السبت، 2 مارس 2013

الأستاذ الباحث عبد العزيز برغوث ..


الأستاذ الباحث عبد العزيز برغوث ..
المختص في الدراسات الحضارية
بالجامعات الماليزية 

"حان الوقت لفسح المجال للإستراتيجيين الثقافيين وخبراء

صناعة الثورة الثقافية في الجزائر"

البروفيسور: عبد العزيز برغوث يعمل البروفيسور عبد العزيز برغوث كأستاذ جامعي مختص في الدراسات الحضارية ودراسات العولمة، ومُهتم بقضايا التفكير الإستراتيجي وضمان الجودة والتفكير الابداعي ودراسات الإسلام الحديثة.. ويعمل كمستشار لبعض المؤسسات والمراكز بماليزيا والعالم الإسلامي…

يتحدث البروفسور عبد العزيز برغوث، في هذا الحوار مع الشروق أون لاين حول قضية هجرة الأدمغة، معطيا تحليلا للظاهرة، ومقترحا بعض الحلول التي تخصّ الحالة الجزائرية، كما يتطرق لبعض القضايا ذات الصلة..
وقد التقته الشروق في إحدى الندوات العالمية التي جرت بتركيا، وربطت الاتصال به، فكان هذا الحوار:


س : حسب اعتقادكم، لماذا يضطر المثقف الجزائري والمبدع بصفة عامة إلى مغادرة الوطن لتستفيد منه دول أخرى؟ هل لكم أن تعطونا تشخيصا علميا دقيقا للظاهرة؟
ج : أرجو أن تسمح لي بتقديم إجابتين أولهما بسيطة وثانيها أكثر تأطيرا ومنهجية،الإجابة الأولى:بداية علينا أن نفرق بين المثقف أو المبدع المضطر -كما أشرت في سؤالك- لمغادرة الوطن، والمثقف أو المبدع الذي يبحث بنفسه عن الفرصة للمغادرة لأهداف معينة مثل: البحث عن حياة أفضل أو راتب أكبر أو تغيير الجو أو البحث عن فرص للإبداع والتأثير أكثر يرى أنها لم تُتح له في الوطن الأصل. فجوابي لن ينصب على هذا النوع الثاني وإنما يركز على النوع الأول -أي- المثقف والمبدع المضطر للمغادرة. إذ أن كلمة "الإضطرار" هنا أساسية، أي أنه يرغب في خدمة الوطن، ولكنه أُجبر على المغادرة لأسباب كثيرة سنذكر بعضها لاحقا.
إن هذا الأخير يعكس لنا مشكلة مركزية في ثقافة ما بعد الاستقلال برمتها، وفي الإستراتجية الثقافية للمجتمع، وفي تجاذبات الفعل الثقافي وديناميكيات النهوض الثقافي كشرط للتنمية الحضارية الشاملة، وفي آفاق العمل من أجل بناء الدولة والمجتمع القادر على توفير الحياة الكريمة للمواطن الجزائري بغض النظر عن انتماءاته الحزبية والإيديولوجية والفكرية العامة.
وهذه المشكلة تتمظهر في أمور مثل: الخلل الملاحظ في تعريفنا للمثقف والمبدع نفسه والصلات القائمة بين المثقف والدولة والمجتمع والشعب، والخلل الواقع في فلسفتنا لدور المثقف والمبدع ورسالتهما في المجتمع وفي بناء الدولة، وفي المناخ والجو الذي نوفره لهذا المثقف أو المبدع، إلى غير ذلك من المظاهر الأخرى التي لا تقل أهمية عما ذكرنا.

س : هل لكم أن تبسطوا لنا هذا الكلام ؟

ج : بالمختصر المفيد نقول: أن مشكلة المثقف والمبدع هي بالدرجة الأولى مشكلة المجتمع، ثم مشكلة الدولة، ثم مشكلة المثقف نفسه، ثم مشكلة الثقافة الحضارية برمتها. والحل بالدرجة الأولى نجده عند المجتمع والدولة والمثقف وفي الثقافة الحضارية. والمطلوب أن ننسق جهود المجتمع والدولة والمثقف من أجل تنمية الجزائر هذه التنمية الحضارية التي ستكون من المداخل الحاسمة لحل المشكلات والتفاعل مع الصعوبات والعوائق والتحديات والمخاطر المحدقة بنا مجتمعين ومتكاملين وبكل فعالية وإبداعية وحزم…
والإجابة الثانية؟
ظاهرة هجرة الأدمغة عموما ليست غريبة تماما عن المجتمعات الإنسانية، فهناك عشرات المجتمعات التي تتدفق منها الأدمغة المبدعة والمتمكنة إلى مناطق الحيوية الحضارية والمراكز الإبداعية في الغرب وأوربا واليابان وغيرها. ومن الناحية التاريخية العامة هذه ظاهرة لها إيحابيات كثيرة، كما أن لها سلبيات متعددة. ويمكن الاستفادة من ايجابياتها إن كان هناك تخطيط موجه؛ بحيث تتحول هذه الهجرة إلى نقل للوعي والخبرة والذكاء الحضاري من مراكز الإبداع والفاعلية إلى الجزائر مثلا.
وما دمت قد طلبت مني تقديم تفسير دقيق للظاهرة فاسمح لي ببعض الإستطراد الذي يهدف إلى وضع إطار تحليلي مساعد في النظر الموضوعي.
بداية ينبغي ملاحظة أن الحالة الجزائرية بالذات تكاد تكون خاصة في موضوع هجرة الأدمغة.
والإشكال المركزي هنا هو صعوبة فهم كيف أن مجتمعا مثل الجزائر بوضعه الحالي وظروفه المأساوية التي عاناها؛ حيث أنه أُستعمر لأكثر من 130 عاما استعمارا ثقافيا وفكريا ومعنويا وماديا بغيضا، ثم دخل في ثورة التحرير المجيدة من أجل الاستقلال، ثم أعقبتها ثورة ما بعد الاستقلال بحثا عن التنمية والتقدم في ظل سيطرة مفاهيم مختلفة للحكم والتسيير وإدارة الدولة والمجتمع، ثم وقع في شراك الحرب الأهلية المدمرة في فترة التسعينيات من القرن الماضي (إلى أن منّ الله عليه بالمصالحة التي نرجو أن تكتمل حلقاتها وتأتي ثمارها المنشودة!)…فمجتمع في هذا الوضع بالمنطق العادي البسيط يحتاج إلى طاقات كل أبنائه ليحقق قفزة استراتيجية مخططة وموجهة بالدرجة الأولى إلى التنمية الحضارية الشاملة؛ وخاصة إذا علمنا أن هذا المجتمع غني بالإمكانات المادية والطاقات البشرية وغني بتراثه الكفاحي، وخبرته الحضارية منذ قرون طويلة جدا، ومتميز بتنوعه الثقافي وكثرة مشارب الإثراء فيه.
والمنطق يقول أنه ما دام هذا المجتمع في طور التنمية، فإن طاقات المثقفين والمبدعين الجزائريين ينبغي أن توجه كلها باتجاه تحقيق الهدف الذي لا يخص طبقة معينة بعينها، ولكن المجتمع الجزائري بأكمله.
ومن هذا المنطلق يمكن القول أن النجاح في استقطاب المثقف والمبدع ودمجه في المشروع الكبير لبناء الجزائر المتقدمة يحتاج ومنذ البداية إلى شرائط ومقومات منها: توفر رؤية استراتيجية لموقع المثقف والمبدع ودورهما في بناء المجتمع.. وتوفر مشروع ومخطط عملي واقعي تتحدد فيه الأدوار والأهداف والحصائل المتوقعة والميكانيزمات التطبيقة الكفيلة بإنجاح دور المثقف والمبدع داخل المجتمع …والتزام واضح وصريح من الدولة تترجمه قرارات سياسية وثقافية حاسمة تؤطر وضع المثقف والمبدع وتحميه من كل أنواع التعسفات التي قد تؤدي إلى اقصائه وتهميش دوره الحقيقي لا الوهمي، إلى غير ذلك من الشرائط التي يجب أن تتوفر كخلق اللحمة الحميمة بين المثقف والمبدع والدولة من جهة وبينهما وبين المجتمع والشعب من جهة أخرى…

س : وحسب إعتقادكم، أين الحل في خضم كل ما ذكرتم؟
ج : الحل الجذري الشامل، في اعتقادي، يكمن في علاج أربع مشاكل أساسية:
1. مشكلة الإستراتيجية الثقافية والإبداعية للدولة والمجتمع وآفاقها الحضارية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
2. مشكلة خلق البيئة والمناخ اللازم لتحقيق سقف إبداعي ذي تأثير محلي وإقليمي وعالمي، واستقطاب المثقف والمبدع داخل المجتمع بما يعنيه ذلك من توفير لشروط الإبداع، بدءا من احترام المبدع إلى شروط عمله إلى حقوقه وواجباته إلى الاستفادة من ابداعه واستغلاله لتنمية المجتمع…لأن المثقف والمبدع الحقيقي يبحث دوما عن شرائط ابداعه ووسائل تحقيق ذلك الإبداع؛ فإذا انعدمت أو قلت في مجتمعه، فإنه يبحث عن بيئة أخرى يتمكن فيها من تحقيق ذاته وكسب الاعتراف له ولنتاجه وتقييمه بصورة عادلة ولائقة ماديا ومعنويا…
3. مشكلة المثقف والمبدع ذاته وشرائط إبداعهما …
4. مشكلة القيمة الحضارية لما ينتجه المثقف أو المبدع وتأثير ذلك النتاج وقدرته على إضافة قيمة معنوية ومادية للمثقف نفسه ولمجتمعه…

س : بالمختصر المفيد، أين يكمن مفتاح الحل الأساسي؟

ج : باختصار، يكمن مفتاح الحل الأساسي في التفكير الإستراتيجي، ومن ثم التخطيط الإسترايتجي ومن ثم التوجيه الإستراتيجي الرشيد للإمكانات المادية والبشرية والوسائل المتاحة من أجل خلق القيمة الحضارية للمثقف والمبدع، ومنها نصنع التنمية المخططة التي تجعل من المبدع الجزائري والمثقف الجزائري رائد التنمية الحضارية الشاملة سواء أكان داخل الجزائر أو غادرها لخدمة الجزائر في أي مكان كان. لابد من رؤية إستراتيجية توضح لنا النموذج والصورة والواقع والهدف والوسيلة والبرنامج والخطوات المطلوبُ القيام بها لصناعة الثقافة والإبداع في 25 سنة القادمة. لابد من أن نعطي الفرصة للإستراتيجيين الثقافيين، ولخبراء صناعة الثورة الثقافية والإبداعية ليقولوا كلماتهم، وبعدها تقوم الوسائط الإدارية والاعلامية والثقافية والسياسية والاقتصادية بتطبيقها من أجل التنمية الحضارية التي تُشعر المبدع والمثقف الجزائري بالأمان والإطمئنان، وتدفع به إلى المساهمة الفاعلة في بناء الجزائر الحديثة وكذلك خطة الطريق الصحيحة لبناء جزائر مستقبل الأجيال القادمة.
س : صدر مؤخرا لإحدى الهيئات العربية تقريرا، صنفت فيه الجزائر كأول دولة عربية من حيث "تصديرها" لأدمغتها، قبل المغرب الأقصى ومصر، حيث قال التقرير أن ما يعادل اكثر من 2500 من هؤلاء غادروا الوطن ولم يعودوا، كيف تقرأون هذه الارقام؟ وما تعليقكم عليها؟
ج : هذه الأرقام مزعجة للغاية والمتوقع أنها ستزيد بشكل هائل في السنوات الخمس القادمة، وخاصة إذا لم نتدارك الوضع على ثلاث جبهات على الأقل. الجبهة المعنوية والروحية الخاصة بالمثقف والمبدع. والجبهة المادية الخاصة بحياة المثقف والمبدع. والجبهة الإستراتيجية والتوجيهية والإدارية المتعلقة بصناعة الثقافة والإبداع من أجل التنمية. إذ لابد من تجديد شامل لصناعة الثقافة والإبداع في مجتمعنا، وأن يكون تخطيطنا ممتدا إلى 25 عشرين عاما إذا ما كنا جادين في التنمية الحضارية المخططة والموجهة.
وأما تعليقي فهو أننا نستطيع حل المشكلة بمزيد من التغيير في البناءات الذهنية، والتأطيرات الثقافية والتربوية، والإرادة السياسية والتوجيه المالي والاقتصادي، والتقوية الروحية… ولكن لابد من خطة مبرمجة لتحقيق ذلك على المستوى القريب والمتوسط والبعيد.

س : ما الذي يجب توفيره، حسب اعتقادكم، لهذا المثقف والمفكر والمبدع حتى يبقى ببلاده ويهب خبراته لوطنه؟
ج : واضح أنه من خلال إجابتي السابقة أن هناك أشياء كثيرة ينبغي توفيرها منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو تربوي ومنها ما هو إعلامي… ولكن إسمح أن أقول وحسب معرفتي المتواضعة بالإنسان الجزائري وعطائه وتضحياته عبر التاريخ أن المطلوب الأساسي هو الإحترام والقيمة والتكريم لشخص المبدع والمثقف وللرسالة وللأفكار التي ينتجها، وتحرير عقله ووعيه، ليركز في الإبداع وتنمية المجتمع الجزائري أولا ثم تأتي بعدها الجوانب الأخرى المهمة كذلك.
وأريد أن أؤكد لك هنا أن العامل المادي والمالي وحده لا يستطيع أن يفسر ظاهرة هجرة الأدمغة وحده وفي كل الحالات، فهناك مثلا حالات تتوفر لها الأموال والدخل الكبير جدا ولكنها تهاجر لأسباب أخرى منها: النظام السياسي، والمناخ الإبداعي، وآفاق الإبداع وحدوده، وتأثير الإبداعات، والقيمة الاجتماعية المعطاة للمبدع في سلم القيم، وطبيعة النظام التربوي، ومنظومة المعرفة داخل المجتمع، وديناميكات صناعة الثقافة وغيرها كثير…

س : هل هناك دراسات نُشرت أو أُلفت، تشرح فيه الاسباب الموضوعية لهجرة الادمغة الجزائريين خاصة؟
ج : الذي أعرفه أن هناك بعض الدراسات وكذلك بعض التحليلات المنشورة من قبل جامعة الدول العربية ومؤسسة العمل العربيةوغيرها، إلا أنني لم أطلع على دراسات علمية منهجية منشورة تعالج بطريقة موضوعية معمقة هذه الظاهرة وتداعياتها على أمن الوطن الثقافي والاقتصادي والعلمي والإبداعي على المدى المتوسط والبعيد …
س : في نفس السياق، إلى أي مدى يمكن لعامل الوطنية أن يلعب دورا في تحديد وجهة هؤلاء؟ وهل تعتقدون حقا أن هناك شرخا في منظومة القيم لديهم؟
ج : عامل الوطنية لا يعدو أن يكون عاملا من العوامل التي لها تأثير على شرائح معينة من المثقفين والمبدعين، ولكنه لا يقوى وحده لمواجهة مخاطر ظاهرة معقدة للغاية لها صلة كبيرة بما يحدث في الداخل والخارج وبالاتجاهات العامة للحضارة البشرية في مرحلتها الحالية المتصفة بالعولمة والعالمية والسرعة ومجتمعات المعرفة والذكاء الاقتصادي والننو-تكنولوجي…
والقضية هنا هي أنه ينبغي أن نفهم ديناميكات هجرة الأدمغة في عصر العولمة التي تفتح الآفاق والفرص، وترسخ أهمية المعرفة والمعلومة والذكاء في تسيير الاقتصاد والسياسة… وعامل الوطنية يبقى أسيرا إذا لم تحدث تغييرات في نظام تسيير المجتمع برمته، ونظام صناعة الثقافة والإبداع، ونظام القيم داخل المجتمع وأين نضع موقع المثقف والمبدع في هذا النظام القيمي، وكيف ستتحول المنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاعلامية والتكنولوجية والتقنية إلى عوامل فاعلة في صناعة الفضاء الإبداعي داخل الجزائر؛ بحيث لا نضمن فقط بقاء المثقف والمبدع الجزائري في الجزائر لخدمتها بل نتعدى ذلك إلى تحويل الجزائر إلى بؤرة استقطاب حيوية لجلب الأدمغة من الغرب ومن الشرق وخاصة من بلدان العالم الإسلامي.
وباختصار نحن نحتاج إلى خطة إستراتيجية طويلة المدى لصناعة هذا الواقع وإعادة ترتيب نظام تسيير المجتمع بطريقة تكون نتيجته الأولى خلق الواقع الذي يشعر فيه المبدع الجزائري بالقيمة، والذي يوفر له كل شرائط الإبداع والبقاء والاستمرار والعطاء المؤثر محليا ودوليا. وبعبارة أخرى علينا أن نعالج هجرة الأدمغة الجزائرية بتنمية الجزائر، وكما تعلم أن التنمية تأتي كنتيجة منطقية لتغييرات وهندسات تطول البنية الذهنية والثقافية والسلوكية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والقيمية للإنسان والمجتمع والدولة على حد سواء…لابد من خطة إستراتيجية لإعادة ترتيب نظام تسيير المجتمع كما قلت سابقا…

س : قد يقول أي قارئ أن ما تفضلتم وقلتموه في هذا الحوار، لا يعدو أن يكون مجرد تنظير لن يغير من واقع الناس شيئا، هل هذا الكلام يصلح حقا أن يستفاد منه ويتحول إلى برامج في ظل الواقع الجزائري؟
ج : سؤالكم هذا متوقع جدا وهو في ظل ظروفنا وأوضاعنا النفسية والثقافية والتنموية طبيعي . ولكن الحقيقة التي ينبغي تأكيدها هنا هي أن تحقيق أي شيئ عمليا وتقديم انجازات تؤثر في المجتمع عادة ما تمر بمرحلة التنظير أو التأطير النظري الذي يحدد على الأقل المداخل السليمة لعلاج المشكلات. وعلى الرغم من تعقد الواقع الجزائري إلا هذا المجتمع لديه قدرات وكفاءات ومؤهلات أكيدة تمكنه من النهوض والتنمية. ولكن ما يؤسف له في هذه اللحظة هو أننا مازلنا لم نمتلك قدرات التنمية المستدامة المبنية على المعارف والخبرات الحديثة في الإدارة والتنمية والتوجيه والتخطيط والتنفيذ والتقويم وعلاج المشكلات.
وهناك مجتمعات تواجه مشكلات وأوضاع أكثر تعقيدا من الجزائر، ولكن بدأت تجد طريقها إلى النهضة والتنمية وهي أقل إمكانات ومصادر وخبرة وتراث وتاريخ من الجزائر. نحن نحتاج إلى إعادة الأمل والاحترام للإنسان الجزائري، وننتقل من منطق إطفاء الحرائق إلى منطق صناعة الأحداث، ومن منطق علاج الأعراض والمظاهر إلى منطق التعامل مع أصل المشكلات حتى ولو كان ذلك مؤلما لبعضنا، إذا لابد أن نضحي لكي نبني مجتمعنا. فهل نحن كدولة وكمجتمع مستعدون للتضحية بأعز ما نملك من المناصب والأموال والمكاسب من أجل المجتمع. إن هذا الأمر يستدعي تغييرات معقدة جدا لا أظن أننا في أوضاعنا الراهنة مستعدون لذلك. ومثال لهذه التغييرات المطلوبة ما ذكرته بعضه في هذا الحوار.

س : إلى أي مدى تعتقدون أن دول العالم الثالث، والجزائر دولة منهم، تهتم بهذا النوع من الكلام ليجسد على أرض الواقع، أو سيؤخذ بعين الاعتبار؟ وهل يحق لنا أن نحلم بهذا اليوم؟
ج : إن قدر من يريد أن ينهض ويحقق التنمية الحقيقة والمؤثرة هو هذا الطريق الذي نراه اليوم مثاليا وخياليا وكأننا نتحدث عن علم الطلاسم والجفر. والأمر المعلوم في علوم النهضة والتنمية أن المجتمعات المتخلفة ينبغي أن تمر بمخاض عسير جدا لكي تجد طريق نهضتها، ولكن ينبغي أن لا يطول وقت إيجاد الطريق وإلا تحول الأمر إلى مرض كما نراه اليوم في الكثير من دول العالم الثالث التي بقيت في تيه التخلف متلذذة به دون أن تعي أن الرجال والأوقات والإمكانات التي تمتلكها تتبدد بشكل فضيع دون إحساس بما ينتظر الأجيال المقبلة من متاعب إذا لم ننم مجتمعاتنا الآن وبشكل سريع جدا جدا. لابد من تغيير السياسات والذهنيات والنفسيات والقوانين وطرق الإدارة والعلاقات بين الدولة والمجتمع…لكي نخلق بيئة التنمية الجماعية التي ندخل فيها جميعا في صناعة نهضتنا.
والمختصر المفيد هو أننا نستطيع أن نحلم بهذا اليوم (لأن الأحلام مازالت ملكا لنا)، ولكن إذا بدأنا التغيير اليوم وبشكل سريع لأن ديناميكات العولمة في مراحلها المتقدمة والآتية ستكون أكثر تعقيدا وأكثر فضاعة وبشاعة، وخاصة لمن لم يمتلك البنى التحتية والقثادر البشري العد عقليا ومهاريا، والإمكانات المعرفية والتكنولوجية، والبيئة الاقتصادية والسياسية المؤهلة للتفاعل والإستفادة من خبرة العالم.

س : تتحدثون كثيرا عن الخطط الإستراتيجية، هل ترون أنه يوجد من المتخصصين الجزائريين من له القدرة على فهم الواقع الجزائري، وله من علو الكعب في تخصصه ما يسمح له بتوليد الحلول لمشاكل المجتمع والدولة الجزائريتين، أو ما أسميتموه بـ "نقل الوعي والخبرة والذكاء الحضاري" ؟
ج : نعم، هناك من الخبرات الجزائرية القادرة على العطاء وفي الكثير من المجالات، ولكن ينبغي معرفتها وإتاحة الفرصة لها بعيدا عن عقلية الإقصاء، وإهانة الخبرات وعدم الإكتراث بها. ولابد للدولة أن تضع إطارا وآلية عملية للإستفادة من الخبرات حتى ولو كلفها هذا دفع الملايين من الدولارات التي ستعود عليها بالتنمية؛ وبالتالي بالبلايين من الدولارات إذا ما كنا نقيس الأمور بالأموال وبالمقابل المادي.
س : لو أطلب من معاليكم، أن تصفوا لنا الفرق بين ماليزيا والجزائر من حيث الاهتمام بالبحث العلمي، ومن حيث التخصصات العلمية الموجودة في كلا البلدين؟
ج : الحقيقة ماليزيا بلد إسلامي يسير على طريق التنمية بتخطيط وإسترايتجيات واضحة ومدروسة. وإذا ما قارنا إمكانات الجزائر البشرية والمادية والجغرافية وغيرها بماليزيا فإن الجزائر تفوقها بكثير. ولكن إذا ما نظرنا بمنطق الفعالية الحضارية والتنمية الشاملة والإنجازات الميدانية، وبمنطق نسب البطالة والفقر، والدخل القومي والإستثمارات الخارجية، ونظم الإدارة، وخبرات تسيير المجتمع، ومهارات اليد العاملة، والنظام المالي والبنكي، والنظام الضريبي وفعاليته، ونظام التعليم وقدراته على تخريج الخبرات والكفاءات التي يحتاجها المجتمع والاقتصاد…وغيرها نجد أن الجزائر مازالت بعيدة عن ماليزيا. والمؤسف عندي أننا نستطيع بإمكاناتنا المتوفرة أن نكون أحسن بكثيرمنها، وأتمنى أن نستدرك الأمر، بالتوجه وبسرعة قياسية إلى السياسات والإستراتيجيات التي تحقق التنمية، ولا تكتفي بعلاج الأعراض وإطفاء الحرائق التي لا تنتهي في الجزائر وعلى كل الجبهات، والتي _حسب المؤشرات الحالية _ سوف تستمر وتزيد في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد.
وإذا ما أخذنا المثال الذي أشرت إليه وهو البحث العلمي فإن الاهتمام هنا منقطع النظير لأن المجتمع مجتمع معرفي يخوض معركة الاقتصاد المعرفي والذكاء الاقتصادي والتقني في سياق المشروع الحضاري العام لتنمية المجتمع وفق رؤية محددة تسمى 2020 وبالتالي فالبحث العلمي بالنسة له مسألة بقاء أو فناء وليس ترفا عقليا أو مجرد نشاط لإنفاق الأموال المخصصة لمختبرات البحث. فالاهتمام بالبحث العلمي لا يظهر فقط من خلال الميزانية الضخمة التي ترصد للبحث، ولكن يبرز في طبيعة البحث، ومحالاته الحيوية، ونوعية الأبحاث المطلوبة في مرحلة التطور الحالية والمقبلة، وفي ارتباط البحث بالمجتمع وتطوره وبالاقتصاد وحاجاته وبالتنمية ومتطلباتها، وبقدرة الباحثين ونوعيتهم وفي تكوينهم وقدراتهم البحثية العالمية. إذا يمكنك أن تنفق البلايين في البحث العلمي ولكن قد لا يكون لذلك أثر في تنمية المجتمع لعدم توفر الشروط الأخرى غير الأموال.

س : إلى أي مدى يمكنكم أنتم الأكاديميون الجزائريون، والذين تستفيد من طاقاتهم دول أخرى أن تكوّنوا رابطة تلم شملكم، أو منتدى يعرف ببعضكم البعض؟
ج : أتمنى أن تكون هناك مبادرة بهذا الإتجاه يكون هدفها المساهمة في تنمية الجزائر. وأتمنى أن تبادر الشروق إلى مثل هذا الأمر، حتى ولو كان في البدء عن طريق مثل هذه الحوارات مع القيادات والخبرات الجزائرية المرموقة والتي تشارك اليوم في تنمية الكثير من البلدان، ثم منتديات ثم ملتقيات ثم تشكيل إطار قانوني وإداري لمثل هذه المبادرات. وأتمنى أن أكون من المساهمين في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشروق اليومي: 09/09/2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  لن تكون أية لغة "صعبة" بعد الآن بفضل هذا الاختراع الياباني الذكي كتب: بشير خلف        يُعدّ التحدث بلغة أجنبية مهارة مطلوبة ...