لاستقالة البابا من منصبه.
فقد خرجت الصحافة الإيطالية، غداة الإعلان عن انسحاب البابا، خرجت بتعاليق كثيرة، تصب كلها في مصب واحد، وهو أن العامل الصحي الذي لوح سماحة السيد بونوا، به لم يكن إلا غربالا لتغطية الشمس.
فهذه يومية الفاتيكان l_Osservatore Romano تذهب إلى التأكيد، بأن سبب الاستقالة يتعلق أكثر بالصحة الروحية والمعنوية للفاتيكان، ويتجلى التأزم الصحي الروحي والمعنوي للفاتيكان في شيوع ظاهره الشذوذ الجنسي، التي خاض البابا معركتها بحزم وعزم، وفي فضيحة تهريب وثائق سرية بالغة الخطورة، وفي صراع عقيم يدور داخل أسوار الكنيسة، إضافة إلى فشل البابا في إصلاح نظام الرهبنة، وتحقيق السلم مع المتطرفين.
وعلى نفس المنوال ذهبت صحيفة استامبا الإيطالية الشهيرة، فتحدَّثَتْ عما وصفته "بالثيولوجيا اللائكية وثورة بونوا Bonoi"، ونحا أحد المعلقين المختصين في الوسط الفاتيكاني وهو فرناندو دو بورنولي، إلى أن قرار الاستقالة، إنما يعود سببه إلى انتقال الكنيسة من "عشيقة الحياة" و"نقطة ارتكاز مرجعية" للعالم الغربي، إلى "متهمة كبرى في العالم".
وإذن فإن استقالة البابا في هذا الظرف بالذات قد جاءت لتكشف خبايا التأزم داخل الكنيسة، كما يؤكد على ذلك المتخصص في الشؤون الفاتيكانية، ماسينو فرانكو Massino Franco، إذ يعزو أمر الاستقالة إلى تقرير سري صادم تقدم به ثلاثة كرادلة حول الفضيحة المعروفة بفضيحة فاتيليك Vatileaks أي فضيحة تسريب الوثائق الخطيرة إلى جهات خارجية عن الفاتيكان، وكذلك الفضيحة ذات الاستغلال الجنسي التي هزت أركان الكنيسة، والتي تعتبر أعمق فضيحة عرفتها الكنيسة المعاصرة، لقد أكد تقرير الكرادلة على وجود أزمة نظام داخل الفاتيكان منسوج من الصراعات، والمناورات، والخيانات.
وعلى كل حال، أيا كانت مواقف "قداسة البابا بونوا السادس عشر" المتشنجة، من انتشار الظاهرة الإسلامية في ربوع العالم، وفي أوروبا بالذات، والإعراب عن حزنه لانحسار التدين النصراني مقارنة بالمد الإسلامي، خصوصا اعتناق الكفاءات الأوروبية للإسلام من الرياضيين والفنانين، إلى العلماء والفلاسفة، بالرغم من الإسلاموفوبيا المتفشية، أيا كانت هذه المواقف منه فإننا لا نملك كمحللين، شأننا في ذلك شأن كل محلل موضوعي نزيه، لا نملك إلا أن نشيد بموقف البابا، وشجاعته في اتخاذ القرار الصائب، في الوقت المناسب، فما دام قد فشل في تغيير المؤسسة فالأَولى أن يتغير هو، وذلك ما أقدم عليه.
وإنه لدرس عظيم نتعلمه من الفاتيكان، فليس أمام فشل المسؤول عن المؤسسة إلا الاستقالة، وليت المسؤولين في العالم، يعون هذا الدرس، فيعيدو الأمور إلى أهلها، عندما تضيق بهم السبل، وتتعفن من حولهم الأوضاع، وهو ما يذكرنا بقول شوقي:
لو بلينا بأتيلا ساعة لشكونا من نفاد الحطب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشروق اليومي: 04/03/2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق