الأمير عبد القادر :من فتوى جواز شق قناة السويس إلى تأسيس المكتبة الوطنية
بقلم : الدكتور أمين الزاويكان الأمير عبد القادر واحدا من مؤسسي النهضة العربية الأولى، بل محورها الأساسي، قبل جمال الدين الأفغاني (1838 - 1897) ومحمد عبده (1849 - 1905) ورشيد رضا (1865 - 1935) وغيرهم،.وهذا الكلام ليس إنشاء دون سند تاريخي أو خطابا ينتمي إلى "الكلامولوجيا" العربية، فالأمير عبد القادر اختار الإقامة في بلاد الشام، إذ كانت دمشق العاصمة الثقافية خلال القرن التاسع عشر، فمن بلاد الشام انطلقت "معاصرة" القرن العشرين العربية في الفكر والأدب واللغة العربية من عائلة البستاني وعائلة حاوي وعائلة الخالدي وعلى رأسها روحي الخالدي وعائلة طوقان وعلى رأسها إبراهيم طوقان وفدوى طوقان وجبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ومي زيادة والكثير…
جاء الأمير عبد القادر بلاد الشام فكان الحلقة المتينة التي جمعت ما بين السياسي والديني، ما بين المسلم والمسيحي، ما بين المشرق والمغرب، ما بين الشرق والغرب، وإذا كان التاريخ العربي والإنساني سيذكر للأمير عبد القادر عملا يذكر فهو جرأته في الاجتهاد، فهو الذي أفتى للمصريين بجواز شق قناة السويس، بعد أن أثار كثير من الغوغاء وأنصاف العلماء وأنصاف المتدينين عدم جواز شق القناة، وأثاروا الفتنة، واعتبروا ذلك كفرا وضد إرادة الله. كانت فتوى الأمير عبد القادر بجواز شق قناة السويس أكبر فتوى قدمها رجل دين وفلسفة وفكر في هذا الزمن. فبعد مضي قرن ونصف على إصدار هذه الفتوى الجريئة والاقتصادية، نسمع اليوم "ستارات" (نجوم) الدين الذين صنعتهم بعض القنوات التلفزيونية المشبوهة يتسابقون في الإفتاء حول جواز أو عدم جواز فرك الأسنان بمعجون أسنان، وحول نقائض الوضوء وركوب الحمير والصلاة على الميت وغسل الميت … وربك أعلم .
كان الأمير ثاقب الوعي، مجتهدا اجتهاد العالم الذي يمارس الحياة بكل عنفوانها السياسي والاجتماعي والاقتصادي . وقد حضر بنفسه افتتاح قناة السويس سنة 1869 إلى جانب عظماء العالم آنذاك .
لم يكن كلام الأمير صادرا عن فراغ، أو عن رغبة في السلطة، فقد رفض أن يكون ملكا على بلاد الشام، بعد أن سعى إلى تنصيبه الكثيرون في الغرب والشرق، رفض أن يولى مملكة في الوقت الذي يتسابق فيه بعض العرب من حكام اليوم إلى تحويل "جمهورياتهم" إلى "مملكات" ممسوخة الهوية .
بين حرب وأخرى، بين محنة وأخرى، أيام المقاومة في الجزائر أو سنوات بلاد الشام، كان الأمير يعود في مثل هذه الاستراحة، استراحة المحارب، إلى كتبه، إلى الصحبة العميقة: صحبة الكتاب وصلاة القراءة، عرف عنه أنه كان لا يتنقل إلا ومكتبته معه، فهناك قافلة للبارود وهناك أخرى للكتب، فإذا كانت عينه الأولى على فن الحرب والمقاومة فإن عينه الثانية كانت على الفكر والكتب .
لم يكن الأمير عبد القادر غريبا عن المكتبات، إذ أنه كان ممن تابع إنشاء المكتبة الوطنية في عهد الاستعمار الفرنسي، وقد زار مقر المكتبة الذي كان موجودا بحي القصبة العتيق. وكانت المكتبة وقتها عبارة عن متحف ومكتبة، وقد كتب شهادته في سجلها الذهبي مشيدا بدور الكتاب والآثار في حفظ الذاكرة والحفاظ على الهوية .
حين العودة إلى تاريخ واحدة من أعرق وأهم المكتبات في بلاد الشام وأعني بها مكتبة الظاهرية، أي المكتبة الوطنية الأولى في سوريا، التي تأسست في عهد الأمير عبد القادر، سنجد مؤسسها هو تلميذ الأمير عبد القادر وهو المثقف والأديب المصلح طاهر الجزائري، ولا نستبعد أن تكون فكرة إنشاء هذه المكتبة من بنات أفكار الأمير. ونعتقد أيضا أن تأسيس مكتبة الخالدية والتي هي المكتبة الوطنية بالقدس بفلسطين من طرف طاهر الجزائري نفسه، وكأن بالأمير من خلال تلميذه وبهذا الإنجاز يؤسس ما كان قد ابتدأه في الجزائر.
في الجزائر تأسست المكتبة الأميرية أولا على ظهر قوافل الخيل، حيثما حل الأمير إلا وحلت معه مكتبته، ففي سنة 1843 حين هاجم دوق دومال Dauk Daumale زمالة الأمير عبد القادر بتآمر من أحد الخونة الجزائريين الذي كان يعرف تموقع الزمالة عند نبع طاقين، وإذا كان الهجوم المباغت لم يخلف ضحايا كثر فإن دومال وجنوده استولوا على مكتبة الأمير عبد القادر بتاقدامت التي كانت متكونة من مخطوطات ثمينة فخمة التجليد، وقد قدر المؤرخون قيمتها بـ 5000 جنيه استرليني. وقراءة لهذه الحادثة تؤكد أن الأمير كان في حروبه مثقفا لا يفارق الكتاب ممارساته . فالتحكيم إلى الكتاب والقراءة كانا المرجعية الدائمة والثابتة للأمير عبد القادر، وهو ما ينفي عنه " الفكر الفروسي " في اتخاذ المواقف .
وحين جاء الأمير عبد القادر مدينة المدية، استقر بما يسمى اليوم بدار الأمير، وهي تحفة معمارية أندلسية تركية واتخذ منها مقرا لسلطته السياسية والعسكرية من (1837 - 1840) ولكن الذي لم يتوقف عنده المؤرخون هو أن هذه الإقامة بمدينة المدية شكلت بالفعل النواة الأولى للمكتبة الوطنية الجزائرية، فالأمير عبد القادر كان يؤمن بأن الدولة الوطنية لا تقوم القيام السليم إلا إذا كانت لها "دار الحكمة" الخاصة بها والتي من خلالها يتم تقييم الإنتاج الفكري والأدبي والديني الذي ينتجه علماؤها وأدباؤها وفقهاؤها، ومن هنا عمد الأمير إلى جمع كثير من المخطوطات التي كان يقتنيها من محترفي مهنة الوراقة والتي كانت مهنة وتجارة رائجتين وكانت تنبكتو وشنقيط من المدن التي راجت فيها تجارة المخطوط .
حين استعادت الجزائر رفات الأمير عبد القادر سنة 1966، وتمت إعادة دفنها بمقبرة العالية، كان ذاك اليوم رمزيا كبيرا دون شك، ولكن الذي ينقص هذا الافتخار والذي لم يكتمل، لأننا ومرة أخرى تصرفنا بمنطق فروسي ولم نتصرف بمنطق الحكمة التي أوصى بها الأمير وعاش لها. كان من المفروض وبقايا عظامه تسحب من قبره الذي كان يرقد فيه إلى جانب أستاذه ومعلمه الأكبر صاحب الحكمة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كان من الأولويات استقدام مكتبته كاملة والتي كانت من أهم مكتبات دمشق، كما كان من المفروض استحضار كثير من وثائقه وأوسمته التي ظلت بدمشق، ويذكر المؤرخ المتخصص في الأمير برونو إتيان إنه وفي سنة 1970 في زيارة له لدمشق حدثه أحد المؤرخين الشباب السوريين عن وجود مئات المخطوطات والآلاف من رسائل الأمير الموجودة بمكتبة دمشق .
لقد عاش الأمير بين الكتب والمخطوطات ولم ينقطع عنها حتى وهو في أصعب الظروف التي عاشها مجاهدا مقاوما، رجل دولة، سجينا أو منفيا، كان الكتاب رفيقة الدائم. ومن عجيب الصدف أنه نقل من جوار محيي الدين بن عربي بدمشق ليجد نفسه لاحقا بمقبرة العالية إلى جوار كاتب كبير آخر هو كاتب ياسين ( توفي العام 1989 ) ، هذا الأخير الذي بدأ حياته الثقافية ووعيه الوطني بإلقاء محاضرة عن الأمير عبد القادر الجزائري وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره
كان الأمير ثاقب الوعي، مجتهدا اجتهاد العالم الذي يمارس الحياة بكل عنفوانها السياسي والاجتماعي والاقتصادي . وقد حضر بنفسه افتتاح قناة السويس سنة 1869 إلى جانب عظماء العالم آنذاك .
لم يكن كلام الأمير صادرا عن فراغ، أو عن رغبة في السلطة، فقد رفض أن يكون ملكا على بلاد الشام، بعد أن سعى إلى تنصيبه الكثيرون في الغرب والشرق، رفض أن يولى مملكة في الوقت الذي يتسابق فيه بعض العرب من حكام اليوم إلى تحويل "جمهورياتهم" إلى "مملكات" ممسوخة الهوية .
بين حرب وأخرى، بين محنة وأخرى، أيام المقاومة في الجزائر أو سنوات بلاد الشام، كان الأمير يعود في مثل هذه الاستراحة، استراحة المحارب، إلى كتبه، إلى الصحبة العميقة: صحبة الكتاب وصلاة القراءة، عرف عنه أنه كان لا يتنقل إلا ومكتبته معه، فهناك قافلة للبارود وهناك أخرى للكتب، فإذا كانت عينه الأولى على فن الحرب والمقاومة فإن عينه الثانية كانت على الفكر والكتب .
لم يكن الأمير عبد القادر غريبا عن المكتبات، إذ أنه كان ممن تابع إنشاء المكتبة الوطنية في عهد الاستعمار الفرنسي، وقد زار مقر المكتبة الذي كان موجودا بحي القصبة العتيق. وكانت المكتبة وقتها عبارة عن متحف ومكتبة، وقد كتب شهادته في سجلها الذهبي مشيدا بدور الكتاب والآثار في حفظ الذاكرة والحفاظ على الهوية .
حين العودة إلى تاريخ واحدة من أعرق وأهم المكتبات في بلاد الشام وأعني بها مكتبة الظاهرية، أي المكتبة الوطنية الأولى في سوريا، التي تأسست في عهد الأمير عبد القادر، سنجد مؤسسها هو تلميذ الأمير عبد القادر وهو المثقف والأديب المصلح طاهر الجزائري، ولا نستبعد أن تكون فكرة إنشاء هذه المكتبة من بنات أفكار الأمير. ونعتقد أيضا أن تأسيس مكتبة الخالدية والتي هي المكتبة الوطنية بالقدس بفلسطين من طرف طاهر الجزائري نفسه، وكأن بالأمير من خلال تلميذه وبهذا الإنجاز يؤسس ما كان قد ابتدأه في الجزائر.
في الجزائر تأسست المكتبة الأميرية أولا على ظهر قوافل الخيل، حيثما حل الأمير إلا وحلت معه مكتبته، ففي سنة 1843 حين هاجم دوق دومال Dauk Daumale زمالة الأمير عبد القادر بتآمر من أحد الخونة الجزائريين الذي كان يعرف تموقع الزمالة عند نبع طاقين، وإذا كان الهجوم المباغت لم يخلف ضحايا كثر فإن دومال وجنوده استولوا على مكتبة الأمير عبد القادر بتاقدامت التي كانت متكونة من مخطوطات ثمينة فخمة التجليد، وقد قدر المؤرخون قيمتها بـ 5000 جنيه استرليني. وقراءة لهذه الحادثة تؤكد أن الأمير كان في حروبه مثقفا لا يفارق الكتاب ممارساته . فالتحكيم إلى الكتاب والقراءة كانا المرجعية الدائمة والثابتة للأمير عبد القادر، وهو ما ينفي عنه " الفكر الفروسي " في اتخاذ المواقف .
وحين جاء الأمير عبد القادر مدينة المدية، استقر بما يسمى اليوم بدار الأمير، وهي تحفة معمارية أندلسية تركية واتخذ منها مقرا لسلطته السياسية والعسكرية من (1837 - 1840) ولكن الذي لم يتوقف عنده المؤرخون هو أن هذه الإقامة بمدينة المدية شكلت بالفعل النواة الأولى للمكتبة الوطنية الجزائرية، فالأمير عبد القادر كان يؤمن بأن الدولة الوطنية لا تقوم القيام السليم إلا إذا كانت لها "دار الحكمة" الخاصة بها والتي من خلالها يتم تقييم الإنتاج الفكري والأدبي والديني الذي ينتجه علماؤها وأدباؤها وفقهاؤها، ومن هنا عمد الأمير إلى جمع كثير من المخطوطات التي كان يقتنيها من محترفي مهنة الوراقة والتي كانت مهنة وتجارة رائجتين وكانت تنبكتو وشنقيط من المدن التي راجت فيها تجارة المخطوط .
حين استعادت الجزائر رفات الأمير عبد القادر سنة 1966، وتمت إعادة دفنها بمقبرة العالية، كان ذاك اليوم رمزيا كبيرا دون شك، ولكن الذي ينقص هذا الافتخار والذي لم يكتمل، لأننا ومرة أخرى تصرفنا بمنطق فروسي ولم نتصرف بمنطق الحكمة التي أوصى بها الأمير وعاش لها. كان من المفروض وبقايا عظامه تسحب من قبره الذي كان يرقد فيه إلى جانب أستاذه ومعلمه الأكبر صاحب الحكمة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كان من الأولويات استقدام مكتبته كاملة والتي كانت من أهم مكتبات دمشق، كما كان من المفروض استحضار كثير من وثائقه وأوسمته التي ظلت بدمشق، ويذكر المؤرخ المتخصص في الأمير برونو إتيان إنه وفي سنة 1970 في زيارة له لدمشق حدثه أحد المؤرخين الشباب السوريين عن وجود مئات المخطوطات والآلاف من رسائل الأمير الموجودة بمكتبة دمشق .
لقد عاش الأمير بين الكتب والمخطوطات ولم ينقطع عنها حتى وهو في أصعب الظروف التي عاشها مجاهدا مقاوما، رجل دولة، سجينا أو منفيا، كان الكتاب رفيقة الدائم. ومن عجيب الصدف أنه نقل من جوار محيي الدين بن عربي بدمشق ليجد نفسه لاحقا بمقبرة العالية إلى جوار كاتب كبير آخر هو كاتب ياسين ( توفي العام 1989 ) ، هذا الأخير الذي بدأ حياته الثقافية ووعيه الوطني بإلقاء محاضرة عن الأمير عبد القادر الجزائري وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق