السبت، 2 مارس 2013

“ثقافة الدولة غائبة.. وعلى المعربين والمفرنسين تجاوز خلافاتهم”


لقاء خاص مع المفكر المخضرم الدكتور

عبد الله شريط*

“ثقافة الدولة غائبة.. وعلى المعربين

والمفرنسين تجاوز خلافاتهم”

إنه الذاكرة الإعلامية والصحفية للثورة الجزائرية و”ابن خلدون الجزائر” لِما يتمتع به من عمق في التفكير، واهتمام بالثقافة السوسيولوجية التي يرى أنها الحقل الذي يشمل المعرفة الإنسانية بكل تنوعاتها وروافدها، وهو في العقد التاسع من عمره لم تـتعبْه محنة البحث والكتابة؛ بل ولم يفته أن يتلمس الإشكاليات المثيرة للجدل على الساحة الوطنية بالدرجة الأولى، وكان آخر ما طرحه من مؤلفاته المتعددة هو حوْل غياب ثقافة الدولة في ثقافتنا، وسلوكاتنا السياسية الأمر الذي جعل الدولة هشّة، وعرضة للكثير من الهزات والأزمات؛ ذلك هو المثقف الشامل والمتواضع الدكتور عبد الله شريط ضيف حلقة هذا الأسبوع من ركن “لقاء خاص” بجريدة “صوت الأحرار”، فتابعوا هذا الحوار الشيق والممتع وبالتأكيد ستكتشفون كم أن الجزائر غنية بأعلامها الذين يستحقون كل الاحترام والتقدير.

س: في البداية هل بالإمكان أن يقدم لنا الدكتور عبد الله شريط سيرته الذاتية؟

ج: أنا من مواليد بلدية مسكانة بولاية أم البواقي سنة 1921، التحقت في صباي بكُتاب القرية لحفظ القرآن، وبدأت تعليمي الابتدائي بمدرسة فرنسية في مسكانة سنة1927، وبعدها انتقلت إلى تبسة سنة 1932 وهناك التحقت بمدرسة جمعية العلماء المسلمين”تهذيب البنين” وتتلمذت على يد الشيخ العربي التبسي إلى غاية نهاية أربعينيات القرن الماضي أين ذهبت بعدها إلى تونس لتحصيل العلم…

س: معذرة على المقاطعة، لكن بحكم أنك تتلمذت على يد الشيخ العربي التبسي وقربك منه، ما هي الفروق التي يمكن أن تضعها بينه وبين الشيخ بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي؟

ج: كانت دراستي كما قلت لك على يد الشيخ التبسي في مدرسة “تهذيب البنين” لفترات متقطعة بين سنة 1935 إلى سنة 1940، وقد كان يلقننا اللغة العربية والنحو والأدب، وتعلمنا منه أفكاره الساخطة على الشعب الذي فقد الحركة، ولكن بعد الثورة اندفع في خدمتها إلى حد أن الجبهة حذرته من بطش السلطات الفرنسية لو وقع بين أيديها وعُرض عليه أن يتم تهريبه للخارج ولكنه أبى ذلك وقال: “سأبقى هنا بالجزائر لشد أزر محنة الشعب الجزائري حتى ولو قررت فرنسا إعدامي”، وهنا لا بد وأن نشهد للشيخ التبسي صموده وتضحيته التي ربما فاقت حتى بعض قيادات الثورة ممن خرجوا من الجزائر لما أحسوا بالخطر، أما الشيخ الإبراهيمي فإنه آثر الاشتغال بالعلم والتربية بدليل تفرغه لدار الحديث بتلمسان، أما عن الشيخ عبد الحميد بن باديس فيكفي أنه قال لشيوخ الزيتونة:

إنكم اهتممتم بالقواعد إلى حّد أن أصبحتم كالقواعد

ويقصد النساء، فالوعي السياسي الذي كان يتمتع به لم يكن يجاريه فيه أحد.

س: حدثنا عن التناقضات الإيديولوجية التي كانت شهدتها مرحلة التحضير للثورة الجزائرية ودور جمعية العلماء المسلمين في الثورة والتي اتهمت أنها تأخرت في الالتحاق بها؟

ج: كان بعض الشيوخ المحيطين بالشيخ عبد الحميد بن باديس يشتكون له بما يقوم به رجال الحركة الوطنية من حزب الشعب في دعوتهم للاستقلال ومقاومة فرنسا ومن أن هذه تصرفات مجانين ردّ عليهم “جنّوا مثلهم، جنّوا مثلهم”، وهذه رسالة واضحة للشباب المتكون باللغة العربية ليسير نحو هذا التوجه الذي لا بديل عنه، وفي الجانب الآخر وهذه من التناقضات الثقافية التي عشناها وهو أن الشباب المثقف باللغة الفرنسية والمنخرط في الحزب الشيوعي أرادوا أن يكوّنوا حركة وطنية ثورية كما فعل هوشي منه في الفيتنام، وبقوا على هذا الحال ليلتحق بهم شباب آخرون من جمعية العلماء ولكن هذا لم يحدث، فبقيت مأساتنا في الحركة الوطنية أن الذين بدؤوا في تكوين الحركة الوطنية والتحضير للثورة من مجلس 22 ومجموعة الخمسة ومؤتمر الصومام كانوا يحملون فكرا غير مرجعية جمعية العلماء المسلمين، وإنْ كنا نعترف أن أبناء الجمعية كانوا يعانون من تأخر في الوعي السياسي بحكم اشتغالهم بالتربية والإصلاح الديني الذي لا يقل أهمية في تكوين وعي الجماهير للدفاع عن حقوقها.

وقبيل الثورة كان الشيخ العربي التبسي ينتقد الحركة الوطنية، أما والدي فكان من أتباعها وكان يدور بينه وبين التبسي خلافات وتشنجات حادة ولكن مع اندلاع الثورة التحريرية أدرك الشيخ العربي التبسي الذي خلف الشيخ بن باديس على رأس جمعية العلماء المسلمين مقدار الخطإ الذي وقع فيه لمّا انتقد الحركة الوطنية ولكن فيما بعد راح يكتب المناشير ويعطيها للشباب من أجل توزيعها، بل وكان يبعث ببناته وطالباته للبيوت وللحمامات من أجل محاربة فكر الدروشة والخرافات ليدخل النساء في الحركة الإصلاحية، إذن الاتجاه الإصلاحي هو مخْلصٌ للبلاد حتى تخرج من التخلف السياسي والثقافي والفكري والمادي وفي الأخير وجد نفسه على موعد مع الثورة التي لا يجوز القول أنه تخلف عنها.

س: لنواصل الحديث عن مسيرتك في طلب العلم، كيف يلخص لنا الدكتور عبد الله شريط أهم محطة في حياته وهي التي قضاها في تونس بين سنة 1952 و1962، وعن توظيفه بديوان الرئاسة لدى بورقيبة؟

ج: كما ذكرت لك سلفا كنت قد ذهبت إلى تونس سنة 1938 ودرست فيها سنة واحدة وبعدها عدت إلى قسنطينة والتحقت ببعض مدارسها، ولما انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945 عدت إلى تونس مرة ثانية لأحصل على شهادة التطويع من جامع الزيتونة سنة 1946، وبمساعدة محمد خيضر سافرت إلى دمشق وبيروت والتحقت بالجامعة السورية سنة 1947 وفيها دخلت السنة الأولى في الأدب العربي، ولكن سرعان ما تحولت إلى قسم الفلسفة إلى أن تخرجت بشهادة الليسانس في الفلسفة سنة1951 وبعدها عدت إلى الجزائر، ولما لم أجد عملا انتقلت إلى تونس مرة أخرى سنة 1952.

أما عن سؤالك الذي تقدمت به فلقد سبق وأن طرحه علي حمراوي حبيب شوقي لمّا كان ينشط حصته الثقافية بالتلفزيون الجزائري، ففي إحدى مناسبات أول نوفمبر دعاني ليجري معي حديثا، وبعد ذلك قال لي: “سأطرح عليك ثلاث أسئلة، وأجبْني بدون تفكير، السؤال الأول هو أن تلخص لي تاريخ الحركة الوطنية في كلمة؟” فقلت له: “الحركة الوطنية إما يحكمها فردٌ مستبدٌّ أو ثلاثة لا يتفاهمون”، السؤال الثاني هو: “هل نحن قمنا بثورة أم بحرب تحرير؟” فقلت له: “نحن قمنا بحرب تحرير وليس بثورة، لأن الثورة تكون على دولة وطنية وليس على دولة أجنبية”، والسؤال الثالث نسيته…

وفي إحدى المرات من سنوات الثمانينيات دُعينا للاحتفال بذكرى أول نوفمبر بقصر الأمم وإذا بي تقع عيني على المرحوم محمد الشريف مساعدية برفقة عبد العزيز بوتفليقة وهما على انفراد في ركن القاعة، فسلمت عليهما وبعدما اقتربت منهما سألني مساعدية: “كيف وقد ظهرت على جميعنا علامات الكبر والشيخوخة إلا أنت؟” فأجبته: “أنا لا أريد أن أحكم في الناس مثلك” فرد علي بوتفليقة حينها: “أنت تحكم عليهم”، وفي ذلك إشارة إلى ما قلته عن الحركة الوطنية إمّا أن يحكمها مستبد أو ثلاثة لا يتفاهمون.

عودة إلى سؤالك، لما انتقلت إلى تونس التقيت بالحبيب بورقيبة الذي سبق وأن تعرف علي لما كنت أدرس بدمشق التي كان يزورها من حين لآخر وقد كنت أختلف معه بخصوص بناء المغرب العربي الذي كان لا يِؤمن به لأنه لم يكن يعتقد في يوم من الأيام أن الجزائر ستستقل عن فرنسا وبالتالي لا يمكن التعويل على هذا الأمر، فلما رآني في إحدى المجالس بتونس قال بصوت مرتفع هذا الذي زعيمه مصالي الحاج، فقلت له: “لا مصالي ولا أنت”، فقال: “ومن إذن، لا بد وأن تكون هناك شخصية تجسد الحركة الوطنية يلتف حولها الناس”، فقلت له: “أنتم كوّنتم لنا فكرة الحركة الوطنية ونحن نسير حولها ويمكن أن تكون أنت أو غيرك وهذا أمر لا يهم”، فرد عليّ: “لا، لا، لا، هذا لا يكفي” واستمر الخلاف بيننا، ولما دخلت للتدريس بمعهد علم النفس والفلسفة الذي أنشئ حديثا بجامعة الزيتونة وعند اندلاع الثورة الجزائرية في حدود سنة 1955 جاءت قيادة جبهة التحرير الوطني لإنشاء فرع لها بتونس فبدأت أكتب بجريدة “المجاهد” بعدما كنت بجريدة “المقاومة” وعملت “صوت الجزائر” مع عيسى مسعودي الذي كنتُ أملي عليه يوميا التعليق السياسي ليتلوه بالإذاعة، وهو من جانبه كان يهتم بالأخبار العسكرية، كما أنني كنت أقوم بافتتاحية بجريدة “الصباح” حول الوضع بالجزائر وفي نفس الوقت أقوم بمعرض الصحف إلى درجة أن جريدة “الصباح” لم تكن لتفارق الجزائريين ليقرؤوها، وفي هذه المرحلة جاءني الكاتب العام للرئيس بورقيبة وقد كانت تونس قد أخذت استقلالها من فرنسا، ليقول لي: “بورقيبة يعرض عليك أن تكون بديوان الرئاسة”، فتعجبت للعرض وقلت له: “متى كان يتم توظيف شخص أجنبي بديوان الرئاسة؟” فرد علي باللهجة التونسية: “أنت مخلط، جزائري تونسي، داخل خارج”، فقلت له: “لا أستطيع”، وكان هذا هو موقفي لأنني كنت بجريدة “الصباح” التي هي لصالح بن يوسف الذي كان معارضا لبورقيبة وفي نفس الوقت مؤيدا لجمال عبد الناصر الذي لم يكن على توافق مع بورقيبة.

س: إذن أنت استغربت لهذا العرض الذي كنت تظن أنه مناورة لإخراجك من جريدة “الصباح” التي كانت للمعارض صالح بن يوسف؟

ج: بالتأكيد هذا ما دار في ذهني فجريدة “الصباح” لم تكن لتؤيد بورقيبة وبالتالي لم يكن مني إلا أن بعثت برسالة إلى بن بلة الذي كان بليبيا وشرحت له الوضع، فنصحني بأن أبقى أواصل مهمتي في التدريس وألا أغادر جريدة “الصباح”، وبالتالي كان جوابي الصريح للشخص الذي نقل إلي عرض الرئيس بورقيبة لأعمل بديوان الرئاسة هو بشرط أن أبقى بجريدة “الصباح”، فوافق الرئيس بورقيبة ولم يعترض وقال: “إننا لا نطلب منك ذلك وإنما نحن في حاجة إلى خدماتك لتسوية بعض المشاكل التي بيننا وبين الثوار الجزائريين على الحدود، والذين كانوا يقومون بعمليات ضد الجنود الفرنسيين ثم يلوذون بالفرار إلى تونس وهذا الأمر أقلق تونس وهي حديثة عهد بالاستقلال”، ولكن استطعت من موقعي أن أقنع بورقبية بالسماح للجزائريين باستخدام الأراضي التونسية للنجاة بأنفسهم من القوات الفرنسية بعدما ذكرته بأن هؤلاء الشباب قد تعلموا قيم الحركة الوطنية على أيدي أمثاله، ولمّا تقع عينهم على صورتكم وهي معلقة لا يمسونها بسوء، فكان لهذا الكلام وقعٌ على قلبه وقال لي: “باهي، باهي، قل لهم يدخلوا”، ولم تدم مهمتي بالديوان سوى بضعة أشهر ثم عدت إلى مهنة التعليم لتدريس علم النفس إلى جانب عرْض صحفي من نصف صفحة طبعتْهُ مؤخرا وزارة المجاهدين، وقد كان هذا العمل حول كل ما يكتب عن الجزائر وبجميع اللغات، أعمل على ترجمته والتعقيب عليه وهكذا استمرت مهمتي وأنا أقيم بتونس إلى غاية سنة 1962.

س: بعد الاستقلال وعودتك للجزائر ما هي العلاقة التي كانت تربطك بمحمد خيضر الذي كان على خلاف مع بن بلة ثم عُـثِـر عليه فيما بعد مقتولا في جنيف سنة 1967؟

ج: كانت العلاقة بين بن بلة وخيضر مسمومة من أجل السلطة طبعا، وخيضر كان صديقي منذ الحركة الوطنية وكان يمتاز بالنزاهة، وفي تونس عملت مع بعض الزملاء لإصلاح ذات البين بين بن بلة وبن خدة ولم نفلح، وفي آخر جلسة بيني وبين بن بلة قلت له: “الشعب خرج للشارع يرقص ويغني فرحا بالاستقلال وأنتم تدخلون عليه بالحرب الأهلية، هذا غير معقول”، فرد علي: “ماذا تريدني أن أعمل؟”، فقلت له: “لا أحب أن يذكر اسم بن بلة في هذه الحقبة من التاريخ”، فسكت الرجل، وحينما دخلنا الجزائر وتم تنصيب المجلس التأسيسي ونصّب بن بلة رئيسا ليتولى خيضر مهمة الحزب، ناداني بعدها خيضر لأتولى الإشراف على جهاز الإعلام، الأمر الذي ترتب عليه علاقة عداوة فيما بيني وبين بن بلة إلى حد أنه أبدى معارضته لتعييني في المجلس التأسيسي بدعوى أنني أجهل السياسة ولا علاقة لي بها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أمر بإخراجي من الحزب وإنْ كنت غير راغب بالبقاء فيه ما دام فيه بن بلة، وحينما أعلمني بن بلة بهذا الخبر بمقر الحزب دخلت إلى مكتبي فإذا بي أجد فوق مكتبي رسالة من وزارة التربية فيها الرد بالموافقة على طلبي للالتحاق بالتعليم، فلبست معطفي وقفلت خارجا قاصدا وزارة التربية وقد كان الكاتب العام للوزارة آنذاك جلول بغلي وهو رجل فاضل فقال لي: “سنسند لك عملا بعيدا عن سلك الوظيف العمومي، لأنه لو قمنا بذلك ووقع اسمك أمام بن بلة سيطردنا جميعنا”، فرددت عليه “خيرا إن شاء الله، ماذا فعلت أنا حتى يقع هذا كله؟”، قال لي: “لست أدري، ولكن أنظر إلى هذا الرواق الطويل المظلم ستجد في آخره مكتبا على يمينك، أدخله وأغلق الباب على نفسك وقم لنا بتأليف الكتب المدرسية وفي آخر الشهر نمنحك المخصصات المالية من الصندوق السري للوزارة”، فكان مبلغ المخصصات الشهري آنذاك في حدود 120 ألف وهو مبلغ زهيد جدا وغير ثابت، وعليه رحت أتردد على الجامعة التي كان على رأسها ابن شنب رحمه الله والذي عرضت عليه رغبتي في التدريس بالجامعة بعدما أوضحت له أنني متحصل على شهادة الليسانس في الفلسفة من جامعة دمشق، ولكن رده كان سلبيا وقال لي: “لا يوجد لدينا مكان لك” ونفس الموقف تعرضت له مع عيسى مسعودي الذي كان على رأس الإذاعة رغم العلاقة القديمة التي كانت بيننا في تونس وأفضالي الكثيرة عليه، وبعد مدة من الزمن قُـبِـلتُ للتدريس الأدب بالجامعة.

س: أنتم بصفتكم أبناء وخريجي جمعية العلماء المسلمين، ماذا كان موقفكم من بن بلة لمّا وضع الشيخ البشير الإبراهيمي في الإقامة الجبرية؟

ج: والله يا أخي لم أكن أعترف من رجال جمعية العلماء إلا بشخصين اثنين وهما الشيخ بن باديس والعربي التبسي فيما بعد، ولم أهتم للشيخ البشير الإبراهيمي وذلك لما كان يتردد عن سلوكه مع الطلبة في القاهرة، وكيف أنه كان يستغل أوضاعهم، مع أخذي لهذا الأمر بكل تحفظ لأن آفة الأخبار روّاتها كما قيل، و لهذا تجد كتاباتي عن جمعية العلماء كانت عن الشيخ ابن باديس الذي عرف باهتمامه بالشؤون الفكرية والسياسية وعن الشيخ التبسي الذي اشتهر بالإفتاء والشؤون الدينية، أما عن الإبراهيمي فقلت بأنه اشتهر بالأدب وأنا بصفتي لست مّيالا للأدب، كما أنه اشتغل فيما بعد بالحديث وابتعد إلى تلمسان.

س: كيف كانت معركتكم كمثقفين مع السلطة السياسية في عهد الرئيس هواري بومدين؟

ج: في سنة 1974 أسّسنا اتحاد الكتاب الجزائريين وفي ذلك الوقت لم يكن لدينا لا كتبٌ ولا محلٌّ ولا مجلاتٌ، فرأينا أن نذهب إلى رئيس الجمهورية الراحل هواري بومدين لعرض الحال عليه، فاستقبلنا الرئيس بالهجوم قائلا: “بأن الجزائر مفتوحة على كل الورشات والناس تعمل وتكدح وأنتم رجال الثقافة لا تعملون أي شيء”، وأمام ذلك التهجم كان علينا أن ندافع عن أنفسنا وقلنا له: “سيادة الرئيس ميدان الثقافة هو بناء الإنسان وهذا عمل صعْـبٌ ومعقد، فإذا أردت أن تشتري طائرة فلا يلزمك سوى 24 ساعة من الوقت أما أن تكوّن لها طيارا فالأمر يتطلب منك سبع سنوات، وهكذا إذا أردت أن تبني مستشفى فيمكنك أن تشيّده في سنة أما أن تكوّن له الأطباء فهذا كذلك يتطلب منك سنوات طويلة”، وبعد ما قدّمنا شكوانا للرئيس وهممْنا بالخروج قال لنا الرئيس: “أنا أعدكم أن يكون الكتاب مثل الخبز”، فاتكأ عليَّ من كان برفقتي لا يحضرني اسمه الآن بالقول: “ربي يستر.. أخشى أن يتحول الخبز مثل الكتاب”، وأصارحك القول يا أستاذ فلاحي أننا لم نرد أن نختلق المشاكل مع الدولة بل ولم تكن لنا معها أصلا، وإنما اهتماماتنا كانت ثقافية بحتة وهو مشروع أكبر من إمكانياتنا ككُـتّاب وبالخصوص أن عددنا كان يعد على أصابع اليد، وهنا لا بد وأن أقول ربما الصحافة كانت أكثر حرية في البلاد العربية.

وبالمناسبة دعني أروي لك هذه الحكاية وهي أن الدكتور محي الدين عميمور كان يكتب في جريدة “الشعب” ومن ساعة لأخرى يكلمني في الهاتف ليعرف رأيي فيما كتب، ومن كثرة اتصالاته في الموضوع أقلقني فطلبت مقابلته في الرئاسة حيث كان مستشارا ثقافيا، وعندما التقيت به رويت له حكاية ذلك الراعي الرحالة الذي يتنقل من مكان لآخر بحثا عن العشب والمرعى لغنمه وإذا به في إحدى الليالي يسمع العتروس( التيس) يحدث نبيبا (لغويا: صوت التيس كما وجدته في المعجم)، ولما استيقظ الراعي في الصباح سأله عن سبب الصوت المزعج الذي يحدث بالليل والناس نيام، فقال إنه يبحث عن معزة ليطأها، فسأله مرة أخرى “وكم تنجب منك؟” قال العتروس: “مرة جديا واحدا ومرة اثنين” فرد عليه الراعي “اتبعني..”، ليريه في مكان غير بعيد خنزيرة (حلوفة) وبحولها 12 مولودا يرضعونها، فقال له: “أرأيت، كل هذا العدد تمّ بصمت”، وعليه قلت لـ “سي عميمور”: “أنا صدر لي 14 كتابا، هل في يوم من الأيام سألت طالبا رأيك في أي كتاب منها كما تفعل أنت، كلما كتبتَ مقالة إلا واتصلت لتسأل كيف أجدها؟” (وينهي الدكتور شريط هذه الحكاية بضحكات بريئة).

س: بمناسبة الحديث عن الدكتور محي الدين عميمور، على أي مقاييس اعتمد الرئيس الر احل هواري بومدين ليسند له هذا المنصب الحساس كمستشار ثقافي له، ودون أن ننتقص من قدره، ألم يكن يوجد غيره من المثقفين؟

ج: نعم صدقت إنه بالفعل منصب حساس، وربما أن عميمور كان العنصر الوحيد الذي يتحدث اللغة العربية بطلاقة وله علاقات مع الصحافة العربية والعالمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ُيعرف عن عميمور أنه إنسان مطواع ولا يحدث مشاكل، وإذا طلبت منه خدمة يقدم لك عشْر أمثالها.

س: هناك قضية مهمة وجوهرية كلما أثيرت إلا وورد اسمك فيها، حيث صرح في المدة الأخيرة الأستاذ عبد الحميد مهري ودعا إلى استثمار مناقشات الدكتور عبد الله شريط مع المناضل مصطفى الأشرف بخصوص المدرسة الجزائرية عام 1976 ورهاناتها التي لم تعرف الحل إلى اليوم، كيف توضح لنا ذلك وكيف يمكن أن نستثمر هذه المناقشات التي لا زالت تثير الجدل إلى اليوم؟

ج: رغم كل الذي تفضلت به إلا أن علاقتي بمصطفى الأشرف كانت طيبة، ولا يمكن أن ننكر أنه كان يكتب باللغة الفرنسية في الصحافة عن مأساة ومحن الشعب لجزائري بشكل ممتاز، وفي مؤتمر علماء الاجتماع العرب بزيغوت يوسف تقدمت بكلمة عن الأشرف كعالم اجتماع فريد من نوعه هنا في الجزائر، وحينما تولى وزارة التربية أول شيء قام به هو الكتابة ضد العربية وضد المعربين وضد المدرسة العربية بجريدة “المجاهد” الناطقة باللغة الفرنسية، فاستغربت لهذا الموقف وانتظرت إلى حين تتم الردود على ما يكتب دفاعا على العربية، ولما لم يظهر أي شيء من ذلك كتبت ردا على مقالاته الثلاث مقابل سبع مقالات بجريدة “الشعب” آنذاك، وبعد ذلك وقع نوعٌ من السجال والتنافس فيما بيننا، إلى حد أنك تجد في المقاهي جماعة المفرنسين يقرؤون ما يكتبه الأشرف في زاوية، وجماعة المعربين يقرؤون مقالاتي وهم جلوس في زاوية أخرى من المقهى.

ولما تصاعد الموقف بين الطرفين قصدت وزير الإعلام آنذاك السيد رضا مالك لأطلب منه ترجمة هذه المقالات من الفرنسية إلى العربية والعكس بالعكس حتى تعمم الفائدة للطرفين ولا تكون هناك قطيعة بينهما لأن القضية ليس فيها خصومة وإنما هو نقاش أفكار، إذن هذه القضية ولدت فيما بعد رد فعل عند المفرنسين إلى حد أن أشاعوا عني أنني أنا الذي جئت بمصطلح “حزب فرنسا” وبأنني رجعي ضد العصرنة والتطور، ولم يراعوا ما كتبته ضد كل هذه الصفات الموجودة عند المثقفين المعربين أنفسهم، ولكن يظهر أن المفرنسين يحملون ضدي حقدا تاريخيا منذ أن كنت بتبسة لموقف عائلتنا الوطني من فرنسا الاستعمارية.

س: المقالات السبع التي نشرتها بجريدة “المجاهد” ردا على الأشرف، هل ترجمت إلى اللغة الفرنسية؟

ج: نعم تم ترجمتُها ونُـشرت في كتيب، ولكن مع الأسف لم تعلق عليها لا الصحف الناطقة بالعربية ولا المفرنسة، ولم نسجل أي صدى لهذه الكتابات رغم أهميتها.

س: لماذا تمسك الرئيس الراحل هواري بومدين بمصطفى الأشرف رغم كل الاعتراضات التي كانت ضد سياسته التربوية؟

ج: لأن الأشر ف يمتاز بكونه وطنيا مثقفا.

س: وما مدى صحة ما يقال إن الأشرف وهو على رأس وزارة التربية عمل على تصفية المعربين من مؤسسات الدولة؟

ج: لا، هذه تمت فيما بعد وعلى يد رجل آخر وهو العربي بلخير في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد.

س: وصفتَ الأشرف بأنه كان وطنيا مثقفا ومخلصا، ولكن ما هو تعليقك على ما قاله عثمان سعدي في مقال له نشر بجريدة “الشعب” بتاريخ 28 أفريل 1992 من أن الأشرف أعطى حديثا صحفيا للصحفي سيدبول بالتا مراسل جريدة “لوموند” الفرنسية الذي نشره له في ملاحق الجريدة الشهري (لوموند التربية) عدد ديسمبر 1977، حيث صنف فيه، أي الأشرف، المناضلين في تاريخ الحركة الوطنية تصنيفا لغويا: “مناضلين حقيقيين، وهم المتفرنسون، ومناضلون خونة عملاء وهم المعربون”، ويقول:”إن أفضل المناضلين استعملوا لغة المستعمر ضده، بينما نجد الكثير من المعربين كانوا متعاونين مع الاستعمار..”..ما مدى صحة هذه الرواة التي نقلها الأستاذ سعدي؟

ج: هذه مبالغة كبيرة من الأشرف ومن عثمان سعدي، ولكن الشيء الذي أؤكد عليه وهو أن الأشرف بقدر ما كان مناضلا سياسيا، كان عدوا للغة العربية ثقافيا، ويعتبر المعربين هم الذين أضروا بالبلاد إلى درجة أن جعل اختلاف وجهات النظر بين جمعية العلماء المسلمين مع الحركة الوطنية هو خيانة للوطن وهذه مبالغة وتطرف في حكمه على جمعية العلماء، أما عثمان سعدي فإنه يقف في الطرف الآخر من التطرف بحيث أن المثقفين بالفرنسية كلهم خونة عنده سواء أكانوا وطنيين أو غير ذلك، لأن الوطنية عند سعدي تقاس باللغة كما أن الخيانة عند الأشرف تقاس باللغة، وفي ظل هذه المشاحنة كان علي أن أوجه كلامي للأخ سعدي بضرورة توحيد الجهود واستغلال كل طاقات المثقفين وبالخصوص أن عددهم قليل في بلادنا وهذا النزاع فيما بينهم لا يزيد إلا في تعفين الأوضاع بل ويتحول إلى فضيحة أمام العالم بحيث في جميع الدول العربية يوجد بها مثقفون باللغة العربية وآخرون بلغة أجنبية ومع ذلك بينهما حلقة اتصال وتواصل إلا عندنا بالجزائر فهذه الحلقة مفقودة وللأسف.

س: بحكم اهتمامكم بالحقل التربوي واشتغالكم بالتدريس، ما هو تقييمكم للمنظومة التربوية التي شهدت تحولات وتغيرات لم تستقر على حال ولمدة عقود من الزمن؟

ج: أظن أن الخلاف الذي كان بين المعربين والمفرنسين امتد إلى عهد الاستقلال وأخذ منحى آخر، فلكل له مدرسته وتكوينه، فجماعة المعربين جاؤوا من مصر والبعض الآخر من سوريا التي كان بها تكوين سياسي على مذهب حزب البعث القومي العربي الذي كان شعاره “أمة واحدة ذات رسالة خالدة”، ولذلك تجد المعربين عندنا وبكل براءة متعصبين للعربية، وأنا من جانبي كنت أتعاطى مع الموضوع بشكل معتدل أؤيد العربية ولكن لست مع المعربين، لأن المعربين يبدو لي أنه عندهم شحنة من العاطفة مضرة أكثر مما هي نافعة، الأمر الذي انعكس في ميدان التعليم فتم استبعادهم من المشاركة الفعالة في رسْم خريطة طريق المنظومة التربوية، ولهذا تجد اليوم المشرفين على المنظومة التربوية يسطّرون لك المنهج على الذهنية الفرنسية لأن ذلك في اعتقادهم يفتح للجزائر نافذة على العالم نحو الحداثة وبالتالي فقدنا أي إيديولوجية عربية.

س: سبق وحّدثتني أن آخر ما كتبت هو عن ثقافة الدولة، هلاّ وضحت لنا ما هي الأسباب التي دفعتك إلى طرح هذا الموضوع للنقاش؟

ج: يوجد عندنا الدولة كهيكل ولكن لا القائمين على هذه الدولة ولا من هم خارج ذلك يتمتعون بثقافة الدولة كسلوك، بل يوجد ثقافة القبيلة والجهوية والصحبة، وذلك مرجعه أننا تخلينا عن تكوين الإنسان الجزائري بعد الاستقلال، أما قبل ذلك فقد عملتْ جمعية العلماء المسلمين والحركة الوطنية على بناء الإنسان وتوعيته سياسيا وهذا الذي توقف بداية من يوم الاستقلال وذلك لأن الحركة الإصلاحية ذهبت للتوظيف بمراكز الشؤون الدينية والحركة الوطنية التي هي سياسية انخرطت في النشاط الحزبي الذي تحوّل إلى إدارة من إدارات الدولة، هي التي تنفق عليه وتمدّه بالمخصصات المالية وتكوّن المسؤولين وتنظم انتخابات الحزب، وكل هذا ذكرته بالتفصيل في كتابي الأخير حول ثقافة الدولة.

س: ما دام تخصصك هو في الفلسفة، بمن تأثرت من الفلاسفة والمفكرين؟

ج: من القدامى فلاسفة اليونان مثل أرسطو وبصورة أقل بأفلاطون، ومن الفلسفة الإسلامية قبل كل شيء بالمعتزلة، ومن الناحية الفكرية والثقافية في تراثنا عندي ابن خلدون هو المعلم الأول كما كان أرسطو هو المعلم الأول بالنسبة للثقافة اليونانية.

س: وماذا عن الآخرين مثل الفارابي وبن سينا والغزالي وبن رشد وغيرهم؟

ج: بالنسبة لهؤلاء الذين ذكرتهم فإن ميادينهم محصورة، أما ابن خلدون فلقد ركز حياته الفكرية كلها على المجتمع، أما المسائل الأخرى فقد أعطاها مساحة قليلة جدا في مقدمته المشهورة التي لم ننتبه لها إلا بعدما تنبه لها الأتراك ثم الأوروبيون فيما بعد، وعن ابن خلدون حصلت سنة 1972على شهادة دكتوراه دولة في موضوع بعنوان “الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون”.

س: منحك الرئيس الراحل هواري بومدين جائزة تكريمية مناصفة مع الأديب الطاهر وطار، ما هو رأيك في “عمي الطاهر” كروائي مثقف، علما أنه استعجلني لإجراء هذه الحديث معك بحكم تاريخك الطويل في الحركة الوطنية، وسجلك الزاخر في إثراء الثقافة الجزائرية التي ملأت مكتبتها بنحو 16 كتابا؟

ج: مع الأسف الشديد لا أتمتع بالذوق الأدبي لقراءة القصة والرواية، ولو أنه كان بودي قراءة روايات وقصص الأديب الطاهر وطار التي هي بالتأكيد جد مهمة، عدا أنه لا يوجد الكثير من أمثال الطاهر وطار كمثقف.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  لن تكون أية لغة "صعبة" بعد الآن بفضل هذا الاختراع الياباني الذكي كتب: بشير خلف        يُعدّ التحدث بلغة أجنبية مهارة مطلوبة ...