بوليفة.. الفنان المثقف الذي عاش بين الشعراء والكتاب
غاب صاحب رائعة
"ما قيمة الدنيا وما مقدارها" الفنان والملحن والمطرب محمد بوليفة، بوليفة
الذي ينتمي بشكل أو بأخر إلى عائلة الأدباء والشعراء أكثر مما ينتمي للفنانين، جاء
من اللحن والموسيقى والكلمة واستوطن العيش في وسط الأدباء والشعراء، يعتبر بوليفة أكثر
الملحنين الذين قدموا إضافة نوعية وفنية على درجة من الفنية والجمالية للأغنية الجزائرية،
وأكثر الملحنين الذين تعاملوا مع النص الشعري الجزائري، حيث اختار من الشعر ما كان
يراه مناسبا وموازيا للغته الموسيقية وذائقته الشعرية، وقد لحن الكثير من القصائد لعدد
من الشعراء الجزائريين من بينهم مفدي زكريا، مالك بوذيبة، عاشور فني، عز الدين ميهوبي،
عمر البرناوي، وطبعا لحن أكثر قصائد صديقه وتوأمه الفني سليمان جوادي، كما لحن قصائد
لشعراء عرب منهم محمود درويش وسميح القاسم. بوليفة لحن لأميرة الطرب العربي وردة الجزائرية
"بلادي أحبك فوق الظنون" من شعر مفدي زكريا، كما لحن الكثير من الأوبيرات
مثل «قال الشهيد»، «حيزية»، «علي معاشي»، «إلياذة الجزائر»، «غنائية إفريقيا» وغيرها
من الأوبيرات الوطنية والتاريخية والعاطفية، كما لحن بعض الأعمال المسرحية الغنائية،
بالإضافة إلى العديد من الألحان لكبار الفنانين والمطربين الجزائريين. تُرى ما قيمة
الفن وما مقداره بعد غياب بوليفة الذي يعد أحد أكثر الملحنين والفنانين الجزائريين
ثقافة وإبداعا وأصالة. هنا شهادات بعض أصدقاء الراحل من الكُتاب والفنانين تؤكد على
قيمة الرجل والفنان وتقول ببلاغة التقدير والاعتراف والمحبة: "بوليفة في ذمة الفن
والموسيقى والوجدان والأصدقاء".
عياش يحياوي/ شاعر وباحث
كان من أوائل الملحنين الجزائريين الدارسين والمثقفين
ليست فجيعة رحيل الصديق الفنان محمد بوليفة سوى
حلقة من سلسلة فجائع وقعت على رأسي الصغير الذي فقد توازنه منذ أيام الطفولة الأولى.
إن الكتابة عن رحيل صديق عزيز مثل بوليفة والإطناب في ذِكر خصاله يبدو محاولة منا الإختفاء
خلف ستار الصدمة، أو هو في لاوعينا الباطن أشبه بمحاولة استرجاعه من بين براثن الموت.
أحاول الآن طرد مطر من صور الذكريات ينزل على رأسي، محمد وهو يحتضن عوده، محمد وهو
يدافع عن رأيه بشراسة، محمد وهو يعطف على مسكين ويقدم له المساعدة، محمد وهو يغني مبتسما
حينا، وحينا منخطف الروح، محمد وهو في المهرجانات وهو في البيت وفي السيارة. لكل حالة
من هذه الحالات أحاديث وصور لا يمكن أن تُنسى. على الوجه العام، يمكن اعتبار محمد بوليفة
من أوائل الملحنين الجزائريين الدارسين والمثقفين، وربما يكون أولهم. وقد ارتبطت خطواته
في الجزائر العاصمة منذ عودته من العراق بأطياف من المثقفين، منهم الشعراء، ومنهم أساتذة
الجامعات، ومنهم الروائيون والقصاصون والتشكيليون. لا يمكن أن يمر أسبوع من دون أن
يكون بوليفة على تواصل مع أكثر من مثقف. لقد حدّد مساره منذ عودته من العراق، إحياء
التراث الغنائي والإبداع فيه، والانصهار في محيط المثقفين والفنانين. غير أن من عوالم
بوليفة المثيرة للانتباه أنه عطوف وخفيف الروح إلى درجة لا تصدق، في ذاكرتي صور عن
دفاعه عن فتاة صغيرة السن لا يعرفها ولا تعرفه، بل أذكر أنه منحها بعض المال وطلب منها
العودة إلى بيت أهلها فورا. وفي ذاكرتي دفاعه عن المظلومين خاصة إذا كانوا من بسطاء
الناس. نعم، كانت تتلبس بوليفة حالات من الغضب العالي، بسبب حساسيته المفرطة، لكنه
بعد دقائق يهدأ ويبتسم ويدخل النهر اليومي وكأن شيئا لم يحدث. من المدهش أن بوليفة
أصبح ابن العاصمة الجزائر بامتياز، حتى وإن لم يعط لنفسه هذه الصفة يوما، فقد كان يعرف
العاصمة في تفاصيل ليلها وتفاصيل نهارها، وأعتقد أن طبيعة علاقته بالناس على اختلاف
طبقاتهم وبالأمكنة على اختلاف هوياتها يشكلان ذاكرة فنية واجتماعية زاخرة بالتوثيق
للمرحلة التي عاشها، إذا تكرم أصدقاؤه بالكتابة عنه، كل واحد من الزاوية التي عرف بها
فقيدنا محمد بوليفة. ها أنت يا محمد قد أصبحت موضوع كتابة لي بعد رحيلك، هل أسألك كيف
حالك؟ هل أقول لك إني مشتاق لك، وأني كنت سعيدا جدا بالأيام التي قضيتها معك في أبو
ظبي خلال الأسبوع الثقافي الجزائري؟ وهي آخر أيام أعيشها قريبا منك. لم أكن أدري أنها
آخر الأيام وإلا كنت فعلت أمرا لا أدرك ماهيته الآن. هذه ليلتك الأولى في القبر، وليلتي
الأولى في الفقدان، أدرك أني لن أصافحك إذا عدت إلى الجزائر، ولن أعانقك ولن أشرب معك
قهوة الصباح، ولن تروي لي نكتتك القديمة التي ظللت مُصرّا على روايتها لأصدقائك المقربين
الذين حفظوها وحفظوا عدد كلماتها وحروفها. سأنزل في مطار الجزائر ـ إذا نزلت ـ وأنت
نزيل القبر يا محمد. إن العاصمة ستبدو فارغة تماما وسيختفي منها البشر في ذلك اليوم.
وسأكون خفيفا إلى درجة الذهول. لا تنس يا محمد وأنت هناك أن تذكرني فأنا سأظل أذكرك
ما طلعت الشمس وأضاء القمر على جسدي وقلبي.
سعيد بوطاجين/ كاتب وناقد
لم يعش مطربا وملحنا فحسب، بل قارئا وإنسانا لا
يتنازل عن المبادىء
كان محمد بوليفة بالنسبة إلي أخا وبعض الوطن. لقد
عشنا معا حياة من الفن وما يشبه الكرامات، وكان معنا مجموعة من الكُتاب والأكاديميين
المكرسين وطنيا وعربيا: أبو العيد دودو، عبد الحميد بورايو، الشاعر العراقي محمد حسين
الأعرجي، الشاعر السوداني عبد الرحمان جيلي، عبد العزيز بوباكير، أحمد خياط، سليمان
جوادي، فني عاشور، عمار مرياش، الدكتور أحمد الأمين وأخوه محمد الصغير، وهناك مجموعة
من المسرحيين والمخرجين الذين كان يستضيفهم يوميا في بيته بالعناصر. في هذا الجو الإبداعي
كبرنا معا وعشنا سعادات البلد ومتاعبه. وكنا نصنع حياتنا كما نتصورها. سافرنا كثيرا
إلى الجنوب وتناقشنا في قضايا الجمال، الشعر، الموسيقى، الفن الدرامي. وكان بيته لا
يختلف عن النوادي الأدبية. لم تكن لمحمد علاقات سوى مع هذه النخب التي جاء منها، ومنها
استمد ثقافته وكلماته وخياراته. عادة ما حضرت كيف كان ينتقي القصائد، كيف يكتب وكيف
يبدأ في التلحين. وكان يأخذ بملاحظاتنا رغم علمه أننا لسنا متخصصين في الشأن الموسيقي،
مجرد متلقين يتذوقون الأنغام. كان ذلك ديدنه. أحسب أنه لم يعش مطربا وملحنا فحسب، بل
قارئا وإنسانا لا يتنازل عن المباديء، ومن ذلك مسألة التعامل مع اللغة وما يجب أن يغنى،
رغم
التحولات التي شهدتها الأغنية في السنين الأخيرة.
وكان يتألم لذلك. كان الذوق يسيخ والأموال تصنع السقوط، سقوطنا. وما من حل. أذكر أيضا
إنسانيته الراقية، وهذا أساسي، ثم هذه القناعة الإلهية. كان يعيش على الكفاف أحيانا،
وخاصة في الثمانينيات، لكنه ظل كريما رغم الخصاصة. هناك في الطابق الحادي عشر الذي
جمعنا أعواما كتبنا المسرح والقصة والشعر وترجمنا كثيرا، ولا أعتقد أن هناك في الجزائر
مطربين عاشوا مع الكُتاب والجامعيين مثل بوليفة. كان ظاهرة رحمه الله ورحمنا. لقد أحسست
بموت أحد أعز الجزائريين وأقربهم إلى روحي. كان بوليفة من طينة الكبار. وها إني أستعمل
كان رغما عني. يا إلهي. لم أقدم تعزية لعائلته، ولن أفعل، لأني أولى بها.
سليمان جوادي/ شاعر
بوليفة أكبر الملحنين الجزائريين وآخرهم
صعب أن يكتب الواحد منا عن نفسه وعن مسيرته الأدبية
والفنية لأن سعادتي عن الراحل الكبير محمد بوليفة تدخل في هذا السياق فمسيرتنا واحدة
وأحلامنا كذلك. إنها عشرة عمر بحلوها ومرها تقاسمنا مع بعض كل ما يمكن أن يتقاسمه الإخوة
كانت نظرتنا للعالم وللأشياء متطابقة متشابهة. أعلن في البدء أن محمد بوليفة هو أكبر
الملحنين الجزائريين وآخرهم دون مراء أو مبالغة، تعاملت مع أغلبهم وأؤكد ذلك. بوليفة
رحمة الله عليه ما أن يقرأ نصا شعريا وينتهي منه حتى يتحيل لحنه ويضعه في سويعات معدودات
بعكس بعض الملحنين الذين يجدون صعوبة في تقطيع الشعر وفي فهمه والذين تستغرق عملية
التلحين عندهم أشهرا إذا لم أقل سنوات. أريد أن أصحح معلومة وردت في كثير من الصحف
وهي أن بوليفة بدأ التلحين لما عاد من العراق وهذا خطأ فهو كان ملحنا ومطربا قبل ذلك
بكثير، إنما صقل موهبته في العراق بمعهد الفنون النغمية. وبعض الصحف قالت إنه تتلمذ
على سليمان جوادي والسعيد بوطاجين وعاشور فني وغيرهم وهذا هراء مجانب للحقيقة فثقافة
الرجل واسعة جدا وكنا نستفيد من بعضنا البعض وربما أخذنا منه أكثر مما أخذ منا. رحمة
الله عليه وأسكنه فسيح جناته.
طاهر ومان/ رسام
كان يلحن ويؤدي كلمته أمانة أمام سجل التاريخ
تعرفت على المرحوم محمد بوليفة في ربيع سنة
1978، أين أبهجنا وأمتعنا بسهرة مروعة، موسيقى وكلمات وتأثر عند الأداء، كان ذلك ببيت
الصديق سليمان جوادي رفقة مجموعة من الأصدقاء: محمد الصالح حرز الله، عبد العالي رزاقي،
أحمد حمدي وغيرهم. كانت رائعته "عاد القطار من البلد، ذهب القطار ولم يعد"
منارة مضيئة لمسيرة متميزة واثقة المنال. وشاءت نفس السنة بأن نترافق ضمن وفد ثقافي
لتمثيل الجزائر بالمهرجان العالمي للشبيبة والطلبة الذي احتضنته العاصمة الكوبية
"هافانا" تنقلنا على متن الباخرة "ناخيموف" السوفياتية من وهران
إلى هافانا وطالت الرحلة الصيفية شهر ونصف ذهابا وإيابا، فأكد بوليفة مهارته وصدق تأثره
وتألقه في الأغنية الملتزمة التي جمعته مع أسمى الفنانين عبر العالم وكانت القنوات
التلفزيونية والإذاعات تتنافس على تسجيل حفلاته. وتفاخر الوفد الجزائري بحضور الفنان
كما كان المصاحبون لهذا اللقاء العالمي يجمع من الجزائر كل من د.محمد سعيدي، رشيد بوجدرة،
جمال علام، مارتيناز، الحبيب السايح، كما كان النشاط يعجب أسماء ثقافية عالمية وحظيت
الجزائر بمكانة خاصة، حيث أعطى الرئيس هواري بومدين أهمية للحدث واستقبلنا عشية التوجه
نحو كوبا. حضور بوليفة في اللقاءات الثقافية الوطنية كان بمثابة موقف وثقة في مهمته
الفنية، حيث فاجأ كل الرسميين من جزائريين وإماراتيين سنة 1997 قبل تقديم حفل جزائري
بـ "خور دبي" ورفض أن يقدم البالي الوطني عرضه في ظروف تنظيمية لا تليق بمقامه،
ففرض رجوع الحافلة إلى الفندق حتى وُفِرت الوسائل التي اشترطها بوليفة لتقديم الحفل
بعد يوم. إنه كان الصادق في اختيار ما يلحن ويؤدي كلمته أمانة أمام سجل التاريخ، وكم
تشهد شخصيته والتزامه العامل المشترك مع شريكه في رفع الكلمة المنارة صديقه وحميمه
الودود سليمان جوادي. وهكذا عرفنا محمد بوليفة رحمه الله بـ "قيمة الدنيا"
من دون مجاملة ولا فتاوى آنية. رحمه الله وأسكنه جنة الفن النافع للبشرية جمعاء.
نادية بارود/
فنانة
كان أول من شجعني وفتح لي أبواب الأوبيرات
بوليفة هو أول من أعطى لي الحظ في أوبيرات
"حيزية" وأول من فتح لي أبواب الأوبيرات وأول من أعطاني فرصة في هذا العمل
الجميل، رغم أنني كنت في بداياتي وفي أولى خطوات الفن إلا أنه وثق في قدراتي وآمن بي
وشجعني واختارني ومنحني الدور الرئيسي في الأوبيرات، ومن تلك الفترة 1995 نشأت صداقتنا
وتعمقت وأصبحنا عائلة واحدة، وفي تلك الفترة حفزني كثيرا على الثقة في صوتي وفي قدراتي
ونحن في زحمة التحضيرات والتدريبات في أوبيرات "حيزية" رغم وقوفي لأول مرة
أمام عمالقة الفن مثل محمد عجايمي، جهيدة، يوسفي توفيق، إلا أنه شجعني بطريقة رائعة
وكبيرة وأبدا لم يُشعرني أنني في بداية الدرب. منذ ذلك اليوم وأنا أحب العمل معه وأرحب
بكل ما يطرحه ويقدمه لي. كان دائما يمزح معي ويقول لي: "يا القبائلية عندك عُرب
في صوتك عربية خالصة وقوية"، دعاني العام الماضي في ديسمبر 2011 لمهرجان الأغنية
السوفية، والحقيقة كان مهرجانا كبيرا وناجحا. الفن الجزائري فقد كثيرا برحيله. موته
خسارة كبيرة جدا لنا وللفن الجزائري بكل طبوعه.
فؤاد ومان/فنان
رقم مهم في معادلة الفن الجزائري
بوليفة، هذا الفنان الرائع إنسانا ومبدعا، لم يكن
مجرد فنان جزائري أحببناه وأحببنا فنه، بل هو رقم مهم في معادلة الفن الجزائري الغني
بالألوان الموسيقية والإيقاعات والطبوع. تميز منذ أول ظهور له ولفت انتباه كل من استمع
إليه سواء في غنائه الفلكلوري أو الفصيح وكان يتعمد الإختلاف عن البقية وبنى صرحا مميزا
وأسلوبا خاصا به. رغم كل ما قيل ويقال وما سيقال، بوليفة يحبه كل فنان حقيقي غيور على
ثقافة بلاده، سيبقى فن بوليفة وستنتقل إلى رحمة النسيان كل فقاقيع الرداءة والتفاهة
الفنية التي وُضعت في الواجهة رغما عنَّا دون أن تحدث أثرا إيجابيا في النفوس. سنرحل
الواحد تلو الآخر في زمن ظلمنا ولم ينصفنا وأراد وأد كل مجهوداتنا حبا للبلد ودفاعا
عن شخصية البلد. خذوا كل شيء لكن لن تستطيعوا محو محاولاتنا البريئة الصادقة في تقديم
فن جميل للناس التي أحبتنا بصدق. بوليفة لم يمت، سوف نكمل الرسالة حتى النهاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق