بقلم: بشير خلف
الجمال في هذا الكون الفسيح أكبر وأكثر من إدراك الإنسان الفاني..الضعيف.. العاجز عن الإلمام بكل شيء ، فالكون أوسع من أن يحيطه الإنسان بعقله المحدود .. والأشياء التي تنتظم هذا الكون الفسيح ، إمّا أن تكون أجساما لها طول وعرض وعمق كالإنسان والحيوان ، والسماء والأرض ، والشمس والقمر ونحوهما ، وإمّا أن تكون معانٍ ، كالأقوال والأفعال والأسماء ، والصفات ونحوها.
إن لكل إنسان رؤية وردود فعل حول الجمال كمفهوم، والجمال كانطباع تجاه أشياء مادية وروحية مختلفة يتذوق جمالها عقلياً، تترك في نفسه إحساساً بالبهجة والارتباك والنشوى والدهشة. فهو المقياس، الذي يحدد جمال المادة، التي تترك لدى المتلقي، الانطباع والإحساس بالبهجة، سواء كان عن طريق التأمل العقلي أو السمع أو النظر أو التذوق.
« …الجمـال هـو التكوين الذي يجعل الدنيا والحياة موضعا للإعْجاب والحبّ .»
الفن صنعة وابتكار وإنتاج
إن الفن رؤية تعبر عن حياة الإنسان، وما يتعلق بها من أدوات، وأنماط مختلفة فمنها التعبير الشكلي، والصوتي، والحركي، ونحْو ذلك من أساليب التعبير التي يمارسها الإنسان وترتبط بشكل مباشر، أو غير مباشر بحياة الفرد اليومية. والفن وُلــد مع الإنسان منذ القدم في بدايات فطرية، وبمرور الزمن أصبح حالة جمالية مدروسة كما نراه اليوم..ولعلّ ممّنْ أحسنوا التعبير عن مفهوم " الفن" الأستاذعباس محمود العقاد في كتابه " ساعات بين الكُتب" :
« إن الفن في أصل اللغة هو الخطّ، واللون ومنه التقنين، بمعنى التزيين، والتزويق.والأفانين بمعنى الفروع، أو الضروب..وهكذا كل ما تعدّدت فيه الأشكال، والأوصاف ممّا يُنظر بالأعين، أو يُدرك بالأفكار.»
ومنه يمضي العقّاد في تعريف الفنان:
«…فالذي لا ريب فيه إذن هو أن لفظة " فنان" كلمة عربية، وقياس عربي؛ وأنها بمعنى الكثير الفنون، أو الكثير التزيين..لأن العرب تقول" فــــنَّ الشيء " أي زيّنه، فهو فـــانٌّ وفــنّان.
الفن الحقيقي ما سما بالذوق، وقرّب ما بين الإنسانية
الأديب الروسي ليو تولستوي في كتابه" " ما هو الفن؟" يربط ما بين الجمالوالفن اللذين رسالتهما تسعى إلى التعاون مع الدين، والعلم لإصلاح النفس البشرية من الداخل، وإقرار السلام في كل قلبٍ وعقلٍ؛حتى تقوم المحبة بين الناس مقام القانون، ولا تعود الإنسانية بحاجة إلى أدوات التنظيم الاجتماعي كالمحاكم، وقطاع الأمن، والهيئات الخيرية، وغيرها.
إن الفن الصحيح في رأي تولستوي هو ما وُضع عن الناس وللناس، وعن المجتمع، وللمجتمع، وعن الحياة وللحياة..والفن الأصيل عنده ليس الفن الطبقي الذي تشعر، وتتمتع بجماله، وتدرك مغزاه طبقة واحدة من طبقات المجتمع، بل إنه الفن الإنساني الذي يشارك في فهمه، والإحساس به، وتذوقه، والاستمتاع به جميع الأفراد، وجميع الطبقات، وسائر أبناء الإنسانية، والمعيار الحقيقي لكل فنٍّ هو قدرته على التقريب بين أبناء البشرية ليتحدوا شعوريا، وتسمو نفوسهم، فتهفو إلى الحقّ، والفضيلة، والعدل، والجمال في أبهى صوره.
الجمال إدراك واستمتاع
الفن يشير إلى العمل الإنتاجي، أمّا الجمال يشير إلى الإدراك والاستمتاع ؛ حيث أن الفن عملية خلْق وابتكار وإنتاج،وتنميق، وتحسين.. والجمال تقدير واستمتاع بسيمات وصفات موجودة في شيء ما مرغوب فيه،أي الجمال قيمة من القيم التي يتصف بها الشيء الجميل، وتشكل سمة له حين تتوفر فيه خصائص معينة ، فالفن هو عملية فعْلٍ لشيء معيّن، وينطبق هذا على الفنون الجميلة، كما ينطبق على الفنون التطبيقية كفن النجارة، والحدادة، والجواهر، وفن اللباس، والطبخ، والعمارة، والتلوين..أي كل ما يمسّ حياة الإنسان؛ أمّا الجمال يعني الخبرة من ناحية الاستمتاع والتقدير، أي أن الجماليوضّح نظرة المستهلك، لا نظرة المنتج.
مجالات الجمال متعددة، ولكم من أهمّها الجمال الطبيعي الذي لم تتدخّل فيه يد الإنسان، حيث هذا التدخّل قد يكون إيجابيا بفعل الصيانة، والوقاية، والتحسين، والتنميق..وهذا ما نسميه" الفن" وقد يكون تدخّل الإنسان سلبيا كارثيا مدمّرًا للجمال الطبيعي، وهذا ما نشاهده، ونعايشه في واقعنا اليومي، محليا، وجهويا، ووطنيا، وعالميا.
تمتّعُ الإنسان بجماليات الطبيعة وما تحتويها دفع بالبعض من علماء النفس إلى إطلاق ما يُسمّى ب: " الجماليات البيئية " وهي المتعة الجمالية التي يشعر بها الإنسان في البيئة التي يحيا فيها ، وخاصة الناحية الطبيعية منها .
إن الجمال الطبيعي هو أمرٌ عام، أو عالمي بين البشر، فعبْر التاريخ وفيما بين كل الثقافات ولا يزال حتى ساعتئذ، كان هناك ميْلٌ قويٌّ لدى الناس كافة لتفضيل القيمالجمالية للمناظر الطبيعية ؛ وبرغم ما يمكن أن يقال من وجود بعض المؤثّرات الثقافية فيما يتعلّق بالتفضيلات الطبيعية والقيم الجمالية ، فإن معظم الدراسات قد أشارت إلى أن أغلب الناس يفضّلون الأنواع نفسها من المناظر الطبيعية.
كما لو أن هناك معيارٌ عام للذوق الطبيعي، ويفترض بعض هؤلاء العلماء أن هذا المعيار فطري له دلالته التكييفية والتطوّرية، وعناصر الطبيعة التي فضّلها الناس والتي أشار إليها البعض في دراسات وأبحاث بيولوجية، وجغرافية، وسيكولوجية كثيرة كانت هي :
ـ وجود الماء ، خاصة الماء النظيف المتجدّد والضروري للحياة .
ـ وجود نباتات خضراء ذات أوراق يانعة نضرة تُبهج الناظرين، وترتبط بوجود الفاكهة والطعام والزهور بشكل عام .
ـ وجود أماكن مفتوحة كبيرة تُقدم الفرصة المناسبة لحرية الحركة .
ـ وجود أجمات من الأشجار المتفرّقة، ووجود شُجيرات خفيضة كثيفة الأغصان، ممّا يقدم نوعا من المأوى .
الإنسان السويّ بالفطرة أقرب إلى الجمال الطبيعي
إن المناظر الطبيعية التي تشتمل على العناصر السابقة وغيرها مما لم نذكره ، تكون هي أكثر البيئات إثارة لسرور الإنسان وارتياحه، وشعوره بلذّة الجمال الطبيعي .بعض الأماكن يكون مُريحا أو حتى جميلا ، وكأنه يدعونا إلى أن ننظر إليه، أو نتمنّى الإقامة فيه؛ بينما بعضها الآخر يكون مثيرا للكآبة والنفور والبعد. ويميل الناس عادة إلى تفضيل الأماكن التي تُوفّر لهم الطعام الكافي، والماء، والمأوى، والمعلومات، والمُتعة الجمالية، والتثبيت لحياتهم الإنسانية بشكل عام، وأن يتجنّبوا تلك البيئات التي لا توفّر تلكم الأشياء .
إن القرآن الكريم حثّ الإنسان المسلم على تأمّل الكون،والتدبّر فيما أبدعه الله فيه من مظاهر الجمال وهو وصولٌ إلى محبّة مبدع هذا الجمال، فالجمال سببٌ من أسباب حبّ الخالق..إن المسلم الحقيقي والسوي في رؤيته لنفسه، وإيمانه بخالقه، وبكلّ ما يحيط به يذكّره بالله..وكل ما في الكون يأخذ وجهته نحو الخالق.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه ، " إحياء علوم الدين " :
« … والمسلمون يحيطون أنفسهم بكل ما هو من شأنه أن يذكّرهم بالله ، فإن كل شيء داخل هذه الأمة يأخذ وجهته نحو الله عزّ وجلّ ، والجمال هو الطاقة المحرّكة للنفس الإنسانية من خلال فعْل الحبّ لله من حيث كونه عزّ وجلّ موضوع الجمال ، فالله جميلٌ يحبّ الجمال ، فالله الواحد الأحد هو منتج الخلْق ومبدع الجمال .»
مراجع:
1 ـ ماجد محمد حسن.الجمال في الفكر الإسلامي.موقع الحوار المتمدن.
2 ـ الإمام أبو حامد الغزالي ..كتاب إحياء " إحياء علوم الدين"دار المعرفة.بيروت.
3 ـ د.شاكر عبد الحميد . التفضيل الجمالي . سلسلة عالم المعرفة .267 دولة الكويت.
4 ـ الشيخ كامل محمد محمد عويضة.مقدمة في علم الفن والجمال.دار الكتب العلمية1996 بيروت.
5 ـ أ.عباس محمود العقاد.ساعات بين الكتب.دار الكتاب العربي.1969 بيروت ط2
6 ـ أ.محمود زمزم.تأمّلات في الأدب والفلسفة والحياة.ط1 1996 دار الكتاب الحديث.الكويت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق