صورة الجزائر في ثلاثية محمد ديب
مؤثرات عامة على الرواية الجزائرية:
لقد كان للاستعمار الفرنسي على الجزائر والذي امتد من عام 1830الى عام 1962، أثرا على المجتمع الجزائري بنواحيه المختلفة.فإضافة إلى الفقر والجوع اللذين طبعا واقع الجزائريين، كانت المذابح كمذابح 8 ماي 1945 تميز الواقع السياسي.
وهكذا كان الأدب الجزائري. والرواية على وجه الخصوص، رهينة هذا الواقع الذي سيطر عليه الاستعمار لما يزيد عن القرن وصبغه بكل ألوان الظلم والبؤس. وهكذا أيضاً كان الروائيون الجزائريون شهوداً على أوضاع مجتمعهم متفاعلين مع ما يجري حولهم.
وانطلاقاً من هذا الواقع فقد ارتبط الأدب الجزائري بالاستعمار بدءاً من كتابات الإصلاحيين بريادة جمعية العلماء المسلمين وعلى رأسهم عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي والعربي التبسي وغيرهم وصولاً إلى الذين واصلوا المعركة الأدبية بعدهم.
ومنه فقد ولد الأدب الجزائري حاملاً بذور الثورة والحرية، مدافعاً عن القيم الإنسانية في مفهومها العام. وولدت الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية في ظروف خاصة، ساهمت في صبغ الأدب الجزائري بروافد أدبية أخرى.
الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية:
أسباب الظهور:
لم تكن ولادة الرواية الجزائرية عموماً من فراغ، بل كان ذلك عبر مسار طويل قطعته منذ العشرينيات. فقد ظهرت عدة أعمال عامي 1917 و1920. ثم كان الانتشار بين سنتي 1920 و1930 لروائيين من أمثال : عبد القادر الحاج حمو وشكري خوجة. وأُرخ للرواية المكتوبة بالفرنسية بسنة 1920، برواية أحمد بن مصطفى القومي للكاتب أحمد بن شريف.
وقد عالجت الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية ، موضوعات عديدة أهمها تعلق بالجانب الاجتماعي والسياسي والثقافي.
وهكذا وجد الأدباء الجزائريون أنفسهم في مواجهة لغة الجانب الأقوى (المستعمر) فكانت سبيلهم لمحادثة هذا الطرف في ظل الظروف التي فرضها هذا المستعمر على اللغة العربية بصفتها لغة الجزائر الأم. ولا أدلّ على ذلك من قول ابن باديس وهو الصنهاجي الأصل:
شعب الجزائـر مسلـم * والى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله * أو قال مات فقد كذب
ولأن اللغة تعتبر جزءاً هاماً من هوية الأمة فقد استعملت فرنسا كل الأساليب للقضاء على العربية.
لقد مرت الجزائر بظروف استعمارية منذ احتلالها عام 1830، وكان للاحتلال تأثير كبير على الحياة بمختلف ميادينها وعلى الحياة الأدبية بصفة خاصة. ومنه فإن غزو فرنسا للجزائر كان غزواً شاملاً " كان يهدف إلى التغلغل في أرض الجزائر واحتلالها احتلالا شاملا ودائما،ولم يكتف منه الغزاة بالسيطرة على أراضيها ونهب خيراتها وإذلال أهلها فحسب، وإنما يذهبون فيه إلى أبعد من ذلك، بالنيل من الأسس المعنوية والمميزات الحضارية للشعب الجزائري والطعن في عقيدته وتشويه قيم تراثه وطمس معالم شخصيته"(1). ولعل هذه الظروف التي كان يعيشها الشعب الجزائري من جوع وبؤس وجهل، هي ما جعلته يخوض معركة شاملة. ومنه، فالمتصفح " لتاريخ كفاح الشعب الجزائري يُدرك أن مواجهته للمحتلين الفرنسيين كانت شاملة في جميع الجبهات: المقاومة المسلحة، المواجهة الفكرية والجهاد السياسي"(2). فهذه المعركة الشاملة مكنت الشعب الجزائري من مواجهة الغزو الفرنسي. وقد انعكس كل هذا على الأدب الجزائري.
وبحكم هذا، عاش الجزائريون جنباً إلى جنب مع الفرنسيين ولكن كخطين متوازيين على حد تعبير الأديب عبد الحميد بن هدوقة. وبحكم هذا التعايش والزحف المتزايد للفرنسيين كمستوطنين، ظهرت مجموعة من الأدباء الفرنسيين ولدوا وعاشوا بالجزائر من أمثال: إيزابيل ابرها ردت وآلبير كامي.
كما أبرز الصراع بين الثقافتين المحلية والاستعمارية اتجاهين رئيسيين:
أ ـ اتجاه محافظ يرفض التجديد والإقبال على الثقافة الاستعمارية حتى لا يكون ذلك انتصاراً للمستعمر.
ب ـ اتجاه مجدد، مثلته مجموعة من الكتاب أقبلت على الثقافة الاستعمارية وعلى رأسها الأدب.
وتبعا لهذه الظروف، فقد ظهرت مدرسة "شمال إفريقيا" المعبرة باللغة الفرنسية و" لقد ضمت هذه المدرسة فئتين من الكتاب، أما الأولى فهي تمثل جزائريين من أصل فرنسي ولدوا وعاشوا بالجزائر ومنهم: إيزابيل ابرها ردت، روبليه، غابرييل أوديسيو، جيل روا، ادموند يروا، آلبير كامي" (3). أما الفئة الثانية، فكانت من الكتاب الجزائريين من أصل جزائري والذين تمكنوا من أن يفرضوا أنفسهم في مجال الأدب بعد أن اتخذوا اللغة الفرنسية وسيلة للتعبير. ومن هؤلاء:
1-مولود فرعون:
هو صاحب الروايات الشهيرة Le fils du pauvre (ابن الفقير) الصادرة عام 1953، وLa terre et le sang (الأرض والدم) وLes chemins qui montent (الدروب الوعرة) عام 1957. يقول عنه أحد الكتاب(إيمانويل روبلس):" فرعون لم يكن إنساناً طيباً وهادئاً فحسب، بل أهم من ذلك كان مثقفاً، كان يقرأ أكثر منّا جميعاً، وكان يلتهم الكتب ببساطة، كان يضمر الإجلال للكتّاب الروس ويحب فرنسيي القرن الثامن عشر"(4). اهتم فرعون بالبيئة القبائلية وتصوير عاداتها وتقاليدها إضافة إلى تصوير بؤس الشعب الجزائري في العشرينيات.
2- مولود معمري:
صاحب رواية La colline oubliée (الهضبة المنسية) الصادرة عام 1952، وL’opium et le bâton (الأفيون والعصا) عام1955. وقد تميّزت أعماله بمسايرتها للوقائع السياسية، إضافة إلى تصوير المجتمع القبائلي بكل خصائصه. كما تناول الثورة الجزائرية التي انخرط فيها " بعد الحرب العالمية الثانية، فلم يستطع كاتب أن يصور بهذا العمق تلك المعاناة النفسية التي يعيشها الفرد الجزائري العادي، والفرد المثقف، والبرجوازي الصغير أمام تلك التجربة كما يصورها معمري"(5). كما تميزت أعماله بالانتظام والتشويق.
3- مالك حداد:
كتب مالك حداد بالفرنسية ولكن كتاباته ظلت كوثيقة ثورية تبين إيمانه بقضية شعبه. صدرت له مجموعة من الأعمال الأدبية أهمها: Je t’offrirai une gazelle (سأهبك غزالة) عام 1959. وLe quai du fleures ne se répand plus (رصيف الأزهار لم يعد يجيب) عام 1961. وقد دارت رواياته حول الثورة الجزائرية. كما" أن شخصية الكاتب، والثورة تشكلان نبعاً غزيراً لرواياته" (6). و المعروف أن مالك حداد توقف عن الكتابة بعد استقلال الجزائر خجلاً من الكتابة بلغة المستعمر.
4- كاتب ياسين:
صاحب Nedjma (نجمة) الصادرة عام 1956. و نجمة هي الجزائر الجميلة التي مزقتها مآسي وآلام حرب التحرير (7). واعتبر النقاد هذه الرواية أجمل نص بالفرنسية لكاتب من أصل غير أروبي. وعبر ياسين بصدق عن فترة مؤلمة من حياة الشعب الجزائري.
الكتابة بالفرنسية في ميزان الكتاب:
شكلت الكتابة بالفرنسية محوراً هاماً في الأدب الجزائري المعاصر. فهي لغة المستعمر الذي استوطن الجزائر وسعى إلى محو وجودها. ورغم الكم الهائل من الأعمال المكتوبة بالفرنسية، فإننا نقف أمام مشاعر أولئك الكتّاب وآرائهم المختلفة حول الكتابة بلغة ليست لغتهم.
فمنهم من شعر بالنقص تجاه لغة المستعمر كـ مالك حداد الذي يقول:" لقد أراد الاستعمار ذلك، لقد أراد الاستعمار أن يكون عندي هذا النقص، لا أستطيع أن أعبر بلغتي" (8). فهو يحسّ بعجز وغربة وبألم قاسٍ كلّما أراد أن يعبّر عن أفكار وآمال ومشاعر جزائرية بلغة فرنسية.
أما الروائي محمد ديب فيؤكد أن الكتابة بالفرنسية سلاح للتعبير عن آلام الشعب وليست انتماء للثقافة الفرنسية والأدب الفرنسي فيقول: " إن كل قوى الخلق والإبداع لكتّابنا وفنانينا بوقوفها في خدمة إخوانهم المظلومين تجعل من الثقافة سلاحاً من أسلحة المعركة… ولأسباب عديدة فإننا ـ ككاتب ـ كان همي الأول هو أن أضم صوتي إلى صوت المجموع.."(9). وإذا كان هذا موقف ديب فإن الروائية آسيا جبار، ترى أنها تكون في مشكلة كلما أرادت التعبير عن عواطف وأفكار عربية باللغة الفرنسية لكنها مع ذلك لا تنكر فضل هذه اللغة.
أما الروائي مراد بوربون فيرى أن اللغة ليست ملكاً لأحد " إن اللغة الفرنسية ليست ملكاً خاصاً للفرنسيين. وليس سبيلها سبيل الملكية الخاصة، بل إن أية لغة إنما تكون ملكاً لمن يسيطر عليها ويطوّعها للخلق الأدبي أو يعبّر بها عن حقيقة ذاته القومية"(10). فاللغة أداة تعبير لا أكثر.
كما أن الكاتبين مولود معمري وكاتب ياسين، لا يشعران بحرج أو ازدواج في كتابتهما باللغة الفرنسية، ويعتبران إتقانهما لهذه اللغة إثراء للثقافة الجزائرية.
الجزائر في ثلاثية محمد ديب:
صور محمد ديب في ثلاثيته La grande maison (الدار الكبيرة)،L’incendieالحريق،Le métier a tisser (النول)، مرحلة من تاريخ الجزائر بين سنتي 1939-1942. فتجري الأحداث في الجزء الأول بإحدى دور مدينة تلمسان وهي دار سبيطار التي تقطنها العديد من العائلات الجزائرية. بينما ينقلنا في الجزء الثاني إلى عالم الفلاحين بقرية مجاورة لتلمسان وهي بني بوربلان ويصل بنا أخيراً إلى أحد مصانع النسيج ليبين آلام وآمال عماله.
تشكلت صورة الجزائر في الثلاثية من خلال شخوصها الذين أذلهم المستعمر وسلبهم كرامتهم وإنسانيتهم وأراضيهم ليصبحوا أجراء في أراضيهم، إضافة إلى سياسة التفقير التي مارسها المستعمر على الشعب الجزائري. والتي عبر عنها ديب بالخبز Le pain إذ تكون الشخصيات في رحلة بحث عن الخبز. أو الجوع بمفهومه القريب والبعيد. ويستهل روايته الدار الكبيرة بجملة " أعطني قطعة خبز"(11). وهكذا يتابع الأطفال في المدرسة رحلة بحثهم عن الخبز، منبهرين بما يخبرهم به الفتى صاحب المكانة العالية إدريس خوجا عن أكله، فيقول الكاتب:" كان الأطفال يقفون زائغي الأبصار مبهوتين وهم يستمعون إلى حديثه المليء بذكر هاته الأطعمة.. إن الأعين كلها تشخص إليه وتفحصه تفحصاً غريباً ويسأله أحدهم: أكلت وحدك قطعة كبيرة من اللحم هكذا؟ أكلتُ وحدي قطعة من اللحم هكذا. وخوخا مجففا؟ وخوخا مجففا.."(12). لقد قتل الجوع في أولئك الأطفال أحلامهم التي لم تعد تتعدى الحصول على قطعة خبز. وبمقابل حديث إدريس عن الأطعمة المختلفة، نجد عيني والدة عمر بطل الرواية " تصب في طبق معدني كبير الحساء المغلي، وهو حساء بالشعيرية المفتتة والخضار ولا شيء غير هذا.. ويبلغ الأمر في كثير من الأحيان أن تكتفي بصب الماء في الحلة، فيظل يغلي لغاية ما يأخذ الكرى بأجفان أطفالها، وكانت تلجأ لها نساء كثيرات.. وبهذا كانت أُسر الدار الكبيرة تخادع الجوع ويخادعها الجوع مرات عديدة، فحياتهم تنقضي في خداع الجوع.."(13). إنها الإنسانية المهانة من الاستعمار فإذا الشخصيات في دار سبيطار تتحول إلى كائنات بلا كيان، حلمها وشبحها هو الخبز وكيفية الحصول عليه. ولأنهم لا يحصلون عليه فهم يتحايلون عليه. يقول:" كانت عيني فيما مضى من زمان، تستطيع أن تهدئهم بحيلة ماكرة، كانوا يومئذ صغاراً كان يكفي أن يكون عندها قليل من فحم عند المساء حتى تملأ الحلة ماء وتدع الماء يغلي على النار وتطلب إلى أولادها الذين ينتظرون بفارغ الصبر أن يهدأ وتقول لهم : اصبروا قليلا.. فيغلبهم نعاس لا حيلة لهم فيه"(14). وتواصل الشخصيات صراعها مع الجوع ومخططاتها لكي تهزمه عن طريق التقشف في المال الزهيد الذي تجنيه مريم وعيوشة. يقول ديب:"ربما استطعنا أن نشتري قليلاً من اللحم من حين لآخر أليس كذلك يا أمي؟ ربما نستطيع أن نشتري بيضاً إنه أرخص ثمناً من اللحم ما رأيكم أنتم؟"(15). ويواصل الروائي رحلته مع عائلة (عيني) التي تحاول التصرف بذاك المبلغ البسيط من المال، فيبرز رأي عمر ووالدته (عيني) اللذان يرفضان رأي الفتاتين فيقول ديب:" لكن عيني وإبنها عمر يرفضان رأي الفتاتين ويصران على أن ضآلة المبلغ الذي يجنيانه من عملهما لا يكاد يغطي مصاريف الدقيق الواجب شراؤه كل يوم. والخبز عند عمر كل شيء ويجب الحصول عليه.. إن أحلامه لا تذهب إلى أبعد من هذا.."(16). وهكذا شكل الجوع مدار الجزء الأول من ثلاثية ديب ليبدأ الجزء الثاني (الحريق) عام 1954. إنه عام الثورة وهو أيضا عام لم يخل من الجوع، إذ يستهل الروائي هذا الجزء بالحديث عن الجوع فتسأل (ماما) زوجة (قارة الثري) عمر"أأنت جائع؟ نعم"(17). وهكذا يقدم ديب الوضع العام للفلاحين وهم يقدمون خيرات أرضهم للمستعمر كما يصف حالة فقرهم الذي تبينه أكواخهم. ويظل الجوع يطاردهم وهم يعملون بأجور زهيدة جداً ويبدأ الحديث عن الجوع يضمحل في الجزء الثالث (النول) رغم الفقر الذي يستمر بين العمال حيث" تبدو ظاهرة الفقر مرسومة على ملامح عمال النسيج بالرغم من حصولهم على الأجرة كل شهر.. فهل استطاع أحدهم أن يغير من حالته المادية منذ دخل مصنع النسيج؟ دخل فقيراً معدما ولايزال فقيراً وقد بلغت رأفة العمال على ما هم فيه من عوز أن راح بعضهم ينظر إلى عمر نظرة إشفاق واحتقار يوم دخل المصنع فهم يعلمون مسبقا أن مصير عمر يشبه مصيرهم، سيظل فقيراً مثلما دخل فقيرا"(18). فقد تركعمر الدراسة ليلتحق بالعمل في المصنع في سن مبكرة. إنه الجوع مرة أخرى يهدد الكبار والصغار. وقد برع ديب في تصوير بؤس العمال. هذا البؤس الذي ارتبط بمحاولات المستعمر للقضاء على شخصية الجزائريين من خلال سياسة التجويع والقهر الدائمين. ومن خلال عمال مصنع النسيج، تتواصل المطالبة بالشخصية الوطنية والبحث عن الهوية فيصرخ أحد العمال حمدوش: "أنتم الشعب. الشعب الذي يصنع كل شيء ويعلم كل شيء"(19). لقد صارت هذه الشخصيات أكثر وعياً بمصيرها ومطالبها التي تتعدى الحصول على الخبز. بل هو الوطن المغتصب الذي على الجميع أن يسعى لاستعادته.
وهكذا فإن صورة الجزائر في ثلاثية محمد ديب لم تكتمل إلا بحديثه عن هويتها وعن الشعور بالوطنية الذي أظهرته شخصيات الثلاثية. يقول ديب:".. وما السر في اختيار عنوان الدرس والوطن. لماذا اغتاظ عمر عندما سمع إبراهيم ينطلق كالببغاء، فرنسا هي أمنا الوطن. هل كان يعلم أن فرنسا ليست بوطنه الحقيقي؟"(20). لقد أراد ديب أن يبين مدى تمسك الجزائريين بهويتهم وبوطنهم. يقول:" قال المعلم حسن: الوطن هو أرض الآباء، هو البلد الذي نسكنه منذ أجيال، هو كل ما على هذه الأرض من سكان وكل ما يوجد فيها بوجه الإجمال. ذلك هو الوطن وتلك هي شروط الوطنية فهل لعمر وطن وأين هو؟"(21). إن المعلم حسن يسعى لإيضاح مفهوم الوطن للأطفال، فشخصيات ديب صارت أكثر نضجا وإيمانا بأن الشعب وحده القادر على التغيير وإخراج المستعمر. إنها ثقته التي وضعها في شخصياته مصوراً بطولتها وهذا يجعل صورة البطولة في الثلاثية جماعية.
ومن هنا فقد كتب محمد ديب ثلاثيته محاولاً إبراز موقفه من ظروف الجزائر أثناء الفترة الاستعمارية راصداً الحالة الاجتماعية والسياسية آنذاك.
ومن الدلائل التي تؤكد الروح العربية والجزائرية للثلاثية، توظيف الروائي للعديد من التعابير العربية بلغة فرنسية. هذه العربية التي أراد الاستعمار وسعى كثيراً إلى القضاء عليها بكل الطرق. يقول ديب:" Maudite .maudis.tes père et mère "(22). (ملعونة. لعن الله أباك وأمك). ويقول:"La fièvre noire t’emporte "(23). (الحمة السوداء تأخذك). ويضيف أيضاً العديد من الكلمات والمصطلحات الجزائرية ومنها:"Tfou"(24). (لفظ يطلق للبصاق).و"Bouh"(25). (لفظ يدل على التحسر في اللهجة الجزائرية). و"Si"(26). (لفظ للدلالة على السيادة يستعمل في دول المغرب العربي). و"couscous"(27). Burnous"(28).Haik… "(29). (أسماء أكل وألبسة شائعة بالجزائر). كما يظهر في الثلاثية تجاهل ديب للحديث عن المستعمر.
ورغم اتخاذه من الفرنسية وسيلة للتعبير، إلا أن روح الثلاثية كانت عربية. وقد أشاد بالثلاثية كل الذين تناولوها بالدراسة مؤكدين على روحها العربية، تقول يمنى العيد : " إنها أجمل ما كتب ديب في الأدب الروائي الجزائري بل من أجمل الروايات في الأدب الواقعي. أقول العربية لأن الثلاثية وإن توسلت الفرنسية لغة، فهي في المنطق وفي روحية التعبير، رواية عربية. لذا لا أجد أي حرج في تقويمها كواحدة من الروايات العربية"(30). لقد غاص محمد ديب في الواقع الجزائري رغم اللغة الفرنسية التي لم يكتب إلا بها مؤكداً أنها ليست انتماء لفرنسا. إنها مجرد وسيلة تعبير، استطاع من خلالها تصوير ظروف الجزائر في فترة حالكة من تاريخها تحت وطأة الاستعمار الفرنسي بكل جبروته .
إن ثلاثية محمد ديب تظل من النصوص الروائية الهامة في الأدب الجزائري، وتظل أيضاً دليلاً على انتمائها لهذا الأدب رغم توظيفها للغة الفرنسية. ويبقى الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية رافداً هاما للثقافة الجزائرية.
ــــــــــ
هوامش:
1- بن سمينة، محمد.في الأدب الجزائري الحديث.النهضة الأدبية الحديثة.مؤثراتها،بدايتها مراحلها.مطبعة الكاهنة.الجزائر. 2003.ص8-9.
2- المرجع نفسه.ص14.
3- بعلي،حفناوي.أثر الأدب الأمريكي في الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية.دار الغرب للنشر.بدون سنة وطبعة.ص90-91.
4- المرجع نفسه.ص16.
5- محمد خضر،سعاد.الأدب الجزائري المعاصر.المكتبة العصرية.بيروت.بدون سنة وطبعة.ص175.
6- دوغان،أحمد.شخصيات من الأدب الجزائري.م و للكتاب.الجزائر.ص71.
7- محمد خضر،سعاد.المرجع السابق.ص191.
8- المرجع نفسه.ص205.
9- المرجع نفسه.ص85.
10-الأعرج،واسيني.اتجاهات الرواية العربية.م و للكتاب.الجزائر.ص71.
11-ديب،محمد.الدار الكبيرة.ت/سامي الدروبي.دار الطليعة للطباعة والنشر.بيروت.ط 1. 1968.ص05.
12-الدار الكبيرة.ص21.
13-عكاشة،شايف.نظرية الأدب.ديوان المطبوعات الجامعية.ج3.ص22.
14-الدار الكبيرة.ص46.
16-الدار الكبيرة.ص116.
17-ديب،محمد.الحريق.ت/سامي الدروبي.دار الهلال .نوفمبر1970.ص11.
18-عكاشة،شايف.المرجع السابق.ص51.
19-ديب،محمد.النول.ص22.
20-المرجع نفسه.ص51.
21-الحريق.ص32.
22- Mohamed Dib. La grande maison. Edition du seuil .1957.p 16.
23-الدار الكبيرة.ص67.
24-الدار الكبيرة.ص45.
25-الدار الكبيرة.ص66
26-L’incendie .p85.
27-L’incendie. P48.
28-Mohamed Dib. Le métier a tisser. Edition du Seuil. 1957. P11.
29-Le métier a tisser .p 25.
30-العيد، يمنى.فن الرواية العربية.بين خصوصية الخطاب وتميز الحكاية.دار الآداب.ط1. 1998.ص53-54.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كريمة الابراهيمي / الجزائر
عن:مجلة دليل الكتاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق