الجمعة، 1 فبراير 2013


الاستيلاب العمراني
بقلم أ : صالح فالح
         عندما تفقد أمة شخصيتها واعتزازها بجذورها تمارس التقليد وتعيش الإستيلاب بكل أشكاله ولعل العمران والبناءات الشكل المهمل في التبعية الحضارية والانسياق وراء التقليد الأعمى الذي أفقد العمران علاقته بساكنيه. وبنظرة بسيطة في المدن الجزائرية نجد الإستيلاب العمراني واضح للعيان من خلال أشكال البناءات وهندستها التي وفدت من كل دول العالم ، فتجد في الصحراء والشمال والشرق والغرب سكنات على الطراز الصيني وأخرى على الطراز الأوربي وثالثة مزيج بين هذا وذاك ورابعة من قلب أمريكا الجنوبية وهكذا.
        وإذا سلمنا بأن السكن والعمران انعكاس طبيعي لذات الإنسان ومستوى تفكيره ووجدانه فإن  البيت الجزائري فقد أهم خصائصه وهي " السكن " بمعناه الشامل الذي يحقق الراحة والانسجام  والهدوء لأن مهندسينا فضلوا السهل غير الممتنع والجاهز من التصاميم على التفكير في كل ما درسوه في الجامعات الجزائرية وماتزودوا به من ثقافة مساعدة عن تاريخ العمارة  في الحضارات الإنسانية واستطاعوا دون رغبة منهم تجسيد الانفصام الكلي بين البيت الجزائري والعائلة .
     وبعودة سريعة للمدن والحواضر التاريخية الجزائرية يجذبنا الحنين لتلك القصور والمدن والأحياء الشعبية  التي قامت على تناغم كلي بين الإنسان وبيئته ومستوى تفكيره واستغلت كل الإمكانات المتوفرة  لتحقيق معنى " السكن " في البيت الجزائري الذي وفر مناخا  للتلاقح الاجتماعي والنفسي شكلا ومضمونا وحقق التوازن البيئي حسب طبيعة كل منطقة .
      ولا تزال تشدنا مشاعر خاصة ونحن ندخل قصور " تاغيت"  أو تلمسان وقصبات الجزائر  وورقلة وسويقة قسنطينة وأحياء  غرداية العتيقة وأحياء الأعشاش والزقم وقمار القديمة بوادي سوف. لأنها مقتبسة من العمارة الإسلامية التي  جعلت الجمال قيمة  مهمة في حياة الإنسان  وتجاوبت مع مشاعر الإنسان فجسدتها في أشكال متناغمة مع نفسية المسلم التواق للاندماج مع كونه ، فكانت الأشكال الدائرية والزخارف والمنمنمات  والقباب والأعمدة والأدماس  والمشربيات  والعقود ومساحات البيوت وشرفاتها ذات صلة وثيقة بالعقيدة والروح.
     ومن ثم قامت  هذه الهندسة العمرانية بدور  حيوي في التأثير على  الحياة الاجتماعية والنفسية للسكان وكان الحياء وخلق التعاون والإيثار والإحساس بروح الجماعة أهم عناصرها البارزة وجسدت اللحمة الاجتماعية في أحلك الظروف التي عاشها المجتمع الجزائري فترة الاستدمار الغاشم.
       ليقع التحول المفاجئ في مساكن المواطن المبينة في مشاريع الدولة  أو  الخواص  التي فصمت عرى الصلة بين المتساكنين وحولتهم اليوم إلى أعداء تقليديين  فأصبحت علاقة الجيرة وقدسيتها شيئا من الماضي واعتدى الجيران على بعضهم البعض ماديا ومعنويا  سواء بالقضايا التي ملأت محاكمنا الجزائرية أو  بانتهاك حرمة الجيرة وتقطع أوصالها  وأصبحت أحياؤنا الجديدة  تجمعات بشرية لارابط بينها،وتسلل لصوص الأخلاق وعششت الجريمة بكل أشكالها  فأصبحنا نعيش سرقات بين الجيران واعتداءات على الحرمات وتعدي في وضح النهار  والكل يتذرع بشعار " أخطى راسي واضرب"   وأصبحت "الشبابيك الحديدية" جدار الصد الأخير.
      إن  لفتة رابطة الفكر والإبداع  في ملتقاها الذي انعقد بداية هذا الأسبوع لتشريح العلاقة بين الإنسان والعمارة في الجزائر ومدن الصحراء لجديرة بالمتابعة من قبل المختصين والسلطات والمواطنين على حد سواء  لتوصيف المخرج  بعد تشخيص الداء  وتقديم وصفة للخروج من  هذا الإستيلاب العمراني والتشرذم الاجتماعي والانهيار النفسي الذي وقع للبيت الجزائري نتيجة  التحول العمراني المفاجئ ومن ثم تتعاون جميع هذه الأطراف في عودة السلم الاجتماعي للأسرة الجزائرية التي تبحث عن السكن والمودة  في بيتها  ومن ثم نعالج الكثير من الظواهر الاجتماعية والأمراض النفسية .
       لكن المفاجأة هي غياب شبه كلي  للمعنيين خصوصا المهندسين  وإدارة العمران  والقائمين على مخططات  السكن ليتم تقديم محاضرات علمية عالية والمستوى ويلتفت  لوجه من وجوه "سوف " الذين عملوا بصمت وهو الفنان  المعماري " عبد القادر دودي"  ولتضع رابطة الفكر والإبداع  بصمتها في ملف شائك .
يومية الجديد: 31/01/2013



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...