الثلاثاء، 5 مارس 2013

الخطّاط الذي عمل مع كل رؤساء الجزائر الخطاط محمود اسكندر


الخطّاط الذي عمل مع كل رؤساء الجزائر
الخطاط محمود اسكندر

" بطاقتي أسعدت الشاذلي وهديتي دفعت بوتفليقة إلى العهدة الثالثة "
عندما التقيناه، كان قد عاد للتوّ من وزارة الخارجية، أين أتمّ كتابة رسائل اعتماد سفراء الجزائر بخط يده، واعتذر عن التأخير، بعدما كان قد ضرب لنا موعدا محدّدا لإجراء هذا الحوار بقصر مصطفى باشا، على هامش فعاليات المهرجان الثقافي الدولي للخط العربي…
المجاهد الخطاط عبد الحميد محمود اسكندر، هو "وزير القلم" كما لقّبه بعضهم، أو خطّاط الرؤساء مثلما أحبّ أن أسمّيه، قصّته مع رؤساء الجزائر المتعاقبين منذ الاستقلال، طريفة جدا، ولا تخلو من أحداث أشبه بالنكت، بداية ممّا حدث له مع الرئيس الراحل هواري بومدين، وانتهاء بالهدية التي قدّمها إلى الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، ولمّا علم الرئيس بوتفليقة بمحتواها، غمره شعور بالسعادة، وقال على مرأى ومسمع من أحد مستشاريه: "أنا سأترشح غدا… سأترشح غدا مادام الأمر قد جاء من اسكندر…".
مرحلة ما قبل دخول قصر المرادية
لا يتردّد عبد الحميد اسكندر، وهو من مواليد الجزائر العاصمة سنة 1939، عندما يشرع في سرد ذكرياته في الانطلاق ممّا حدث له لمّا كان طالبا بمدرسة تحسين الخطوط بجامعة القاهرة، والتقى يومها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأهداه كتاب "مآسي الاستعمار" الذي أشرف على إعداده، فأعجب عبد الناصر بالكتاب لأنّه تعرّف من خلاله على ما يعانيه الشعب الجزائري، خاصة ما حدث في 8 ماي 1945، وهي الأحداث التي مهّدت للعمل المسلّح. في هذه المرحلة يذكر اسكندر، أنّ من الذكريات التي يعتزّ بها، التكريم الذي أقاموه كطلبة للمجاهدة الرمز جميلة بوحيرد، عندما أطلق سراحها، وقامت بزيارة إلى الشرق الأوسط، شكّلت القاهرة إحدى محطّاتها، وأشادوا يومها بمواقفها البطولية، باعتبارها رمزا لكلّ الجزائريات الواقفات في وجه همجية الاستعمار الفرنسي. وقبل أن يتنقّل اسكندر إلى القاهرة، كان قد زاول تعليمه الابتدائي بمدرسة الزبيرية ومدرسة الشبيبة بالجزائر، ثم التحق بالتعليم الزيتوني في تونس سنة 1955 .
خطب الرئيس ابن بلة بلونين مختلفين
ربما لا يعرف الكثير من الجزائريين هذه الحقيقة، وهي أنّ أول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بلة، كان لا يقرأ خطبه إلاّ وهي مكتوبة بخط واضح ومشكول، إضافة إلى ضرورة أن تكون بلونين مختلفين. واعترف محمود اسكندر بأنّه أعان الرئيس الأسبق أحمد بن بلة كثيرا على إلقاء خطبه، كي لا يقع في الخطأ، وأنّ طريقته في كتابة خطب ابن بلة، كانت دافعا قويا لاستعمال اللّغة العربية. ويعتبر الخطاط اسكندر بأنّه كان جنديا بسيطا في طاقم أول رئيس للجمهورية الجزائرية، وتحت هذا المسمّى، تنقّل إلى العديد من الدول والتظاهرات التي شارك فيها ابن بلة .
إضافة إلى الخطب التي كان يسهر على كتابتها بخط على قدر كبير من الوضوح، عمل الخطاط محمود اسكندر على كتابة الرسائل الرسمية للدولة الجزائرية، ورسائل اعتماد السفراء الجزائريين في الخارج، حتى قبل أن يعتلي الرئيس أحمد بن بلة سدّة الحكم، وذلك منذ سنة 1958، وفي هذا المجال يذكر اسكندر أنّه كلّف عند تكوين الحكومة الجزائرية المؤقتة بكتابة رسالة اعتماد أول سفير تعيّنه الحكومة المؤقتة في الصين، وهو المناضل المرحوم مصطفى فرّوخي، الذي قضى نحبه وهو في طريقه إلى الصين إثر احتراق الطائرة التي كانت تقلّه.
ثلاثة أيام لكتابة خطاب بومدين في الأمم المتحدة
من أطرف ما يرويه الخطاط محمود اسكندر عن مرحلة الرئيس الراحل هواري بومدين، أنّه قضى حوالي ثلاثة أيام في كتابة الخطاب الشهير للرئيس بومدين الذي ألقاه في الأمم المتحدة .
ويؤكد اسكندر أنّ الخطاب كان مكوّنا من 125 صفحة، وألقاه بومدين باللّغة العربية، في سابقة لم تعرفها هذه الهيئة الأممية منذ تأسيسها .
ويذكر "وزير القلم" محمود اسكندر، أنّه كان يكتب رسائل وخطب الرئيس الراحل، دون أن يعرفه مباشرة، وأنّ أول لقاء له بالرئيس محمد بوخروبة، أو "بومدين العظيم" كما يحبّ اسكندر تسميته، تمّ بطريقة غير مباشرة، حيث يذكر أنّه لمّا جاء التصحيح الثوري 1965، الذي صحّح الآن، وتغيّر يومها شكل النظام، التحق بالمعهد التربوي الوطني، أين كان يشرف على إعداد الكتب المدرسية في كلّ المراحل، من الابتدائي إلى الثانوي. ولما جاء الرئيس بومدين، كانت لديه مشكلة كبيرة في قراءة الخطب، وبالأخصّ عندما تكتب بحروف صغيرة وضيّقة، ومن ثمّ كان يصعب عليه قراءة بعض القرارات التي كان لابدّ أن يطّلع عليها، فاقترح عليه بعضهم، وعلى رأسهم مدير التشريفات عبد المجيد علاهم، أمام هذه المشكلة أن يستعمل نظارات، لكنّ ردّ الرئيس بومدين على هؤلاء جاء صادما، وهو أنّه يفضّل الاستقالة، على أن يستعمل نظارات. هذا ما جعل مستشاري بومدين يصرفون النظر عن هذه الفكرة، وبدلا عنها اقترحوا عليه أن يجدوا له حلاّ سريعا .
وطلبوا من اسكندر الالتحاق بالعمل مع الرئيس بومدين، ويومها كان نورالدين اسكندر، شقيق الخطاط محمود، مستشارا إعلاميا للرئيس، فالتحق مباشرة بالعمل في كتابة رسائل وخطب هواري بومدين. وفي إحدى الزيارات التي قام بها بومدين إلى المعهد التربوي الوطني، وكان اسكندر، كما سبق ذكره، مشرفا على القسم العربي به، فاستقبله وقدّم له الشروحات الكافية لإعداد الكتاب من مرحلة المخطوط إلى غاية وصوله إلى يدي التلميذ، ووضع بين يديه كتاب "المحادثة والتعبير"، ولمّا اطّلع عليه سأل فيما إذا كانت حروف الكتاب مطبعية، فأجابه اسكندر بالنفي، وأكّد له بأنّها بخط اليد .
تدخّل عبد المجيد علاهم وهمس في أذن الرئيس، بأنّ من أشرف على خطوط هذا الكتاب هو محمود اسكندر، وهو من يخطّ رسائله، عندها خاطب بومدين اسكندر، وأمره بالالتحاق فورا بالرئاسة، وعيّنه بمرسوم رئاسي مكلّفا بمهمة سنة 1967. وهكذا شاءت الأقدار أن يرافق الخطاط الرئيس بومدين في كلّ رحلاته داخل الوطن وخارجه. وممّا يذكره عن بومدين أيضا، أنّه كان يعتزّ به كثيرا، لأنّه دأب على مساعدته في كتابة خطبه بطريقة مقبولة وواضحة. ومن المواقف التي أوردها عن الرئيس الراحل تلك الزيارة التي رافقه فيها في سبتمبر 1969 إلى ليبيا، يومها تمّ تغيير النظام من الملكية إلى الجماهيرية، وكانت هناك صعوبة تمثّلت في وجود قاعدتين عسكريتين إحداهما بريطانية، والأخرى أمريكية، وطلب القذافي وجماعته مشورة بومدين، وبدل النزول في طرابلس نزل بومدين في بنغازي، وأقام يومين، ولما انتهت الزيارة قدّموا للوفد الرئاسي بعض الصحف، وكان من عادة الصحف المشرقية أن تكتب العناوين بخطوط واضحة، فأمعن اسكندر النظر فيها، ومن عادة بومدين التجوّل في الطائرة والحديث إلى مرافقيه، حسب ما ذكر لنا خطاط الرئاسة، ووقف فجأة أمام اسكندر ليسأله إن كان ينظر إلى خطوط الجرائد، أم يقرأ أخبارها، فأجابه " الإثنين معا يا فخامة الرئيس " ، ما جعل الرئيس الراحل يبتسم .
في حادثة أخرى يذكر اسكندر أنّ الرئيس بومدين أوفده إلى باريس سنة 1971 لإعداد الأظرفة الخاصة برئاسة الجمهورية بخطوط بارزة ومذهّبة، وقام أيضا بإعداد بطاقات بأسماء الوزراء باللّغة العربية بعدما كانت تكتب بالفرنسية، الأمر الذي جعل الوزراء يبدون دهشتهم يومها، فردّ عليهم بومدين " من أسمائكم يبدأ التعريب " .
البطاقة التي أسعدت الشاذلي بن جديد
يذكر عبد الحميد اسكندر، أنّ الرئيس الشاذلي بن جديد كانت له صعوبة في قراءة الخطب، ولذلك كان يكتب له الخطب والرسائل بطريقة واضحة ومشكولة، حتى يستطيع القراءة بسهولة. ويحتفظ اسكندر بالكثير من الصور ضمن ألبومه، ومن بين الصور التي أكّد لنا اعتزازه بها، تلك التي أخذها في الحرم المكي سنة 1982، عندما رافق الرئيس الشاذلي بن جديد، وفتحت لهم أبواب الكعبة، ودخلوها. ومن الحوادث الطريفة التي ذكرها لنا، تقديمه في إحدى المناسبات بطاقة تهنئة أعدّها للشاذلي بن جديد من أجل تهنئة رؤساء وملوك الدول الإسلامية، ووضع عليها باقة ورد، ما جعل بعض مستشاري الرئيس يعترضون عليها، فطلب اسكندر من هؤلاء أن يقدّموا البطاقة للرئيس ليرى فيها رأيه، ولما قدّموها للشاذلي بن جديد ردّ بغبطة واضحة… "هذا ما كنت أتمناه، إنّ الجزائر هي وردة العالم".
كافي وزروال .. . وتستمرّ رحلة الرسائل والخطب
في فترتي حكم الرئيسين علي كافي واليامين زروال، واصل محمود اسكندر رحلته مع كتابة الرسائل والخطب الرئاسية. ومن بين ما يذكره، أنّ معرفته بالرئيس علي كافي، تعود إلى أيام كان فيها هذا الأخير سفيرا للجزائر في القاهرة، وكان اسكندر يومها الأمين العام لاتّحاد الطلبة المسلمين، ويذكر أنّه كان يتلقّى من كافي التعليمات، ويقدّم النصائح للطلبة، كما يعقد لقاءات مستمرة معهم، ولهذا السبب كانت معرفة اسكندر بكافي جيّدة، وتعود إلى أيام الثورة التحريرية، ولما استلم رئاسة المجلس الأعلى للدولة في 1992، سلّم عليه بحرارة.
بالنسبة للرئيس زروال، لم يتغيّر الأمر بالنسبة لخطاط الرئاسة محمود اسكندر، وتواصلت مسيرته مع الرسائل والخطب الرئاسية، ومراسيم تعيين السفراء الجزائريين في الخارج .
بوتفليقة : " ما قاله اسكندر هو الذي يكون "
منذ سنة 1965، لم ينقطع اسكندر عن مرافقة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي كان وزيرا في طاقم الرئيس هواري بومدين. ويؤكد "وزير القلم" أنّ معرفته ببوتفليقة جيّدة، وأنّه يساهم في كتابة خطب الرئيس، وتصحيحها في بعض الأحيان. ويلحّ الأستاذ اسكندر أن يذكر للتاريخ، بأنّ الرئيس بوتفليقة ينحاز إليه كلّما قدّم اقتراحا لتصحيح جملة، أو تغيير كلمة فيقول "ما قاله اسكندر هو الذي يكون". وهنا يورد خطاط الرئاسة القصة الطريفة التالية، "قبل أن يترشح بوتفليقة للعهدة الثالثة، قدّمت له لوحة أشرت فيها لأهمّ منجزات الرئيس في العهدتين السابقتين، وأعطيتها لمستشاره سعد الدين نويوات الذي تكفّل بإيصالها، ولما قرأها له، قال : " أهكذا قال؟ أنا سأترشح غدا مادامت هذه رغبة اسكندر " .
ومن الذكريات التي يعتزّ بها خطاط الرئيس، أنّ بوتفليقة أول ما عاد إلى رئاسة الجمهورية بعد غياب طويل سأل "هل ما زال اسكندر في الرئاسة أم لا"، فقيل له إنّه موجود، فدعا إلى اجتماع للإطارات لإصدار توجيهاته لهم، ولم يعلم اسكندر بالاجتماع، فعاود الرئيس الدعوة إلى الاجتماع ثانية، وفي نهايته قدّم ملاحظة بخصوص عدم حضور بعض الإطارات. وتشاء الأقدار أن يذهب الرئيس في رحلة إلى إيطاليا، وكان اسكندر ضمن الوفد المرافق، وفي اليوم الأول من الزيارة لم يرَ الرئيس خطاطه ورفيق دربه نظرا لكثرة الحضور، وعندما رآه في اليوم الثاني عاتبه قائلا: "أنا أحتجّ كيف أسأل عنك ولا تسأل عنّي… كيف لا تأتي إلى مكتبي؟"، هنا يؤكد اسكندر اعتذاره للرئيس بحجة كثرة مشاغله الرئاسية، وأنّه "أي اسكندر" لم يشأ طرق بابه في أيّ وقت، عندها مازحه الرئيس بقوله "سأحاكمك"، فردّ اسكندر "إن شاء الله تكون المحاكمة عادلة " فردّ بوتفليقة " وهو كذلك " .
الإبراهيمي نصبه " وزيرا للقلم " وزكّاه مولود قاسم
يعترف اسكندر بأنّ أول من أطلق عليه صفة "وزير القلم" هو الوزير الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي، وزكّاه فيها المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم. أمّا عن طريقة عمله بصفته خطاط رئاسة الجمهورية، فيؤكد أنّه كثيرا ما يسبق الرئيس إلى المواقع التي يزورها ليأخذ وقته في إعداد الكلمات التذكارية وكتابتها، ليأتي الرئيس بعدها للتوقيع عليها . إضافة إلى هذا، فإنّ الخطاط اسكندر يعدّ للرئيس خطّا مختلفا بحسب كلّ مناسبة .
ربما لا يعرف الكثير من الجزائريين أنّ ختم الجمهورية الجزائرية، وختم رئيس الجمهورية، هما بخط محمود اسكندر. وأنّ حيازته على العديد من التكريمات ليست مجاملة له، وإنّما كانت نظير الخدمات الجليلة التي قدّمها للجزائر الرسمية، وعلى أعلى المستويات، وبالرغم من تقاعده سنة 2002، إلاّ أنّه مايزال جنديا يقدّم خدماته دون تعب أو ملل .
ومن المواقف المؤثرة التي يذكرها اسكندر مشاركاته سنوات 1988، 1993، 1995 في مهرجانات بالعراق، والتقى في أحدها بالرئيس الراحل صدام حسين، وقدّم له لوحتين تحية من الشعب الجزائري على صمود العراق في وجه الحصار الذي ضرب عليه يومها، ولمّا قرأهما الرئيس الراحل تأثّر بها كثيرا، وسلّم على الأستاذ محمود اسكندر " وزير القلم " في الجزائر، وأهداه ميدالية ذهبية .
ـــــــــــــــــــ

يومية الشروق ليوم السبت: 12/06/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...