الأحد، 3 مارس 2013

”اللغة والثقافة”.. دراسة آليات اللغة لحاجة الساحة الثقافية


”اللغة والثقافة”.. دراسة آليات 
اللغة لحاجة الساحة الثقافية
علاقة اللغة أيّ لغة بالثقافة علاقة متينة جدّا كلاهما تساهم في كينونة الأخرى، وتغذيتها، والتأثير فيها؛ وبالتالي كلاهما لا يكون له وجود إلاّ بوجود الآخر.
إن اللغة بتعريفها البسيط هي وسيلة اتصال بين شخصين أو أكثر، الهدف منها التواصل والتفاهم. ولكي يحدث التفاهم فلابد من الاشتراك في معرفة رموز هذه الوسيلة، وما تحويه من معانٍ سياقية، واجتماعية، وثقافية متفق عليها مسبقا. فاللغة هي منتج إنساني تراكمي، وثقافي أنتجته ضرورة تواصل أهل بيئة واحدة بعضهم ببعض.
وبما أن اللغة هي نتاج ثقافي تراكمي فإن الثقافة تُــضفي بمعانٍ خاصة على كل كلمة، وكل تركيب لغوي يستخدمه أهل اللغة إضافة للمعنى القاموسي. فمعرفة معاني الكلمات، وتراكيب الجمل دونما معرفة المعنى والاستخدام الثقافي السياقي لكل كلمة، وتركيب هي معرفة ناقصة.
وبالرغم من الاختلافات الكثيرة في تحديد مفهوم اللغة إلاّ أن الكل يُـجمع على أنها هي لسان الثقافةوعنوان الحضارة وترجمانها. فاللغة هي القناة التي من خلالها تنتقل العلوم من الأمة وإليها وفيها وعنها، وهي وعاء الفكر وميدان الإبداع.وهي كما يراها أهل الاختصاص وسيلة يبتكرها الإنسان لكي يتكيف مع بيئته من خلال تطوير أساليب الاتصال، والتخاطب؛ فهي بنت البيئة ونبتتها. ولهذا فإن كلمات اللغة ومفرداتها ما هي إلاّ تراكيب بيئية مجردة، ذات أبعاد مفاهيمية متعددة يتوازى عمق المفهوم بها مع عمق المفردة أو الكلمة في البيئة وتتسق هذه التراكيب اللغوية فيما بينها لتؤلف بناءً وإطاراً ثقافياً يؤثر في النظرة العامة للبيئة والفرد والمجتمع.
في هذا المجال أصدرت وزارة الثقافة والفنون والآثار القطرية أخيرا 2010كتابًا قيّمًا تحت عنوان ( اللغة والثقافة) من تأليف الناقدة كلير كرامش أستاذة اللغة الألمانية، واكتساب اللغة في جامعة كاليفورنيا. ترجم الكتاب د. أحمد الشيمي، وراجعه عبد الودود العمراني.
تتّخذ الدراسات في مجال اللغة واللسانيات أهمية متزايدة اليوم، وذلك نتيجة تفاعل اللغات والثقافات من خلال الاستعارة والتبني والاستخدام اليومي لمنتجات أنتجها البعض - الغرب بوجه خاص - ويستخدمها الجميع، وفي كتاب ”اللغة والثقافة” تسلّط الكاتبة كلير كرامش الضوء على الأرض التمهيدية لدراسة آليات اللغة لحاجة الساحة الثقافية إلى هذه الدراسات، مبيّنة العلاقة الجوهرية بين اللغة والثقافة منذ فرضية سابير ولف، وما أُطلق عليه نظرية النسبية اللغوية التي تُحاج بأنّ المفاهيم والتصنيفات الثقافية المختلفة الكامنة في لغة معيّنة، تؤثّر على إدراكنا للعالم المحيط بنا، وعلى هذا الأساس - وفق معايير سابير ولف - فإن المتحدثين بلغات مختلفة يفكرون ويتصرفون وفق أنماط مختلفة.
بداية تشير إلى تعريف اللغة باعتبارها الوسيلة الرئيسة التي ندير بها حياتنا الاجتماعية، وعندما نستخدم اللغة في سياقات التواصل تنعقد الصلة بينها وبين الثقافة في نواح كثيرة ومتشابكة، فالكلمات التي ينطق بها الناس تشير إلى الخبرات المشتركة، لأنّها تشير إلى مخزون من المعرفة بهذا العالم يشترك فيه آخرون. كما تعكس مواقف كتابها ومعتقداتهم ووجهات نظرهم، فاللغة تضطلع في الحالتين بالتعبير عن واقع ثقافي، كما أنّها نسق من العلامات ذات قيمة ثقافية لأنّ المتحدّثين يعبّرون عن هويتهم وهوية الآخرين من خلال استخدامهم لها.
ومن الوسائل التي يستعان بها على فهم الثقافة مقارنتها بالطبيعة، وتستعين المؤلفة بقصيدة ”الوردة” لإميلي دكنسون لتؤكّد على أهمية العلاقة بين الطبيعة والثقافة واللغة. مشيرة إلى أنّ الطبيعة والثقافة لا غنى لأحدهما عن الآخر، فما كان للقصيدة أن توجد في الأصل لولا وجود الورد في الطبيعة، وما كان لأحد أن يفهم القصيدة لو لم تشارك قراءها بعض الفرضيات والآمال المشتركة عن حدائق الزهور. وتأسيساً على قراءة قصيدة دكنسون تبدو الخصائص المتعدّدة للثقافة في كونها أولاً، نتاج التدخّل الإنساني في العمليات البيولوجية للطبيعة، وثانياً، في التحرّر والتقيّد في آن، إنّها تحرّر لأنّها تستثمر بعفوية الطبيعة، وذلك بإضفاء معنى ونظام على هذه الطبيعة وتحميها من الفوضى، وتقيّد لأنها تفرض على الطبيعة بنية ليست منها، وتحدّ من مجال المعاني الممكنة التي أبدعها الفرد، كما أنّ الثقافة هي نتاج مجتمعات خطاب لها ظروف اجتماعية وتاريخية خاصة، وهي إلى حدّ كبير مجتمعات تصورية خلّفتها وشكّلتها اللغة، وتمثّل لغة أيّ مجتمع وإنجازاته المادية ميراثاً اجتماعياً ورأس مال رمزي، وأخيراً، في كون الثقافات في الأصل متغايرة الخواص وفي تغيّر دائم، فإنّها تشكّل مضماراً للصراع الدائم من أجل إثبات الذات وتحقيق شرعية الوجود.
أمّا نظرية سابير ولف الراديكالية التي تزعم أنّ اللغة تحدّد طريقتنا في التفكير وهي لا تقبل الجدل، ورغم هذا فهناك من خفّف من حدّة هذه النظرية وخرج بنظرية أقلّ شيوعاً ولكنها تستند إلى نتائج بحثية خلصت إلى وجود اختلافات ثقافية في العلاقات الدلالية التي تستدعيها مفاهيم تبدو مشتركة في ظاهرها، وتزعم هذه النظرية أنّ الطريقة التي تحوّل بها اللغة الخبرة إلى رموز دلالية لا تجعل هذه الخبرة متاحة إلاّ لفئة خاصة من الناس.
يتحقّق المعنى في اللغة من طريقين أساسيين، وكلاهما مرتبط بالثقافة، الأوّل: ما تعنيه الألفاظ أو ما تشير إليه، والثاني ما تحدثه اللغة من فعل داخل سياق ما الذرائعية، ولما كانت العلامات تضطلع بإنشاء جملة من العلاقات الدلالية المختلفة بين الكلمات والأشياء، معجمية أو إيحائية أو تطابقية، وتعطي هذه العلاقات بدورها العالم معنى عاماً، بالإضافة إلى ذلك نجد أنّ العلامات تعمل على إنشاء علاقات دلالية مع علامات أخرى، في البيئة المباشرة للمبادلات اللفظية أو في السياق التاريخي لخطاب مجتمع معين، ولا يكون خلق المعنى من خلال العلامات مصطنعاً أو متعسّفاً، ولكنه يتأتى من رغبة الإنسان للمعرفة والتأثير، وامتلاك السلطة، والرغبة الفطرية العامة في التعايش الاجتماعي والثقافي، ولما كان المعنى مشفّراً في اللغة من أجل غرض معين فإنّ المعنى بوصفه علامة يلازم السياق الذي تستخدم فيه العلامات من أجل تنظيم الفعل البشري، وهنا تكمن الصعوبة في الفصل بين المعاني الدلالية النوعية للشفرة عن المعاني الذرائعية لها في سياقات متباينة أثناء الاستخدام.
وعند إنشاء المعنى نجد كلّ إنسان يستلهم تفسيره الخاص للحوادث من خبرته ومجال إدراكه، ويشترك سياق الموقف وسياق الثقافة، في إنتاج هذه الأفعال لأنهما يمنحانها التماسك البراغماتي المطلوب، فحين يتحدّث المتحدّثون ينطلقون في حديثهم من أطر للتوقّعات يتقاسمونها مع آخرين يعيشون تاريخ الحياة والسياق الثقافي نفسه، وعلى أساس هذه التوقعات يضع المتحدّثون أنفسهم في مواجهة سياق الحال الخاص بتبادل معين عن طريق الإشارات المساقية، وتعدّ الإشارات المساقية دليلاً على استدلالات الحال التي ينتجها المتحدّثون تأسيساً على أطر التوقعات المشتركة من الناحية الثقافية التي تنطبق على الموقف المحلي للتبادل، وتمنح تلك الإشارات التبادل الحواري التماسك الدلالي المطلوب، ويبقى المشاركون على هذا التماسك اللفظي عن طريق اتباع مبدأ التعاون الحواري الذي يدفعهم إلى أن يضعوا توقعاتهم جنباً إلى جنب مع توقّعات الآخرين، حين يلعبون أدواراً متباينة كمشاركين، وتتناغم كلّ هذه الأفعال التي يصنعها المشاركون مع المعايير والأعراف الثقافية للجماعة التي ينتمون إليها وإلى مواقفها ومعتقداتها.
ترى كلير كرامش أن هناك علاقة تطابق كامل بين اللغة التي يتحدثها أي فرد وهويته الثقافية، حيث أن اللغة من أكثر الإشارات أهمية في العلاقة بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها، فالتماثل أو عدمه بين الفرد ولغته إنما يتجلى في سلوكه وينعكس على حياته بشكل واضح، كون اللغة جزءاً من تركيبنا العضوي وتهيمن على وجداننا ورؤيتنا للعالم من حولنا، غير أنّها ليست هي كلّ شيء، وإذا كانت تدلّ على علاقتنا بالعالم فليست هي نفسها العلاقة بيننا وبين هذا العالم.
من هنا، فإن العلاقة بين اللغة والثقافة من أكثر القضايا جدلاً في الدراسات الأدبية، كونها تخضع لمعايير التبدّل والتغيّر، وارتباطها عبر الثقافي وبين الثقافي، ومتعدّد الثقافي، فضلاً عما أصبح يعرف اليوم بسياسات الاعتراف، فالأفراد يحتاجون إلى الاعتراف بهم كأفراد أولاً، وبهويتهم الاجتماعية في الجماعة التي ينتمون إليها ثانياً.
وتختم المؤلفة بأنّ الرؤية القائمة على التعدّد الثقافي للعلاقة بين الهوية اللغوية من جهة، والهوية الثقافية من جهة أخرى، إنّما تنطلق هي نفسها من تراث يضرب بجذوره في الثقافة المدنية للمجتمع الصناعي، ونجد اليوم الهوة آخذة في الاتساع ليس بين الثقافات القومية وحسب، بل بين من أصبح في مقدوره القفز فوق القومية والدخول في العالمية المعولمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...