جاء “نعي ” التلفزيون الجزائري لوفاة العالم والكاتب والمؤرخ الجزائري والإعلامي ـ الإذاعي ـ عبدالرحمنالجيلالي صبيحة يوم الجمعة 12/11/2010 باردا وعابرا،كالعادة عندما يتعلق الامر بأعلام الوطن ورجالاته الكبار ولم يخصص له سوى دقائق معدودات ،و”بورتريه”كئيب …لايكاد يغطي “شيئا” من حياته الحافلة،وجهوده الرصينة، وآثاره الكثيرة المتنوعة..وذلك دأب وسائط الإعلام الثقيلة عندنا للأسف، تخصص للأمور التافهة ساعات وساعات ، ولا تكاد “تسمح”سوى بدقائق للأمور المفيدة والجليلة …ومنها إلقاء الضوء الكاشف على عظمائنا وأعلامنا ـ في مختلف مناحي النشاط الإنساني والعلمي والديني ,,,ـوفي سبيل إعطاء “لمحات” وافية عن حياة هذا المثقف النموذجي الموسوعي نرصد فيما يأتي بعضا من جوانب حياته التي طبعتها الحيوية وكان هدفها “الإنجاز”في مختلف الميادين …تقبله الله في الصالحين ورحمه رحمة واسعة .
******وُلد الشيخ العالم والمؤرخ عبد الرحمن بن محمد الجيلاليسنة 1908، بالجزائر، ودرس على عدة شيوخ في المساجد والزوايا، ومنهم عبد الحليم بن سماية الذي كان من منتقدي النظام الاستعماري رغم أنه كان أستاذا في إحدى المدارس الرسمية، كما تتلمذ الجيلالي على الشيخ المولود الزريبي الأزهري الذي كان مصلحا ثائرا، وكان الزريبي قد تخرج من الأزهر وعاد إلى الجزائر ليدعو إلى النهضة والإصلاح ولكنه واجه العقوق والركود. كما درس الجيلالي على الشيخ الحفناوي صاحب (تعريف الخلف)، الذي كان من رجال الدين الرسميين ومن الصحفيين الذين عملوا في جريدة المبشر الرسمية طويلا. ودرس الجيلالي على الشيخ محمد بن أبي شنب أيضا. ومهما كان الأمر فإن ثقافة الجيلالي كانت عصامية، وشملت التعمق في القرآن والحديث والأدب والتاريخ والفقه. وقد تولى التدريس بدوره في مدرسة الشبيبة الإسلامية أثناء إدارة شاعر محمد العيد لها خلال الثلاثينات. ولم يكن نشاطه بارزا لولا بعض المقالات القليلة في الشهاب، وكتابه في ذكرى محمد بن أبي شنب سنة 1933.
درس الجيلالي في المساجد الآتية بالعاصمة: الكبير والجديد وسيدي رمضان والسفير( صفر) وكذلك في مدرسة الإحساس ومدرسة الهداية، ومن تآليفه المخطوطة: فن التصوير والرسم عبر العصور الإسلامية، والمستشرقون الفرنسيون والحضارة الإسلامية، وفنون الطلاسم وسواها .
الشيخ عبد الرحمان الجيلالي… أكثر مائة عام في رحاب القرآن
انطفأت حياة الشيخ الجيلالي عن عمر تجاوز المائة عام (103)، ولكنه بعلمه وعمله ”أنار” على مدار حياته الخصيبة آلاف الشموع التي لا تنطفئ لتنير دروب الجزائريين- وغير الجزائريين ـ في أرضهم الطيبة بضياء الإسلام. انبعث صوته عبر أثير الإذاعة على مدار سنوات طويلة، فاخترق القلوب والعقول بكلام الحق، كما تحولت طلعته البهية عبر شاشة التلفزيون ليلة الشك إلى شقيق لهلال رمضان ترقبه كل العائلات الجزائرية لتبدأ شهرها الفضيل. وإن كنا نعرفه فقيها عالما بأمور الدين، فإننا لانعرفه مؤرخا، أديبا ومفكرا يستحق التجلة والإكبار والذكر. هو فضيلة الشيخ العلامة عبدالرحمان الجيلالي الذي تفضل باستضافة الشروق بمعهد الإطارت الدينية ليؤكد أن صحته بخير، وأنه هزم السنين بألق الشباب
العاصمة ملهمته الأولى
ولد الشيخ العلامة عبد الرحمان الجيلالي سنة 1908 بالجزائر العاصمة، وكانت هذه المدينة العريقة في بدايات القرن الماضي فضاء خصبا لنشاط ثقافي وديني غني قاده أعلام من الفقهاء والأدباء والكتاب، من أمثال الشيخ محمد السعيد بن زكري الزواوي المتوفى سنة 1914، الذي كان مدرسا بالجامع الأعظم وإماما بجامع سيدي رمضان بالقصبة ومفتيا شهيرا على المذهب المالكي، وكذلك الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان يشرف على تسيير الحركة التعليمية بالمدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي كان مقرها بنادي الترقي بساحة الشهداء بالعاصمة، والذي كان ملتقى للنخبة المثقفة، حيث كان يحتضن أمسيات ثقافية كان ينشطها أعلام من أمثال الشيخ الطيب العقبي والشيخ العربي التبسي وغيرهما من المشايخ رحمهم الله أجمعين.
يعود نسبه إلى الحسن بن علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما
يعود نسب الشيخ عبد الرحمان الجيلالي إلى آل الشجرة الموسوية القادرية وفروعها الأشراف القاطنين بسهول متيجة، وتصل سلالتهم إلى مولانا عبد القادر الجيلالي سليل الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ويوجد ضريح الجد عبدالقادر الجيلالي المتوفى سنة 1077م ببغداد بالعراق، وله آثار علمية مطبوعة مثل كتاب الغنية لطلب الحق والفتح الرباني والفيض الرحماني وجلاء الخاطر في الباطن والظاهر، وكذلك كتاب آداب السلوك والتوصل إلى منازل الملوك، وغيرها. وللشيخ عبد القادر رحمه الله تلاميذ بالجزائر، منهم القطب الرباني الغوث سيدي أبي مدين شعيب الإشبيلي المتوفى سنة 1198 والموجود ضريحه بتلمسان.
تخرج في أعرق المساجد بالعاصمة
كان الجامع الكبير وجامع سيدي رمضان بالعاصمة ومسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي روضات للعلم والتفقه في الدين الإسلامي، فكان الشيخ عبد الرحمان الجيلاليواحدا من الذين تلقوا تعليمهم الديني منها، وقد تناولها بالدراسة في العديد من الأبحاث التي صنفت هذه الآثار ضمن المعالم الإسلامية الأكثر أهمية في الجزائر العاصمة، حتى أنه أعد دراسات دقيقة ركز فيها على فنياتها المعمارية والصناعية الدقيقة، وهو مافتح له باب البحث والتعمق في دراسة حركة المجتمع الجزائري السياسية والعلمية حتى باتت كتاباته في هذا المجال مرجعا للدارسين والباحثين لما تتميز به من دقة وشمولية، ومنهم الباحث المستشرق الفرنسي الشهير جورج مارسي.
الشيخ خبير في فن الموشحات الدينية
كان الشيخ بوقندورة مفتي المذهب المالكي بالعاصمة يعقد حلقات للذكر بمسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي، تطلق عليها تسمية الحضرة أو القصادين، ويقوم فيها الحاضرون بإنشاد القصائد الدينية أو مايعرف بـ المديح، وكان الشيخ عبد الرحمان الجيلالي يحضر هذه الحلقات، فتكونت لديه ملكة معرفة الأزجال والموشحات الأندلسية، حتى أصبح خبيرا فيها، رغم أنها معقدة عروضيا ولها طابع صوفي تتشابك فيها أصول ممازجة الألفاظ المشحونة بالشعور العاطفي والديني.
نادي الترقي.. وذكريات من زمن الحركة الإصلاحية
أنشأ العديد من مثقفي وفناني ورياضيي الجزائر العاصمة في تلك الفترة (بدايات القرن الماضي) جمعيات ونواد يزاولون فيها أنشطتهم المختلفة، لكن نادي الترقي بساحة الشهداء أكثرهم أهمية لكونه كان مقصدا للنوابغ من المثقفين والعلماء. وهناك تمكن الشيخ عبد الرحمانالجيلالي من الاحتكاك برواد جمعية العلماء المسلمين، كما استفاد من تجربة النشاطات المسرحية التي عرفت بكثافتها في تلك الفترة لكونها نالت اهتمام العديد من المثقفين مثل المحامي الطاهر بن علي الشريف الذي أنشأ جمعية المهذبية الجزائرية وأحمد توفيق المدني وعمر راسم والشيخ محمد العيد آل خليفة وعبد الله نقلي، وكان لهؤلاء الفضل في انتشار الحركة المسرحية في أرجاء كثيرة من أرض الجزائر.
الشيخ الجيلالي حول الإذاعة إلى مدرسة للتربية والتوجيه
التحق الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بالإذاعة الوطنية التي قدم فيها برامجه المجيبة على تساؤلات المستمعين الدينية، فاشتهر ببرنامج لكل سؤال جواب الذي كان ركز فيه على مفاخر التاريخ القومي الإسلامي، فاستحسنته الجماهير ونال رضاها، وبسبب نجاحه قررت إدارة الإذاعة إنتاج برنامج آخر هو رأي الدين في أسئلة المستمعين الذي لعب دورا كبيرا في توعية الناس بحكم اعتماده على نهج الإصلاح الديني، ثم تحولت أحاديثه إلى دروس ونشريات دقيقة مباشرة، مكتوبة بأسلوب متميز سهل الفهم بعيد عن التعقيد. ومع الأيام تحولت الإذاعة بفضل الشيخ الجيلاليإلى مدرسة للتربية والتوجيه، تصلها يوميا عشرات الرسائل، حتى أصبحت برامجه أسبوعية قارة يجد فيها المستمعون الإجابة عن تساؤلاتهم الدينية والدنوية على أساس شرعي معتدل. وقد ابتدأت برامجه تلك منذ سنة 1940، ويحتفظ أرشيف الإذاعة إلى اليوم بكمية هائلة من تسجيلات تلك البرامج إلى اليوم.
رصيد زاخر من النشاط العلمي والديني
تمكن الشيخ عبد الرحمان الجيلالي من إنتاج عشرات الأعمال في مختلف الميادين الدينية، الأدبية، الفنية والتاريخية، جعلته يتحصل على أوسمة استحقاق من مؤسسات علمية متخصصة. كما حاز عضوية المجلس الإسلامي الأعلى غداة الاستقلال في لجنة الفتوى التي كان يشرف عليها الشيخ أحمد حماني رحمه الله. وقد عمل الشيخ عبد الرحمان الجيلالي مع نخبة من العلماء على إنشاء وتنظيم نِظَارات الشؤون الدينية بمختلف ولايات القطر، كما ساهم في تأسيس مجلة الأصالة الصادرة عن المجلس الإسلامي الأعلى التي ساهمت مساهمة فعالة في الترويج لملتقى الفكر الإسلامي، كما كانت منبرا هاما للمناقشة الهادفة. للإشارة، فإن الشيخ الجيلالي قدم محاضرات في 14 طبعة من مؤتمر الفكر الإسلامي، كما كان عضوا فعالا في الديوان الوطني لحقوق التأليف.
مؤلفاته.. جواهر
ساهم الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بقلمه في الصحف والمجلات الجزائرية، كما ساهم في تزويد المكتبة الجزائرية بالعديد من العناوين الهامة، منها كتاب تاريخ الجزائر العام المنشور في جزئين، والذي يعتبر مرجعا لا يمكن لدارسي تاريخ الجزائر الاستغناء عنه، وهو الآن في طبعته الثامنة. ومن كتبه أيضا كتاب تاريخ المدن الثلاث: الجزائر، المدية، مليانة، وكتاب خاص بذكرى العلامة الدكتور بن أبي شنب، وكتاب حول العملة الجزائرية في عهد الأمير عبد القادر، وكتاب ابن خلدون في الجزائر.
منحته جامعة الجزائر دكتوراه شرفية
بتوصية من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، كرمت جامعة الجزائر الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بمنحه شهادة دكتوراه فخرية، وقد عبر عن غبطته وابتهاجه الكبير بهذا التكريم الذي اعتبره من أهم المحطات في حياته في سلسلة عمره الطويل.
على لسان الشيخ
• كانت أسئلة المستمعين تصلني بكثافة، وكنت أحاول الإجابة عنها بدقة، مستعملا أسلوبا سهلا يتماشى وثقافة المواطنين.
• كنت أعد البرنامج مع الأساتذة عثمان بوقطاية، أحمد مكحل ومحمد الأخضر السائحي.
• كان أسلوب التعليم في مدرسة الشبيبة الإسلامية بدائيا قبل 1923، لكن بعد هذا التاريخ تطورت وسائل التعليم وأصبحنا نستعمل المنضدة والسبورة.
• والدي كان تاجرا ليعيش، لكن حياته كانت القرآن.
• أجمل ذكريات حياتي هي تلك الفترة التي قضيتها بالمدرسة الابتدائية القرآنية مع شيخي عبد الحليم بن سماية وشيخي محمد بن البشير البوزيدي.
• لا أستطيع بجواب مرتجل أن أتحدث في موضوع مفتي الجمهورية، لابد لي من تفكير وتأمل عميق.
• الأخلاق تبنى بالتهذيب والإحسان.
• علاقتي بالشيخ شيبان عمرها أكثر من نصف قرن، وأنا مبتهج ومسرور غاية المسرة بهذه الأخوة في الله. اتمنى أن يبارك الله في عمره وحياته وأقول له رمضان مبارك.
• ألفت كتاب تاريخ المدن الثلاث بمناسبة مرور ألف سنة على تأسيس هذه المدن على يد بولوغين بن زيري الصنهاجي
كتابه : تاريخ الجزائر العام …
العلامة الدكتور الشيخ عبد الرحمن الجيلالي مؤرخ محيط بالأخبار العامة الغابرة، عارف بتراجم الماضين من السلف، بالأخص ما تعلق بتاريخ الجزائر وأعلامها، تدل على ذلك أبحاثه المنشورة ومحاضراته القيمة التي شارك بإلقائها في الملتقيات والندوات، ولهذا يصدق فيه حقا وصدقا قول أبي العلاء المعري:
ما كان في هذه الدنيا بنو زمن إلا وعندي من أخبارهم طرف
والدكتور الشيخ عبد الرحمن الجيلالي –رحمة الله عليه – واحد من العلماء الجزائريين المعاصرين السباقين في جمع ما تفرق من مخطوط في تاريخ الجزائر وتحريره ونشره حيث صدر له كتابُ “تاريخ الجزائر العام” في جزئين في بداية الخمسينيات من القرن الماضي فكان بعمله هذا كمن أحيا أمة كاملة وتصدق في الشيخ الجلالي مقالة الإمام العلامة عبد الحميد بن باديس-رحمة الله عليه- حين أرسل رسالة شكر لمؤرخ الجزائر الكبير مبارك الميلي –رحمه الله- بعد صدور كتابه “تاريخ الجزائر في القديم والحديث” فقال له :« إذا كان من أحيا نفسا واحدة، فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كاملة؟ أحيا ماضيها وحاضرها، وحياتها عند أبنائها حياة مستقبلها، فليس _ والله _ كفاء عملك أن تشكرك الأفراد، ولكن كفاءه أن تشكرك الأجيال ..».
وهاهي الطبعة الثامنة من كتاب”تاريخ الجزائر العام” تصدر في خمسة أجزاء عن شركة دار الأمة، وميزة هذا الكتاب – في هذه الطبعة المزيدة والمحققة من مؤلفها رحمه الله أنه كما قال شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله في تصديره للكتاب: «…فالجزء الأول كان قد انتهى بنهاية دولة المرابطين، والثاني كان قد انتهى بزوال دولتي بني حفص وبني زيان وانتصاب حكم العثمانيين…
أما الآن، والكتاب في طبعته الثامنة، فقد اتضحت معالم خطته وأصبح يتألف من خمسة أجزاء، وربما من ستة، فالجزء الثالث يبدأ “بالدولة الجزائرية -التركية- العثمانية ” وينتهي تقريبا بمعاهدة التافنة (ينتهي سنة 1838)، والخامس يغطي مرحلة الصراع بين فعل الاحتلال وردود الفعل بكل أشكالها إلى ثورة التحرير الكبرى…ولعل الكتاب ما يزال قابلا- للإضافة والحذف والتقديم والتأخير، كما فعل به في هذه الطبعة التي أضيفت لها خرائط وملاحق وهوامش، كما وقع الاستغناء عن أمور أخرى، وهكذا يخرج الكتاب في كل طبعة لابسا ثوبا جديدا، فكأنه يخاطب كل جيل من القراء بما يفهمون من أحداث التاريخ ».
ويقول الدكتور عمار طالبي في تصديره لهذه الطبعة الجديدة من الكتاب:« إن كتاب “تاريخ الجزائر العام”للشيخ الجليل، والأستاذ الخبير، العلامة عبد الرحمن بن محمد الجيلالي، لمورد لحياة الجزائر، في مختلف أطوارها ووجوهها الاجتماعية والسياسية والعلمية والدينية والأدبية والتقنية والاقتصادية والصناعية، مع تراجم مفيدة لعباقرة هذا الوطن وعلمائها وزعمائها، منذ أقدم العصور إلى أيامنا القريبة سالكا في ذلك منهجا علميا، وما يقتضيه من أمانة تاريخية، وموضوعية، والاعتماد على المصادر الموثوقة، والوثائق الثابتة…».
*اعتمدنا في هذه الكلمة على : مدونة الاستاذ بشير خلف ،صحيفة البصائر ، الشروق الجزائرية، موسوعة ويكيبيديا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: الأستاذ حسن خليفة مدير موقع" ضفاف الإبداع"
******وُلد الشيخ العالم والمؤرخ عبد الرحمن بن محمد الجيلاليسنة 1908، بالجزائر، ودرس على عدة شيوخ في المساجد والزوايا، ومنهم عبد الحليم بن سماية الذي كان من منتقدي النظام الاستعماري رغم أنه كان أستاذا في إحدى المدارس الرسمية، كما تتلمذ الجيلالي على الشيخ المولود الزريبي الأزهري الذي كان مصلحا ثائرا، وكان الزريبي قد تخرج من الأزهر وعاد إلى الجزائر ليدعو إلى النهضة والإصلاح ولكنه واجه العقوق والركود. كما درس الجيلالي على الشيخ الحفناوي صاحب (تعريف الخلف)، الذي كان من رجال الدين الرسميين ومن الصحفيين الذين عملوا في جريدة المبشر الرسمية طويلا. ودرس الجيلالي على الشيخ محمد بن أبي شنب أيضا. ومهما كان الأمر فإن ثقافة الجيلالي كانت عصامية، وشملت التعمق في القرآن والحديث والأدب والتاريخ والفقه. وقد تولى التدريس بدوره في مدرسة الشبيبة الإسلامية أثناء إدارة شاعر محمد العيد لها خلال الثلاثينات. ولم يكن نشاطه بارزا لولا بعض المقالات القليلة في الشهاب، وكتابه في ذكرى محمد بن أبي شنب سنة 1933.
درس الجيلالي في المساجد الآتية بالعاصمة: الكبير والجديد وسيدي رمضان والسفير( صفر) وكذلك في مدرسة الإحساس ومدرسة الهداية، ومن تآليفه المخطوطة: فن التصوير والرسم عبر العصور الإسلامية، والمستشرقون الفرنسيون والحضارة الإسلامية، وفنون الطلاسم وسواها .
الشيخ عبد الرحمان الجيلالي… أكثر مائة عام في رحاب القرآن
انطفأت حياة الشيخ الجيلالي عن عمر تجاوز المائة عام (103)، ولكنه بعلمه وعمله ”أنار” على مدار حياته الخصيبة آلاف الشموع التي لا تنطفئ لتنير دروب الجزائريين- وغير الجزائريين ـ في أرضهم الطيبة بضياء الإسلام. انبعث صوته عبر أثير الإذاعة على مدار سنوات طويلة، فاخترق القلوب والعقول بكلام الحق، كما تحولت طلعته البهية عبر شاشة التلفزيون ليلة الشك إلى شقيق لهلال رمضان ترقبه كل العائلات الجزائرية لتبدأ شهرها الفضيل. وإن كنا نعرفه فقيها عالما بأمور الدين، فإننا لانعرفه مؤرخا، أديبا ومفكرا يستحق التجلة والإكبار والذكر. هو فضيلة الشيخ العلامة عبدالرحمان الجيلالي الذي تفضل باستضافة الشروق بمعهد الإطارت الدينية ليؤكد أن صحته بخير، وأنه هزم السنين بألق الشباب
العاصمة ملهمته الأولى
ولد الشيخ العلامة عبد الرحمان الجيلالي سنة 1908 بالجزائر العاصمة، وكانت هذه المدينة العريقة في بدايات القرن الماضي فضاء خصبا لنشاط ثقافي وديني غني قاده أعلام من الفقهاء والأدباء والكتاب، من أمثال الشيخ محمد السعيد بن زكري الزواوي المتوفى سنة 1914، الذي كان مدرسا بالجامع الأعظم وإماما بجامع سيدي رمضان بالقصبة ومفتيا شهيرا على المذهب المالكي، وكذلك الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان يشرف على تسيير الحركة التعليمية بالمدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي كان مقرها بنادي الترقي بساحة الشهداء بالعاصمة، والذي كان ملتقى للنخبة المثقفة، حيث كان يحتضن أمسيات ثقافية كان ينشطها أعلام من أمثال الشيخ الطيب العقبي والشيخ العربي التبسي وغيرهما من المشايخ رحمهم الله أجمعين.
يعود نسبه إلى الحسن بن علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما
يعود نسب الشيخ عبد الرحمان الجيلالي إلى آل الشجرة الموسوية القادرية وفروعها الأشراف القاطنين بسهول متيجة، وتصل سلالتهم إلى مولانا عبد القادر الجيلالي سليل الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ويوجد ضريح الجد عبدالقادر الجيلالي المتوفى سنة 1077م ببغداد بالعراق، وله آثار علمية مطبوعة مثل كتاب الغنية لطلب الحق والفتح الرباني والفيض الرحماني وجلاء الخاطر في الباطن والظاهر، وكذلك كتاب آداب السلوك والتوصل إلى منازل الملوك، وغيرها. وللشيخ عبد القادر رحمه الله تلاميذ بالجزائر، منهم القطب الرباني الغوث سيدي أبي مدين شعيب الإشبيلي المتوفى سنة 1198 والموجود ضريحه بتلمسان.
تخرج في أعرق المساجد بالعاصمة
كان الجامع الكبير وجامع سيدي رمضان بالعاصمة ومسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي روضات للعلم والتفقه في الدين الإسلامي، فكان الشيخ عبد الرحمان الجيلاليواحدا من الذين تلقوا تعليمهم الديني منها، وقد تناولها بالدراسة في العديد من الأبحاث التي صنفت هذه الآثار ضمن المعالم الإسلامية الأكثر أهمية في الجزائر العاصمة، حتى أنه أعد دراسات دقيقة ركز فيها على فنياتها المعمارية والصناعية الدقيقة، وهو مافتح له باب البحث والتعمق في دراسة حركة المجتمع الجزائري السياسية والعلمية حتى باتت كتاباته في هذا المجال مرجعا للدارسين والباحثين لما تتميز به من دقة وشمولية، ومنهم الباحث المستشرق الفرنسي الشهير جورج مارسي.
الشيخ خبير في فن الموشحات الدينية
كان الشيخ بوقندورة مفتي المذهب المالكي بالعاصمة يعقد حلقات للذكر بمسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي، تطلق عليها تسمية الحضرة أو القصادين، ويقوم فيها الحاضرون بإنشاد القصائد الدينية أو مايعرف بـ المديح، وكان الشيخ عبد الرحمان الجيلالي يحضر هذه الحلقات، فتكونت لديه ملكة معرفة الأزجال والموشحات الأندلسية، حتى أصبح خبيرا فيها، رغم أنها معقدة عروضيا ولها طابع صوفي تتشابك فيها أصول ممازجة الألفاظ المشحونة بالشعور العاطفي والديني.
نادي الترقي.. وذكريات من زمن الحركة الإصلاحية
أنشأ العديد من مثقفي وفناني ورياضيي الجزائر العاصمة في تلك الفترة (بدايات القرن الماضي) جمعيات ونواد يزاولون فيها أنشطتهم المختلفة، لكن نادي الترقي بساحة الشهداء أكثرهم أهمية لكونه كان مقصدا للنوابغ من المثقفين والعلماء. وهناك تمكن الشيخ عبد الرحمانالجيلالي من الاحتكاك برواد جمعية العلماء المسلمين، كما استفاد من تجربة النشاطات المسرحية التي عرفت بكثافتها في تلك الفترة لكونها نالت اهتمام العديد من المثقفين مثل المحامي الطاهر بن علي الشريف الذي أنشأ جمعية المهذبية الجزائرية وأحمد توفيق المدني وعمر راسم والشيخ محمد العيد آل خليفة وعبد الله نقلي، وكان لهؤلاء الفضل في انتشار الحركة المسرحية في أرجاء كثيرة من أرض الجزائر.
الشيخ الجيلالي حول الإذاعة إلى مدرسة للتربية والتوجيه
التحق الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بالإذاعة الوطنية التي قدم فيها برامجه المجيبة على تساؤلات المستمعين الدينية، فاشتهر ببرنامج لكل سؤال جواب الذي كان ركز فيه على مفاخر التاريخ القومي الإسلامي، فاستحسنته الجماهير ونال رضاها، وبسبب نجاحه قررت إدارة الإذاعة إنتاج برنامج آخر هو رأي الدين في أسئلة المستمعين الذي لعب دورا كبيرا في توعية الناس بحكم اعتماده على نهج الإصلاح الديني، ثم تحولت أحاديثه إلى دروس ونشريات دقيقة مباشرة، مكتوبة بأسلوب متميز سهل الفهم بعيد عن التعقيد. ومع الأيام تحولت الإذاعة بفضل الشيخ الجيلاليإلى مدرسة للتربية والتوجيه، تصلها يوميا عشرات الرسائل، حتى أصبحت برامجه أسبوعية قارة يجد فيها المستمعون الإجابة عن تساؤلاتهم الدينية والدنوية على أساس شرعي معتدل. وقد ابتدأت برامجه تلك منذ سنة 1940، ويحتفظ أرشيف الإذاعة إلى اليوم بكمية هائلة من تسجيلات تلك البرامج إلى اليوم.
رصيد زاخر من النشاط العلمي والديني
تمكن الشيخ عبد الرحمان الجيلالي من إنتاج عشرات الأعمال في مختلف الميادين الدينية، الأدبية، الفنية والتاريخية، جعلته يتحصل على أوسمة استحقاق من مؤسسات علمية متخصصة. كما حاز عضوية المجلس الإسلامي الأعلى غداة الاستقلال في لجنة الفتوى التي كان يشرف عليها الشيخ أحمد حماني رحمه الله. وقد عمل الشيخ عبد الرحمان الجيلالي مع نخبة من العلماء على إنشاء وتنظيم نِظَارات الشؤون الدينية بمختلف ولايات القطر، كما ساهم في تأسيس مجلة الأصالة الصادرة عن المجلس الإسلامي الأعلى التي ساهمت مساهمة فعالة في الترويج لملتقى الفكر الإسلامي، كما كانت منبرا هاما للمناقشة الهادفة. للإشارة، فإن الشيخ الجيلالي قدم محاضرات في 14 طبعة من مؤتمر الفكر الإسلامي، كما كان عضوا فعالا في الديوان الوطني لحقوق التأليف.
مؤلفاته.. جواهر
ساهم الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بقلمه في الصحف والمجلات الجزائرية، كما ساهم في تزويد المكتبة الجزائرية بالعديد من العناوين الهامة، منها كتاب تاريخ الجزائر العام المنشور في جزئين، والذي يعتبر مرجعا لا يمكن لدارسي تاريخ الجزائر الاستغناء عنه، وهو الآن في طبعته الثامنة. ومن كتبه أيضا كتاب تاريخ المدن الثلاث: الجزائر، المدية، مليانة، وكتاب خاص بذكرى العلامة الدكتور بن أبي شنب، وكتاب حول العملة الجزائرية في عهد الأمير عبد القادر، وكتاب ابن خلدون في الجزائر.
منحته جامعة الجزائر دكتوراه شرفية
بتوصية من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، كرمت جامعة الجزائر الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بمنحه شهادة دكتوراه فخرية، وقد عبر عن غبطته وابتهاجه الكبير بهذا التكريم الذي اعتبره من أهم المحطات في حياته في سلسلة عمره الطويل.
على لسان الشيخ
• كانت أسئلة المستمعين تصلني بكثافة، وكنت أحاول الإجابة عنها بدقة، مستعملا أسلوبا سهلا يتماشى وثقافة المواطنين.
• كنت أعد البرنامج مع الأساتذة عثمان بوقطاية، أحمد مكحل ومحمد الأخضر السائحي.
• كان أسلوب التعليم في مدرسة الشبيبة الإسلامية بدائيا قبل 1923، لكن بعد هذا التاريخ تطورت وسائل التعليم وأصبحنا نستعمل المنضدة والسبورة.
• والدي كان تاجرا ليعيش، لكن حياته كانت القرآن.
• أجمل ذكريات حياتي هي تلك الفترة التي قضيتها بالمدرسة الابتدائية القرآنية مع شيخي عبد الحليم بن سماية وشيخي محمد بن البشير البوزيدي.
• لا أستطيع بجواب مرتجل أن أتحدث في موضوع مفتي الجمهورية، لابد لي من تفكير وتأمل عميق.
• الأخلاق تبنى بالتهذيب والإحسان.
• علاقتي بالشيخ شيبان عمرها أكثر من نصف قرن، وأنا مبتهج ومسرور غاية المسرة بهذه الأخوة في الله. اتمنى أن يبارك الله في عمره وحياته وأقول له رمضان مبارك.
• ألفت كتاب تاريخ المدن الثلاث بمناسبة مرور ألف سنة على تأسيس هذه المدن على يد بولوغين بن زيري الصنهاجي
كتابه : تاريخ الجزائر العام …
العلامة الدكتور الشيخ عبد الرحمن الجيلالي مؤرخ محيط بالأخبار العامة الغابرة، عارف بتراجم الماضين من السلف، بالأخص ما تعلق بتاريخ الجزائر وأعلامها، تدل على ذلك أبحاثه المنشورة ومحاضراته القيمة التي شارك بإلقائها في الملتقيات والندوات، ولهذا يصدق فيه حقا وصدقا قول أبي العلاء المعري:
ما كان في هذه الدنيا بنو زمن إلا وعندي من أخبارهم طرف
والدكتور الشيخ عبد الرحمن الجيلالي –رحمة الله عليه – واحد من العلماء الجزائريين المعاصرين السباقين في جمع ما تفرق من مخطوط في تاريخ الجزائر وتحريره ونشره حيث صدر له كتابُ “تاريخ الجزائر العام” في جزئين في بداية الخمسينيات من القرن الماضي فكان بعمله هذا كمن أحيا أمة كاملة وتصدق في الشيخ الجلالي مقالة الإمام العلامة عبد الحميد بن باديس-رحمة الله عليه- حين أرسل رسالة شكر لمؤرخ الجزائر الكبير مبارك الميلي –رحمه الله- بعد صدور كتابه “تاريخ الجزائر في القديم والحديث” فقال له :« إذا كان من أحيا نفسا واحدة، فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كاملة؟ أحيا ماضيها وحاضرها، وحياتها عند أبنائها حياة مستقبلها، فليس _ والله _ كفاء عملك أن تشكرك الأفراد، ولكن كفاءه أن تشكرك الأجيال ..».
وهاهي الطبعة الثامنة من كتاب”تاريخ الجزائر العام” تصدر في خمسة أجزاء عن شركة دار الأمة، وميزة هذا الكتاب – في هذه الطبعة المزيدة والمحققة من مؤلفها رحمه الله أنه كما قال شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله في تصديره للكتاب: «…فالجزء الأول كان قد انتهى بنهاية دولة المرابطين، والثاني كان قد انتهى بزوال دولتي بني حفص وبني زيان وانتصاب حكم العثمانيين…
أما الآن، والكتاب في طبعته الثامنة، فقد اتضحت معالم خطته وأصبح يتألف من خمسة أجزاء، وربما من ستة، فالجزء الثالث يبدأ “بالدولة الجزائرية -التركية- العثمانية ” وينتهي تقريبا بمعاهدة التافنة (ينتهي سنة 1838)، والخامس يغطي مرحلة الصراع بين فعل الاحتلال وردود الفعل بكل أشكالها إلى ثورة التحرير الكبرى…ولعل الكتاب ما يزال قابلا- للإضافة والحذف والتقديم والتأخير، كما فعل به في هذه الطبعة التي أضيفت لها خرائط وملاحق وهوامش، كما وقع الاستغناء عن أمور أخرى، وهكذا يخرج الكتاب في كل طبعة لابسا ثوبا جديدا، فكأنه يخاطب كل جيل من القراء بما يفهمون من أحداث التاريخ ».
ويقول الدكتور عمار طالبي في تصديره لهذه الطبعة الجديدة من الكتاب:« إن كتاب “تاريخ الجزائر العام”للشيخ الجليل، والأستاذ الخبير، العلامة عبد الرحمن بن محمد الجيلالي، لمورد لحياة الجزائر، في مختلف أطوارها ووجوهها الاجتماعية والسياسية والعلمية والدينية والأدبية والتقنية والاقتصادية والصناعية، مع تراجم مفيدة لعباقرة هذا الوطن وعلمائها وزعمائها، منذ أقدم العصور إلى أيامنا القريبة سالكا في ذلك منهجا علميا، وما يقتضيه من أمانة تاريخية، وموضوعية، والاعتماد على المصادر الموثوقة، والوثائق الثابتة…».
*اعتمدنا في هذه الكلمة على : مدونة الاستاذ بشير خلف ،صحيفة البصائر ، الشروق الجزائرية، موسوعة ويكيبيديا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: الأستاذ حسن خليفة مدير موقع" ضفاف الإبداع"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق