بعد رحيله منذ أربع سنوات
بشير خلف
عثمان بالي الذي بعدما درس الطب ، وتخرج بشهادة طبيب اختار أن يفعل شيئا آخر لم يفعله رجل قبله في المجتمع الذي خرج منه.. قرّر بكل بساطة أن يحمل العود ويتجه للغناء ، ويغامر بمكانته في مجتمع يخفي رجاله وجوههم ، والغناء فيه حكْـرٌ على النساء . عثمان بالي هذا هو واحد من أكبر مطربي الجزائر ، لكنه ليس ككل المطربين.
ويكاد يكون المطرب عثمان بالي المنحدر من أعرق قبائل التوارق، الفنان الجزائري الوحيد الذي كان ينافس الشاب خالد ، والشاب مامي في العالمية،حفلاته امتدت إلى مختلف القارات، فقد غنى في فرنسا ، بلجيكا ، هولندا، الولايات المتحدة ، كندا ، الصين ، اليابان ، مصر ، لبنان ، وعشرات من البلدان الأخرى.. فهو لم يترك مكانا إلا وقدم فيه غناءه الترقي المميز الذي لا يزال يعتمد على الآلات الموسيقية التقليدية، اكتشف بالصدفة أن أشرطته متواجدة حتى في إسرائيل.
يعترف عثمان بالي بأن البداية لم تكن سهلة، والطريق كانت مفروشة بالأشواك والموانع؛لأن التوارق اعتبروه وصمة عار ، فرموه بالحجارة،ذلك أن الغناء في المجتمع الترقي تؤديه المرأة وليس الرجل، قال المطرب الطبيبعثمان بالي:
« طفولتي لا أذكر منها إلا سحْـر أنغام التوارق الجميلة، فوالدتي شاعرة، ومطربة مشهورة في جانت . جانت مدينة جنوبية في الجزائر تستقطب السياح الأجانب بكثرة، وقد تعلمت منها الغناء وأنا جنين في رحمها، أما والدي فهو رجل فقيه في الدين، وعنه حفظت كثيرا من الآيات ، والسور القرآنية، وجدي الشيخ عمود بطل المقاومة التي امتدت من جانت إلى النيجر، وليبيا، وهذا بالمدلول الترقي يعني بأني ابن عائلة شريفة، ومن عادات و تقاليد التوارق أن المرأة هي التي تغني، أما الرجل إذا غنى فهو يُـلحق العار بأبناء عشيرته. »
ويضيف عثمان:
« ربما لهذه الأسباب توجهت عند حصولي على شهادة البكالوريا عام 1975 لدراسة الطب، لكن حبي للغناء ظل يطاردني، وأدركت بأن البداية لن تكون سهلة، لكن وبطبعي العنيد فقد بدأت الغناء، وأنا أدرك بأن رد فعل التوارق معي سيكون عنيفا، وهذا ما حدث بالفعل، حيث قذفوني بالحجارة، وأنا أغني لهم، وأحاول أن أزرع الفرحة في نفوسهم، لكن وقوف عائلتي بجانبي وتشجيعهم لي على تحقيق أحلامي، وطموحاتي جعلني أصمد، والحمد لله لأن اسم بالي اليوم هو مصدر اعتزاز وفخر للتوارق اذ يكفــيهم أني استطعت أن أوصل أغنيتهم إلى العالمية .»
ويواصل عثمان كلامه قائلا :
« أستطيع أن أقول الآن بأني حققت جزءا كبيرا من طموحاتي، فبعد حوالي 20 سنة في ميدان الغناء المحترف سجلت 193 أغنية، وزرت عشرات من البلدان الأجنبية، آخرها فنزويلا التي وجدت تجاوبا كبيرا مع جمهورها المعروف بتعصبه الشديد للنغمة الأميركية اللاتينية، فالأجانب تشدهم طريقة تقديم أغنياتي مع الفرقة المتكونة من 12 عنصرا، بالإضافة إلى خمسة مرددين، وعازفين على الإيقاع من الرجال، وست نساء بمن فيهم والدتي، يعني أن فرقتنا مختلطة، ولمن لم يتمكن من مشاهدة الفرقة على الخشبة أقول بأنها تقدم بلباس مميز الأغاني بطريقة خاصة تعتمد على الطبلة، والعود، وقد حاولت في البداية أن أستعمل الغيثارة لكنني سرعان ما أدركت بأنها تفقد اللون ميزته و خصوصيته ، لذلك التفتُّ إلى العود الذي يعطي للسامع شعورا بالأنس ، والدفء الصحراوي، والعربي عامة .»
وعلى ذكر الغناء العربي يقول عثمان بالي:
« رغم أني من المولوعين بالأغنية الشرقية ، إلا أني لم أؤد في حياتي إلا الغناء ال ترقي الذي أتميز به، والذي وصلت من خلاله إلى العالمية.»
لحدّ الساعة رغْم مشواره الطويل في المسار الفني الغنائي لم ينلْ حقه من التكريم من وزارة الثقافة وغيرها ممّن لهم علاقة بالفن والثقافة، بالرغم من مرور نحْو أربع سنوات على رحيله، إثر فيضان الوادي بهذه المدينة. فقد تُوفّي يوم السبت 18 اجوان 2005 غرقا نتيجة فياضانات قوية جرفته هو وسيارته في وادي جانت تسبّبت فيها أمطارٌ غزيرة هطلت على المدينة وضواحيها .
إلاّ أنّ المبادرة الجميلة التي قامت بها أخيرا الوطنية للاتصالات " نجمة " بتكريمه أخيرا بجانت (ولاية إيليزي).
وقد تولى السيد رمضان جزيري، مساعد المدير العام المكلف بالعلاقات العامة والتعاون بالمؤسسة، نيابة عن مسؤولها الأول السيد جوزيف جاد، تكريم الفقيد من خلال نجله ”نبيل” الذي يسير على نهج المرحوم والده، وذلك في حفل فني ساهر نظم على شرف أعضاء نادي الصحافة الذين استضافتهم الوطنية لاتصالات الجزائر في جانيت في ظروف جد مريحة.
ويعد المرحوم عثمان بالي أصيل جانت من أكبر فناني المنطقة، وسفير الأغنية التارقية وتحديدا في الطابع ”التيندي”، حيث كان أحسن ممثل، وسفير لها في مهرجانات عديدة أقيمت بمخلتف أنحاء المعمورة.
ويبدو أن الفن عند هذه العائلة متوارث أب عن جد، بدليل أن والدة المرحوم كانت عضوا بارزا في فرقته وجالت ضمنها مختلف أنحاء العالم، وهاهو الآن حفيدها ”نبيل” نجل المرحوم عثمان يحمل المشعل لمواصلة المسيرة الفنية للعائلة، والذي أطرب الحضور مساء يوم التكريم، بأدائه الراقي إلى درجة تفاعل معه وفرقته الجميع.
رحم الله هذا الفنان الموهوب ، وأسكنه فسيح جنانه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق